الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
1333 -
[1] عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1547، م: 690].
ــ
والإتمام، فأخذا لأنفسهما بالشدة، ورجح هذا الوجه جماعة، منهم القرطبي، ويؤيده ما روى البيهقي من طريق عروة بن الزبير حديثًا أنه قال: رأيت عائشة رضي الله عنها تصلي في السفر أربعًا، فقلت: يا أم المؤمنين! هلا صليت ركعتين، قالت: يا ابن أختي لا يشق علي.
وبالجملة المسألة مختلف فيها بأن القصر واجب أو رخصة، وذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح، وذهب بعض السلف إلى أنه يشترط في القصر الخوف في السفر، وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد، وبعضهم كونه سفر طاعة، وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله أن القصر واجب سواء كان فيه مشقة أو لا، وسائرًا كان أو نازلًا أو آمنًا، ويكون سفر طاعة أو معصية، ووافقه في الأخير الثوري؛ وهكذا حكم سائر الرخص.
الفصل الأول
1333 -
[1](أنس) قوله: (صلى الظهر) أي: في اليوم الذي أراد الخروج إلى مكة لحجة الوداع، وصلى العصر في ذلك اليوم بذي الحليفة -بضم الحاء المهملة وفتح اللام-: موضع على خمسة أو ستة أميال من المدينة، ميقات أهل المدينة والشام.
وقوله: (ركعتين (1)) مفعول (صلى)، فعلم أن المسافر يقصر.
(1) لأَنَّهُ كَانَ فِي السَّفَرِ. اعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ إِلَّا بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ بُنْيَانَ الْبَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، =
1334 -
[2] وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1656، م: 696].
ــ
1334 -
[2](حارثة بن وهب الخزاعي) قوله: (ونحن أكثر ما كنا قط وآمنه بمنًى ركعتين) إعراب هذا التركيب يحتاج إلى بيان وفيه وجوه، أحدها: أن قوله: (ونحن أكثر) جملة حالية أو معترضة بين (صلى) ومعموله الذي هو (بمنى ركعتين)، فإن رفع (أكثر) وهو أظهر على أنه مبتدأ وخبره محذوف، وجعل (ما) مصدرية، و (آمنه) بصيغة التفضيل عطفًا على (أكثر)، وكان تامة، فالتقدير: نحن أكثرُ زمان أكواننا وآمنُه حاصلٌ، ويجوز أن يكون (ما) موصوفة كناية عن العدد، ويكون (أكثر) خبرًا لـ (نحن)، والتقدير: ونحن أكثر عددًا من عدد كنا قبل إياه، ويشكل على هذا وجود (قط) فإنه للنفي، فقيل: إنما جيء به لاشتمال الكلام على معنى النفي أو مقدر النفي، والتقدير: ما كنا وقت أكثر قط، وإن نصب (أكثر) جعل خبرًا لـ (كنَّا)، و (ما) نافية، ويجوز عمل ما بعد (ما) فيما قبلها وهو ضعيف، هذا وقد يجعل (آمنه) بلفظ الماضي أي: آمنه اللَّه عطفًا على (صلى)، أو حالًا بتقدير قد، فتدبر. وقد يروى (أَمَنَةً) جمع آمن على وزن طلبة جمع طالب منصوبًا على الحالية، ودل الحديث على جواز القصر في السفر من غير خوف، وهو مصرح في الحديث الثاني.
= وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يقصُرُ إِذَا كَانَ مِنَ المصرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يقصُرَ مِنْ مَنْزِلِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّا لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ لَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاحْتَجَّ بِهِ الظَّاهِرِيَّةُ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُمْ؛ لأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ قَاصِدًا مَكَّةَ، لَا أَنَّ ذَا الْحُلَيْفَةِ غَايَةُ سَفَرِهِ. "مرقاة المفاتيح"(3/ 999).
1335 -
[3] وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُميَّةَ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ. قَالَ عُمَرُ: عَجبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 686].
1336 -
[4] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، قِيلَ لَهُ: أَقَمْتُمْ بِمَكَّة شَيْئًا؟ قَالَ: "أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1081، م: 693].
ــ
1335 -
[3](يعلى بن أمية) قوله: (عجبت مما عجبت منه) الأول بلفظ التكلم، والثاني بلفظ الخطاب، ويحتمل العكس، والرواية هي الأولى.
وقوله: (فاقبلوا صدقته)(1) أي: اقصروا، وأما التقييد في الآية فقد خرج مخرج العادة وباعتبار الأغلب، فإن الغالب من حال المسافرين الخوف خصوصًا في ذلك الزمان؛ لأن أعداء اللَّه كانوا في صدد إيذائهم وإهلاكهم، ومفهوم المخالف لا اعتبار له إذا خرج مخرج العادة، وقد تقرر ذلك في أصول الفقه.
1336 -
[4](عن أنس) قوله: (أقمنا بها عشرًا)، هذا في حجة الوداع؛ فإنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدموا فيها مكة لصبح رابعة ذي الحجة، وخرج منها في اليوم الثامن إلى منى، وصلى الظهر بها، ثم خرج صبح الرابع عشر إلى المدينة، فإن قلت: فعلى هذا لم يكن إقامته بمكة إلا أربعة؟ قلت: نعم، والمراد أن هذه الإقامة بمكة وحواليها عشرة.
(1) ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ، فَيُؤَيِّدُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ وَالإِتْمَامُ إِسَاءَةٌ. وَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَكْثَرُهُمْ عَلَى وُجُوبِ الْقَصْرِ، وَرَدُّ ابْنِ حَجَرٍ عَلَيْهِ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ. "مرقاة المفاتيح"(3/ 1000).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
واعلم أن المذهب عندنا أن من نوى الإقامة مدة خمسة عشر يومًا أو أكثر أتم الصلاة، ويقصر إن نوى أقل من ذلك، وإن لبث أكثر من خمسة عشر من غير نية لا يصير مقيمًا ولو أقام أشهرًا أو سنين، وهذا التقدير مروي عن ابن عباس وعن ابن عمر رضي الله عنهم أخرجه الطحاوي عنهما قائلًا بأن إذا أقمت ببلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها، وكذا روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه إذا جمع على إقامة خمسة عشر أتم.
وقال محمد في (كتاب الآثار)(1): حدثنا أبو حنيفة رحمة اللَّه عليه، حدثنا موسى ابن مسلم عن مجاهد عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال: إذا كنت مسافرًا فوطّنت نفسك على إقامة خمسة عشر يومًا فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصر، قالوا: والأثر في مثله كالخبر لأنه لا مدخل للرأي في المقدرات الشرعية، وأما قول صاحب (الهداية): فقدرناه بمدة الطهر؛ لأنها مدتان موجبتان، فمعناه أن بعد ثبوت التقدير بالخبر وجدناه على وفق صورة قياس ظاهر، فرجحنا به المروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم على المروي عن عثمان رضي الله عنه أنها أربعة أيام، كما هو مذهب الشافعي رحمه الله من أنه إن نوى الإقامة أربعة أيام فصاعدأ أتم، كما هو دأبنا في التمسك بالقياسات والدلائل العقلية، إنما هو لترجيح بعض الأخبار على بعض لا قياس في مقابلة النص، كما زعم الخصم، وأيضًا الحديث المذكور الناطق بالقصر مع الإقامة بمكة عشرًا ينفي هذا التقدير؛ لأن الإقامة بمكة كان بنية الزيادة على أربعة؛ لأن الحديث إنما هو في حجة الوداع، فافهم.
(1)"كتاب الآثار"(1/ 489).
1337 -
[5] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَافَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَفَرًا، فَأَقَامَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُصَلِّي. . . . .
ــ
وهذا مذهب الشافعي رحمه الله في النية، وأما مذهبه في عدم النية واللبث ببلد مع العزم على الخروج حتى انقضى شغله فإنه يقدره بثمانية عشر يومًا، فإن ازداد على هذه المدة أتم، ويرده إقامة ابن عمر رضي الله عنهما بآذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة يقول: أخرج اليوم أو غدًا، يقولون في جوابه: إنه كانت إقامته في بقاع متفرقة، ولم يقم في مكان واحد أكثر من ثلاثة أيام، واللَّه أعلم.
وقال الشيخ ابن الهمام (1): روى البيهقي في (المعرفة) بإسناد صحيح أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ارتج علينا الثلج، ونحن بآذربيجان ستة أشهر، فكنا نصلي ركعتين، وهذا يدل على أنه كان مع غيره من الصحابة يفعلون ذلك، وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال: كنا مع عبد الرحمن بن سمرة ببعض بلاد فارس سنتين، فكان لا يجمع ولا يزيد على ركعتين، وأخرج عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان مع عبد الملك بن مروان بالشام شهرين يصلي ركعتين ركعتين.
1337 -
[5](ابن عباس) قوله: (فأقام تسعة عشر يومًا) هذا في غزوة الفتح، فلا منافاة بينه وبين حديث أنس، ثم أنه جاء في رواية أبي داود عن عكرمة سبعة عشر بتقديم السين يقصر الصلاة، وفي رواية له من حديث عمران بن الحصين: غزوت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة، لا يصلي إلا ركعتين، وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد اللَّه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أقام بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة، وجمع البيهقي بين هذه الروايات بأن من قال: تسع عشرة عدّ يومي
(1)"فتح القدير"(2/ 36).
رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَحْنُ نُصَلِّي فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا أَقَمْنَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلَّيْنَا أَرْبَعًا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 1080].
ــ
الدخول والخروج، ومن قال: سبعة عشر حذفهما، ومن قال: ثمانية عشر عد أحدهما وحذف الآخر، وأما رواية خمسة عشر فضعفها النووي في (الخلاصة)، قال الشيخ (1): وليس -يعني تضعيفه- بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد اللَّه كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة، قالوا: وأخذ الشافعي رحمة اللَّه عليه بحديث عمران بن حصين، فتدبر.
وقوله: (فنحن نصلي فيما بيننا وبين مكة تسعة عشر ركعتين ركعتين) يعني إذا ثبت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي في إقامة تسعة عشر يومًا ركعتين ركعتين، فنحن إذا اتفق لنا الإقامة في منزل بين مكة والمدينة تسع عشر يومًا نصلي ركعتين عملًا بفعله القصر في إقامته تسعة عشر يومًا، وهذا تقرير الطيبي (2)، وفي شرح الشيخ: المراد إذا سافرنا سفرًا طويلًا كما بيننا وبين مكة؛ لأنها نهاية المدة التي يجوز للمسافر فيها القصر وإن لم يكن السفر فيهما، انتهى. يعني التقييد بما بيننا وبين مكة اتفاقي، والمقصود التعبير عن السفر الطويل، وعند الشافعي رحمه الله نهاية مدة القصر إقامة تسعة عشر، وفيما زاد الإتمام كما ذكرنا من مذهبه تمسكًا بهذا الحديث.
(1) انظر: "فتح الباري"(2/ 562).
(2)
انظر: "شرح الطيبي"(3/ 192).
1338 -
[6] وَعَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَصَلَّى لَنَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ رَحْلَهُ وَجَلَسَ فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا فَقَالَ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ قُلْتُ: يُسَبِّحُونَ، قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا أَتْمَمْتُ صَلَاتِي، صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1101، 1102، م: 689].
ــ
1338 -
[6](حفص بن عاصم) قوله: (يسبحون) أي: يصلون نفلًا يحتمل الراتبة وغيرها.
وقوله: (لو كنت مسبحًا أتممت صلاتي) أي: الفريضة أي: لو تنفلت الرواتب لكان إتمام فريضتي أحب، فالفرائض لما قصرت كان ترك النوافل أولى، وأجابوا عن قول ابن عمر رضي الله عنهما هذا بأن الفريضة متحتمة، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها بخلاف النافلة فإنها شرعت مع التخيير، فالرفق فيه أن تكون مشروعة، ويكون للعبد اختيار، كذا في (فتح الباري)(1) نقلًا عن النووي. رأى ابن عمر رضي الله عنهما عدم استحباب السنن الرواتب وغيرها، ويروى عنه عدم المنع والإنكار أيضًا كما يأتي في آخر (الفصل الثالث) برواية مالك رحمه الله: أنه كان يرى ابنه يتنفل في السفر فلا ينكره، وأجاز الجمهور من الصحابة من بعدهم بدليل الأحاديث الصحيحة المطلقة في مذهبها، وقيل: اتفقوا على استحباب النوافل المطلقة، وإنما الاختلاف في الرواتب، والمجوزون للرواتب قاسوها على النوافل المطلقة، وبعضهم فرقوا بين حالتي السير والنزول، وبعضهم بين النوافل قبل الصلاة وبعدها بأن التي قبلها مفصولة عن الفرض بالإقامة فلا يظن أنها منها، فكأنها خرجت من حكم الرواتب بخلاف التي بعدها فإنها متصلة بها صورة ومعنى، وقد ثبت
(1) انظر: "فتح الباري"(2/ 577).
1339 -
[7] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَين صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 1107].
ــ
فعله صلى الله عليه وسلم الرواتب والمطلقة وصلاة الضحى يوم فتح مكة كركعتي الفجر وكركعتي الظهر قبلها وبعدها كما يأتي في حديثه الآتي في (الفصل الثاني).
وقال الطيبي (1): لعله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله، ولا يراه ابن عمر رضي الله عنهما، ولعله تركها أيضًا في بعض الأحيان تعليمًا بجواز الترك، واللَّه أعلم. فالمراد بقوله:(كان لا يزيد في السفر على ركعتين) غالبُ الأحوال، وبهذا يندفع أيضًا ما استشكل من ذكر عثمان ههنا بأنه كان يتم في آخر أمره كما سيأتي، ويروى عن أصحابنا الحنفية في السنن ثلاثة أقوال: الإتمام، والقصر، والترك، والأول هو المختار.
1339 -
[7](ابن عباس) قوله: (يجمع بين الظهر والعصر)(2) يشتمل جمع التأخير والتقديم.
وقوله: (إذا كان على ظهر سير) يحتمل أن يكون المراد به مطلق السفر، أو كونه في حالة السير، فيؤيد مذهب من قال: إن الجمع على تقدير كونه في حالة السير دون حالة النزول كما ستعرف، ولفظ الظهر مقحم للتأكيد لأنه يشير إلى سيره صلى الله عليه وسلم كان مستندًا إلى ظهر قوي للمطي والركاب كما في قوله: أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وقال
(1)"شرح الطيبي"(3/ 192).
(2)
وَالْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وأحمد بالجمع الحقيقي، وروايات المالكية مضطربة، وَهُوَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى القول بالجمع الصوري على أَنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ فِي آخِرِ وَقْتِهِ وَالْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ. كذا في "التقرير"، وَبُسِطَ هَذَا الْمَبْحَثُ فِي "البذل"(5/ 346 - 354) فارجع إليه.
1340 -
[8] وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ. . . . .
ــ
الطيبي (1): والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعًا للكلام وتمكينًا.
1340 -
[8](ابن عمر) قوله: (يصلي في السفر على راحلته) الحديث يدل على حكمين، أحدهما: أن جواز الصلاة على الدابة مخصوص بالنوافل، وأرادوا بها ما يشمل الرواتب وغيرها وكذا التهجد، وهذا الحديث خص بذكر صلاة الليل، ووردت أحاديث أخر عامة، وعن أبي حنيفة أنه ينبغي أن ينزل لسنة الفجر لأنها آكد من سائرها، وفي رواية: يجب النزول لها، ولهذا لم يجز أن يصليها قاعدًا بلا عذر، وأما الفرائض فلا يصليها على الدابة بلا عذر، ومن الأعذار أن يكون في بادية يخاف الهلاك على نفسه وماله عن السبع واللص بغالب الظن، أو بعد القافلة أو ضلال الطريق، أو تكون الدابة جموحًا لا يتيسَّر ركوبه بعد النزول، أو يكون المصلي شيخًا كبيرًا ضعيفًا لا يمكن له الركوب، ولا يجد من يعينه ويحمله على الدابة، أو يكون هناك طين لا يمكن الصلاة عليه. ويجوز بعذر المطر ونحوه أيضًا؛ لأن الضرورات مستثناة من قواعد الشرع كذا في شروح (الهداية).
وقال في (سفر السعادة)(2): إنه جاء في حديث مستقيم الإسناد: انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فحضرت الصلاة فأمر المؤذن فأذن فأقام، ثم تقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على راحلته فصلى بهم يومئ إيماء، فجعل السجود أخفض.
وأما الوتر فقد دل هذا الحديث على جوازه على الراحلة، وأورد محمد في
(1)"شرح الطيبي"(3/ 193).
(2)
"سفر السعادة"(ص: 130).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
(موطئه) آثارًا كثيرة عن ابن عمر رضي الله عنهما وغيره من الصحابة والتابعين أنهم كانوا ينزلون للوتر، وأورد عن مجاهد قال: صحبت ابن عمر رضي الله عنهما من مكة إلى المدينة، فكان يصلي الصلوات كلها على راحلته متوجهًا إلى جهة المدينة ويومئ بركوع وسجود، وجعل سجوده أخفض إلا الفرائض والوتر، فإنه كان ينزل لهما، فسألته عن ذلك فقال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعل كذلك.
وقال الشُّمُنِّي: ولا يجوز صلاة الجنازة والمنذور وسجدة التلاوة التي قرأها على الأرض.
وثانيهما: أن الصلاة على الدابة يشرط لها السفر، وعليه الجمهور، وهو رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما اللَّه؛ لأن جوازها إنما هو للضرورة لئلا تنقطع القافلة، والنافلة مخصوصة بحالة السفر، والصحيح من مذهب أبي حنيفة رحمه الله أن الشرط كون المصلي خارج المصر سواء كان مسافرًا أو غير مسافر لتحقق بعض الضرورات فيه أيضًا من غير سفر، ونحن نقول: الأحاديث الواردة في الباب بعضها مطلق، وبعضها مقيد بالسفر، فان لم يحمل المطلق على المقيد كما هو المذهب عندنا سقط قيد السفر، وإن حمل ببعض القرائن والدلائل مثلًا لزم التقييد بالسفر، ويكون التجويز خارج المصر بالقياس أو دلالة النص، ولعل ورود الروايتين، وأصحية رواية الإطلاق تنشأ من هذه النكتة، ثم المسافر إن كان داخل المصر لم يجز له التنفل على الدابة عند أبي حنيفة، وقال محمد: يجوز ويكره، وقال أبو يوسف: لا بأس به؛ لأنه روي أنه صلى الله عليه وسلم ركب الحمار في المدينة يعود سعدَ بْنَ عبادة، وكان يصلي وهو راكب، كذا في شرح (الهداية)(1).
(1) انظر: "فتح القدير"(1/ 463).
تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إِيمَاءً صَلَاةَ اللَّيْلِ إِلَّا الْفَرَائِضَ، وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ (1). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1096، م: 700].
ــ
ثم اختلفوا في مقدار بعد المسافة خارج المصر حتى يجوز له، فقيل: فرسخان أو ثلاثة فراسخ، وعند البعض يكفي مقدار ميل، والصحيح أنه يجوز بعد مفارقة بيوت البلد كما في جواز القصر.
وقوله: (حيث توجهت) لكنه يتوجه إلى القبلة عند تكبيرة الإحرام كما يأتي في حديث أنس وهو المذهب.
وقوله: (يومئ) بالهمزة ذكره صاحب (القاموس): ومأ في (باب الهمزة) وكذا أومأ بالهمزة، نعم قد يخفف فتبدل ألفًا في الماضي وياء في المضارع كما في بعض النسخ، واللَّه أعلم.
وقاس أئمة الشافعية الماشي على الراكب فجوَّزوا له أن يحرم بالصلاة للقبلة، ثم يتحول لقصده ويمشي، ثم ينحرف ويركع للقبلة، ثم يمشي لقصده، ثم ينحرف ويسجد، ثم يجلس، ثم يسجد للقبلة، ثم يمشي لجهة مقصده، وهكذا حتى يتشهد ويسلم ماشيًا إلى جهة مقصده، كذا في شرح الشيخ، وفي (الهداية) (2): وإن افتتح راكبًا ثم نزل يبني، وإن صلى ركعة نازلًا ثم ركب استقبل، وعن أبي يوسف يستقبل
(1) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوِتْرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا يَتَمَشَّى إِذَا اتَّحَدَ مَعْنَى الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَالْوَجْهُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُحكَمَ الْوِتْرُ، وَيُؤَكَّدَ، ثُمَّ أُكِّدَ مِنْ بَعْدُ وَلَمْ يُرَخَّصْ فِي تَرْكِهِ، وَقَالَ: ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَيُوتِرُ بِالأَرْضِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ. "مرقاة المفاتيح"(3/ 1002).
(2)
"الهداية"(1/ 70).