الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
1014 -
[1] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَحَدُكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى؟ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1232، م: 389].
ــ
السهو منه صلى الله عليه وسلم إدراك شرف الاتِّباع والاقتداء، ولا يحصل ذلك إلا به.
واعلم أن جواز السهو والنسيان على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الأقوال فيما يتعلق بالإخبار والإبلاغ غير جائز، واختلفوا في الأفعال من الصلاة وغيرها، والمختار عند أهل الحق جوازه، لأنه قد دلت عليه الأحاديث الصحيحة فلا بد من القول بها، ولا بأس فيه، ولا يلزم محذور، بل يتضمن الحكمة كما ذكر.
الفصل الأول
1014 -
[1](أبو هريرة) قوله: (فلبس عليه) بالتخفيف، أي: خلط الشيطان عليه أمر صلاته وشوّش خاطره، وربما يشدّد للتكثير من اللَّبْس بالفتح بمعنى الخلط والتشكيك والتمويه، من باب ضرب يضرب، من لَبَسْتُ الأمر بالفتح أَلْبِسه بالكسر: إذا خلطت بعضه ببعض، ومنه:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} ، وأما اللُّبس بالضم بمعنى لُبس الثوب فهو من باب سمع يسمع.
وقوله: (فليسجد سجدتين)(1) ويسنُّ فيهما من الذكر ما في سجدتي الصلاة، وقيل: يسن أن يقول فيهما: سبحان من لا يسهو ولا ينام.
(1) مسنون عند الشافعي، واجب عند أحمد، وأبي حنيفة على المشهور، وقيل: مسنون. وعند مالك واجب في النقصان دون الزيادة. كذا في "التقرير".
1015 -
[2] وَعَنْ عَطَاءَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ،
ــ
واعلم أن هذه صورة الشك والتردد في الفرق بين الشك والسهو بأن في السهو والنسيان يجزم بجانب واحد، وفي الشك متردد لا يدري كم صلى، قالوا: ولم يقع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الشك أبدًا، لأنه من تلبيس الشيطان كما نطق به الحديث، ووقع في السهو والنسيان لغلبة الاستغراق والتوجه، وهو وإن كان خلاف الواقع ولكنه كان لا يُقَرَّر عليه، ويُنَبَّه على ما في الواقع، فبيَّن للأمة حكم الشك كما في الحديث الآتي فقال:(إذا شك أحدكم في الصلاة) أي: تردَّد شاملًا لصورة الرجحان والمساواة.
1015 -
[2](عطاء بن يسار) قوله: (فليطرح الشك) أي: المشكوك، والمراد بـ (ما استيقن) الأقلُّ.
وقوله: (ثم يسجد) بالجزم والرفع، والأول أظهر.
وقوله: (قبل أن يسلم) وفي رواية الترمذي: قبل التسليم، وليس في رواية البخاري ومسلم هذا القيد، وسيجيء الكلام في الاختلاف في أن سجدتي السهو قبل السلام أو بعده.
وقوله: (فإن كان صلى خمسًا) أي: إن شك في أنه صلى ثلاثًا أو أربعًا فبنى على الثلاث، فضم ركعة، فإن كان الواقع أنه كان صلى أربعًا وضم إليه الركعة صارت خمسًا.
وقوله: (شفعن له صلاته) أي: جَعَلْن هذه الركعات الخمس للمصلي بهذين
وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لِأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 571].
وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلًا. وَفي رِوَايَتِهِ: "شَفَعَهَا بِهَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ". [ط: 62].
ــ
السجدتين صلاتَه شفعًا، أي: ستًّا، بجعل السجدتين في حكم ركعة أخرى، وإن كان ثلاثًا فصارت بضم الركعة أربعًا فيكون قد صلاها لإتمام الأربع، وعلى هذا لا تكون السجدتان محتاجًا إليهما، ولكن كانتا ترغيمًا وتذليلًا للشيطان لمضادته في التلبيس والتخليط.
وقوله: (شفعها) أي: جعل المصلي الركعات الخمس بهاتين السجدتين شفعًا.
ثم اعلم أن ظاهر هذا الحديث يدل على أنه يبني على ما استيقن ولا يعمل بالتحري وهو مذهب الجمهور، وقال الترمذي (1): وعند بعض أهل العلم في صورة الشك يعيد الصلاة، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يعيد إن شك أول مرة (2) -أي: لم يكن الشك عادة له- وإلا تحرى بالظن الغالب، ويعمل به، وبعد التحري إن لم يحصل غلبة الظن في جاثب واحد بنى على الأقل وسجد للسهو، لأن البناء على الظن الغالب أصل مقرَّر في الشرع كما في القبلة ونحوها، وقد جاء في الصحيحين (3) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم فليتحر الصواب وليتم عليه) كذا أورده الشُّمُنِّي، وفي
(1)"سنن الترمذي"(396).
(2)
اختلفوا في تفسير أول مرة في هذا المقام فقيل: معناه أول سهو وفع في عمره، وقال شمس الأئمة رحمه الله: معناه لم يصر السهو عادة، وقال فخر الإسلام: أول سهو وقع في هذا الصلاة كذا قال الشُّمُنِّي، وقالوا: المختار هو القول الثاني. كذا في "المرقاة"(2/ 798).
(3)
"صحيح البخاري"(401)، و"صحيح مسلم"(572).
1016 -
[3] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ ! قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا،
ــ
(جامع الأصول)(1): من حديث النسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه: "من أوهم في صلاته فليتحر الصواب، ثم يسجد سجدتين بعد ما يفرغ وهو جالس".
وقال محمد رحمه الله في (الموطأ)(2): إن الآثار في باب تحرِّي غالب الظن كثيرة، وقال: إن لم يفعل كذلك فالنجاة من السهو والشك متعذر، وفي الإعادة في صورة كثرة الشك والاعتياد به حرج عظيم.
والحاصل: أنه قد ثبت في هذا الباب أحاديث ثلاثة، أحدها: إذا شك أحدكم في الصلاة فليستأنف أو كما قال، وثانيها: من شك في صلاته فليتحر الصواب، وثالثها: هذا الحديث الذي في الكتاب الناطق بالبناء على ما استيقن، فجمع أبو حنيفة رحمه الله بينها بحمل الأول على عروض الشك أول مرة، والثاني على صورة وقوع التحري على أحد الجانبين، والثالث: على عدم وقوع التحري عليه، وهذا كمال الجامعية الذي ابتنى مذهب أبي حنيفة رحمه الله عليه، فإن قلت: الشك تساوي الطرفين، فغلبة الظن لا يدخل فيها، قلنا: هذا اصطلاح حادث، وفي اللغة والشرع الشك يقابل اليقين فيشمل الظن والوهم أيضًا كما أشرنا إليه في أول الكلام.
1016 -
[3](عبد اللَّه بن مسعود) قوله: (وما ذاك) أي: وما قولكم: (أزيد في الصلاة)؟ يعني: لأي سبب تقولون ذلك؟
(1)"جامع الأصول"(5/ 550).
(2)
"التعليق الممجد"(1/ 124).
فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمِ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ ثمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 401، م: 572].
ــ
وقوله: (فسجد سجدتين) إما لأنه تذكر الحال أو اعتمد على قولهم.
وقوله: (فليتم عليه) أي: يتم ما بقي مبنيًّا على التحري، وقيل: معناه: أمضاه، يقال: تم على أمره وأتم، أي: أمضاه.
وقوله: (ثم يسجد) بالجزم، وفي بعض النسخ المصححة بالرفع، وفي مذهب الحنفية في هذه الصورة تفصيل، وهو أنه إن سها عن القعدة الأخيرة وقام للركعة الخامسة رجع إلى القعدة ما لم يسجد للركعة الخامسة، وإن سجد لها بطل فرضه بوضع الجبهة على الأرض عند أبي يوسف وبرفعه عنها عند محمد، وهو المختار، بطل فرضه، وألغى الخامسة، وإن قعد الأخيرة فقام قبل أن يسلم رجع إلى القعدة وسلم ما لم يسجد للخامسة، وإن سجد تَمَّ فرضه، وضم إليها السادسة، ويستحسن أن يسجد للسهو عن السلام، ظاهر الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يضم واكتفى بالسجدة للسهو.
ونقل الكرماني في (شرح صحيح البخاري (1)) عن الخطابي أنه قال: لعل هذا الحديث لم يبلغ أهل الكوفة حيث ذهبوا إلى أنه إن لم يقعد قدر التشهد فسدت صلاته ويلزمه الاستئناف، وإن قعد تمت صلاته، والخامسة نفل، ويلزمه أن يضم معه سادسة ويتشهد ويسلم ويسجد، وهذا الكلام تعريض على علمائنا مع نوع من الاعتذار حتى لا يلزمهم مخالفة السنة بعد العلم بها، والحاصل: أن الحديث يدل على أن في صورة
(1)"شرح الكرماني"(4/ 65).
1017 -
[4] وَعَن ابْن سِيرِين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَي الْعَشِيِّ -قَالَ ابْنُ سِيرِين: قَدْ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا-، قَالَ: فَصَلَّى بِنَا رَكعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ. . . . .
ــ
زيادة الركعة الخامسة مطلقًا السجدة فقط، والصلاة صحيحة كما هو مذهب الشافعي رحمه الله، ولم يدل على هذا التفصيل الذي هو في مذهب الحنفية.
والجواب: أن لفظ الحديث يصدق مع ترك القعدة ومع فعلها، والحمل على الثاني أرجح وأقرب، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يترك القعدة الأخيرة لكونها ركنًا، فجواز الصلاة على تقدير تركه بعيد، فهذا الحديث مخصوص بصورة فعل القعدة الأخيرة والسهو في السلام، وأما ضم السادسة فبحديث نهي فيه عن البتيراء، فتدبر.
1017 -
[4] قوله: (عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: صلى بنا) أي: أمَّنا، وقد يجيء اللام مكان الباء.
وقوله: (إحدى صلاتي العشي) العشي بكسر الشين وتشديد الياء من حين نزول الشمس إلى أن تغيب، وهكذا في روايات البخاري، وفي بعضها:(الظهر أو العصر)، وفي بعضها:(الظهر) بالتعيين، وفي رواية مسلم:(إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر).
وقوله: (وقال ابن سيرين: قد سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا) وجاء في بعض الروايات أنه قال: الغالب على الظن أنه قال: صلاة العصر، وقيل: الشك من أبي هريرة، وتعيينه من بعض الروايات باعتبار غلبة الظن.
وقوله: (معروضة) أي: موضوعة بالعرض، وقيل: أي: مطروحة، من عرضت الخشبة على الإناء أي: طرحتها عليه.
فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَخَرَجَتْ سَرْعَانُ النَّاسِ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا: قُصِرَتِ الصَّلَاةُ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما، فَهَابَاهُ أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُل فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَدَيْنِ، قَالَ: يَا رَسُول اللَّهَ! أَنَسِيْت أَمْ قُصِرَتِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: "لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ" فَقَالَ: "أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ ". . . . .
ــ
وقوله: (في المسجد) وليس في بعض الأصول، ولكنه واقع في (صحيح البخاري)، كذا في الحاشية، وفي رواية:(خشبة في مقدم المسجد)، وفي أخرى:(في قبلة المسجد)، وفي أخرى:(إلى جذع في قبلة المسجد)، ولعله الذي كان يخطب متكئًا عليه قبل اصطناع المنبر، وهو الذي حنّ على فراقه صلى الله عليه وسلم، واللَّه أعلم.
وقوله: (سرعان الناس) وفي بعض النسخ: (سرعان القوم) فاعل (خرجت)، وهو بفتح السين والراء: أوائل الناس، ويجوز إسكانها، وضبطه الأصيلي بضم وسكون وهو الأشهر، والمراد: الذين يخرجون من الناس سريعًا من غير توقف للذكر والدعاء، وفي حديث حُنينٍ: فخرج سرعان الناس وأخفَّاؤهم.
وقوله: (قصرت) بضم القاف وكسر الصاد، وروي بفتح القاف وضم الصاد، والأول أصح وأشهر، كذا نقل عن بعض شروح البخاري، وفي شرح الشيخ عن النووي: أن الثاني أكثر وأرجح، وعلى الوجهين يضبط قوله في الجواب:(ولم تقصر) معروفًا ومجهولًا.
وقوله: (وفي القوم رجل في يديه طول يقال له: ذو اليدين) اسمه عمير بن عبد عمرو، وقيل: اسمه خرباق بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء وبالموحدة والقاف،
فَقَالُوا: نَعَمْ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعِ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، فرُبَّمَا سَأَلُوهُ: ثُمَّ سَلَّمَ، فَيَقُولُ: نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 6051، م: 573].
ــ
وكنيته أبو محمد، وقيل: خرباق اسم رجل آخر يقال له: ذو الشمالين، وقيل: خرباق غير ذي اليدين وغير ذي الشمالين، وفي شرح "الموطأ" لمحمد: ذو اليدين رجل من بني سليم يقال له: الخرباق، وهو غير ذي الشمالين، قال ابن منده: ذو اليدين رجل من أهل وادي القرى، أسلم في آخر زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والسهو كان بعد أحد، وقد شهده أبو هريرة، وأبو هريرة شهد زمن النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين، وذو اليدين من بني سليم، وذو الشمالين من أهل مكة قتل يوم بدر قبل السهو بست سنين، وهو رجل من خزاعة حليف بني أمية، ومات ذو اليدين بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال: ووهم فيه الزهري فجعل مكان ذي اليدين ذا الشمالين، وعليه بناء القول بالنسخ، لكنه وهم، وبالجملة اختلف فيه اختلافًا كثيرًا، والتحقيق ما نقلناه (1)، واللَّه أعلم.
وقوله: (فربما سألوه) أي: ابنَ سيرين.
وقوله: (ثم سلم) أي: رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فيقول) أي: ابنُ سيرين في الجواب عن قولهم: (نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم) أي: سُئل ابن سيرين هل: بعد سجدتي السهو تسليم؟ فقال: لم أحفظ من أبي هريرة في التسليم بعد السجدتين شيئًا، لكن أُخبرت أن عمران بن
(1) وعند الحنفية ذو اليدين وذو الشمالين واحد، والشافعية غايروا بينهما. بسطه في "البذل" وهامشه (4/ 594 - 608).
وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ، وَفِي أُخْرَى لَهُمَا: . . . . .
ــ
حصين قال: ثم سلم، وجاء في رواية أنه سئل ابنُ سيرين: هل في سجدتي السهو تشهد؟ قال: ليس في حديث أبي هريرة تشهد، وأَحبُّ إلي أن يتشهد، وسيجيء في الفصل الثاني من حديث عمران بن حصين أنه تشهد ثم سلّم.
ثم اعلم أن لشراح الحديث في بيان علوم هذا الحديث كلامًا طويلًا، واستوفاه الشيخ في (فتح الباري)(1) ولو ثقلناه جميعًا لطال الكلام، ولكن نورد ههنا كلامين يهمّ نقلهما: أحدهما في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل ذلك لم يكن) أي: لا قصرٌ ولا نسيان، وهذا إخبار على خلاف الواقع. وقد أجمعوا على عدم جواز السهو في الأخبار، والخلاف إنما هو في الأفعال، والثاني في وقوع التكلم وأفعالٍ أُخر منه صلى الله عليه وسلم مع إتمام الصلاة وعدم استئنافها.
وقيل في الجواب عن الإشكال الأول: إن عدم جواز النسيان في الأقوال والأخبار إنما هو إذا كان متعلقًا بتبليغ الشرائع والوحي لا في جملة الأخبار، وهذا الجواب ضعيف، إذ الإخبار بخلاف الواقع كذب ومنقصة يجب تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقد علم بيقينٍ عادةُ الصحابة رضي الله عنهم في المبادرة إلى تصديق أقواله والثقة بجميع أخباره صلى الله عليه وسلم في أيّ باب كان وأيّ شيء كان، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهم يؤوِّلون قوله:(كل ذلك لم يكن) بأن المراد: في اعتقادي هكذا، لا في نفس الأمر، وهذا خبر صادق بلا شبهة، أو هو كناية عن عدم الشعور فكأنه قال: لم أشعر، وهذا أيضًا صادق، وقيل: إن النسيان في هذا القول تابع للنسيان في الفعل وفي حكمه، ولا محذور فيه، ولزوم الكذب مندفع بما ذكر، وههنا أجوبة في غاية الضعف والبعد نقلناها في شرح (سفر السعادة)(2).
(1)"فتح الباري"(3/ 101).
(2)
"شرح سفر السعادة"(ص: 101).
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدَلَ "لَمْ أَنْسَ. . . . .
ــ
وعن الإشكال الثاني قيل: الإتيان بالمنافي والتكلم بطريق السهو لا يمنع جواز البناء وعدم الاستئناف، وهذا الجواب لا يتم في التكلم من ذي اليدين وبعض الصحابة الذين تكلموا؛ لأن تكلمهم لم يكن بسهو، إلا أن يقال: إنهم كانوا تابعين له صلى الله عليه وسلم فلم يكن لهم حكم مستقل، وفيه ما فيه.
ثم لا يخفى أن الجواب المذكور لا يجري على مذهب الحنفية أن التكلم بالسهو والنسيان مبطل للصلاة ولا يكون عذرًا، وهم يقولون: إن قصة ذي اليدين وقعت على خلاف القياس فيقتصر على موردها.
وقال بعضهم: إن هذه القضية وقعت قبل نسخ جواز الكلام في الصلاة، وهذا الجواب لا يصح، لا لما قيل: إن إسلام أبي هريرة رضي الله عنه متأخر عنه، وهو راوي حديث ذي اليدين، فلا يكون قبل النسخ بل بعده؛ لأن تأخر إسلام الراوي لا يقتضي تأخر حديثه، ولا ينافي رواية القضية السابقة بالسماع من صحابي مقدَّمِ الإسلام كما تقرر في أصول الحديث، بل لأن أبا هريرة رضي الله عنه قال في حديثه:(صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم)، وهذا يدل على أن أبا هريرة كان حاضرًا في هذه القضية، فيكون وقوع هذه القضية بعد إسلام أبي هريرة المتأخر من نسخ الكلام في الصلاة، لأن إسلامه كان في غزوة خيبر سنة سبع، وتحريم الكلام في سنة رجوع الصحابة من عند النجاشي، وهو متقدم، والطحاوي حمل قوله:(صلى بنا) على المجاز، أي: صلى بالمسلمين، وهو خلاف الظاهر مع أن مسلمًا وأحمد وغيرهما رووا أنه قال: بينما أنا أصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهذا يدفع هذا التأويل قطعًا، كذا في (فتح الباري)(1).
(1)"فتح الباري"(3/ 97).
وَلَمْ تُقْصَرْ": "كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ" فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
1018 -
[5] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَة: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ لَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتينِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ (1). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1224، م: 570].
ــ
وقال بعضهم: إن هذا الكلام من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وذي اليدين كان بالإشارة والإيماء، وهذا أيضًا بعيد، وفي شرح (كنز الدقائق) المسمى بـ (البحر الرائق) (2): إنا ما وجدنا جوابًا شافيًا عن هذا الاعتراض (3)، ومذهب الإمام أحمد (4) أن الكلام في الصلاة عامدًا أو ساهيًا مبطل للصلاة إلا أن يكون لمصلحة الصلاة من الإمام والمأموم كما في هذه القضية، واللَّه أعلم.
1018 -
[5](عبد اللَّه بن بحينة) قوله: (فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس) وفي رواية: (فسبحوا فمضى).
(1) قال القاري: وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَلَكِنْ جَاءَ فِي رِوَايَات يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا أَنَّهُ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، وَثَبَتَ سُجُودُ عُمَرَ بَعْدَ السَّلَامِ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ سُجُودَ عُمَرَ بَعْدَ السَّلَامِ اجْتِهَادٌ، فِي غَايَةٍ مِنَ الاسْتِبْعَادِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُ السُّجُودِ بِأَنَّهُ سُجُودُ الصَّلَاةِ لَا السَّهْوِ، وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَلَكِنَّهُ بِعِيدٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَنْ قَالَ: وَقَعَ بَعْدَ السُّجُودِ سَهْوًا. "مرقاة المفاتيح"(2/ 806).
(2)
"البحر الرائق"(4/ 36).
(3)
أجاب عنه الحنفية بأن أبا هريرة لم يكن فيه كما صرح به ابن عمر، أخرجه الطحاوي (1/ 195)، كذا في "التقرير".
(4)
وكذا عند المالكية، انظر:"المرقاة"(2/ 803).