الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
1085 -
[1] عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ،
ــ
عنوان الباطن، كما يجيء في الحديث:"استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم"، وذلك لما في الاختلاف وتقدم بعض على بعض وتفوقه عليه من التنافر وحدوث الضغينة والوحشة وإثارة العداوة، أو لما في ترك إطاعة أمر اللَّه ورسوله من طريان الظلمة والكدورة في القلوب فيسري إلى الظواهر، ومع ذلك فيه سر، وله خاصية في حدوث الاختلاف كما يظهر من سياق الأحاديث، فافهم.
الفصل الأول
1085 -
[1](النعمان بن بشير) قوله: (حتى كأنما يسوي القداح) القدح بالكسر: السهم قبل أن يراش وينصل، والجمع القداح، كذا في (القاموس)(1)، وقدح الميسر أيضًا، ويقال للسهم أول ما يقطع: قِطَعٌ بالكسر، ثم ينحت ويبرئ فيسمى بريئًا، ثم يقوم فيسمى قدحًا، ثم يراش ويركب نصله فيسمى سهمًا، وضرب المثل بالقدح في تسوية الصفوف أبلغ في المعنى؛ لأن القدح لا يصلح للأمر الذي عمل به إلا بعد الانتهاء إلى الغاية القصوى في الاستواء، ثم هذا التشبيه مبالغة من حيث إن القدح مثل في الاستواء، وجعل الصف كأنه يسوّى به القدحُ، وكان الظاهر أن يعكس في التشبيه، وجاء في حديث آخر في (النهاية) (2):(كان يسوي الصفوف حتى يدعها مثل القدح أو الرقيم) أي: مثل السهم وسطر الكتابة.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 228).
(2)
"النهاية في غريب الحديث والأثر"(4/ 20).
حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ، فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ، فَقَالَ:"عِبَادَ اللَّهِ! لَتسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 436].
1086 -
[2] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَجْهِهِ فَقَالَ:"أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا؛ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ قَالَ: . . . . .
ــ
وقوله: (حتى رأى أنا قد عقلنا عنه) أي: تعلمنا منه هذه السنة كما أراده منا.
وقوله: (ثم خرج يومًا) أي: للصلاة، (فقام حتى كاد أن يكبر) أي: للإحرام.
قوله: (صدره) فاعل (باديًا) أي: خارجًا صدره من صدور القوم.
وقوله: (لتسون) بضم التاء وفتح السين وضم الواو المشددة مع النون الثقيلة، وللمستملي:(لتسوون) بواوين.
وقوله: (أو ليخالفن اللَّه بين وجوهكم) أي: يحولها إلى أدباركم أو يمسخها على صور بعض الحيوانات كالحمار مثلًا، أو المراد بالوجوه الذوات، أو وجوه قلوبكم كما يأتي:(لا تختلفوا فتختلف قلوبكم) أي: أهويتها وإرادتها كما بينا في شرح الترجمة، وفيه غاية التهديد والتوبيخ، أي: واللَّه لا بد من أحد الأمرين؛ إما تسويتكم صفوفكم، أو أن اللَّه تعالى يخالف بين وجوهكم، فلا بد أن تسووها وإلا تقع المخالفة المذكورة.
1086 -
[2](أنس) قوله: (قأقبل علينا) أي: التفت إلينا.
وقوله: (تراصّوا) أي: تلاصقوا وانضموا، رصّ البناء: أحكمه وشدّده، ورصّه: ألزق بعضه ببعض وضم، كرصَّصَه.
وقوله: (فإني أراكم) أي: بالقلب أو بالعين، وقد سبق الكلام فيه.
"أَتِمُّوا الصُّفُوفَ؛ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي". [خ: 719، م: 434].
1087 -
[3] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إِلَّا أَنَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ: "مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ". [خ: 723، م: 433].
1088 -
[4] وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: "اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبكُمْ،
ــ
وقوله: (أتموا الصفوف) وإتمام الصفوف يحتمل أن يكون بمعنى تسويتها، والظاهر أن المراد به إتمام الصفوف الأول بمعنى أن لا يشرع في صف حتى يكمل الذي قبله، والأولى أن يراد المعنى الشامل لكلا الأمرين.
1087 -
[3](وعنه) قوله: (من إقامة الصلاة)(1) المأمور بها والممدوح فاعلها في الآيات الكثيرة، قالوا: وفي كل موضع مدحت الصلاة وفاعلها فإنما ذلك بإقامتها، وقد يذم أصلها كما في قوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5].
وقوله: (من تمام الصلاة) أي: كمالها.
1088 -
[4](أبو مسعود الأنصاري) قوله: (يمسح مناكبنا) أي: يسويها بيده الكريمة.
(1) أَيْ: مِنْ إِتْمَامِهَا وَإِكْمَالِهَا، أَوْ مِنْ جُمْلَةِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72]، وَهِيَ تَعْدِيلُ أَرْكَانِهَا، وَحِفْظُهَا مِنْ أَنْ يَقَعَ زَيْغٌ فِي فَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَآدَابِهَا. "مرقاة المفاتيح"(3/ 849).
لِيَلِينِي مِنْكُمْ أولُو الأَحْلَامِ وَالنُّهَى،
ــ
وقوله: (ليليني) أي: ليدن مني، روي بحذف الياء الثانية وتخفيف النون، وبإثباتها مفتوحة وتشديد النون، قال التُّورِبِشْتِي (1): حق هذا اللفظ أن يحذف منه الياء لأنه على صيغة الأمر غير أن الرواة رووها بإثبات الياء وسكونها، والظاهر أنه غلط من بعض الرواة، ولعل النمط الأول أثبتوا الياء في الخط على أصل الكلمة قبل دخول لام الأمر فتداولها ألسنة الرواة فأثبتوها في اللفظ، انتهى. وفي شرح الشيخ: وليس إثبات الياء بغلط، فإن عدم حذف الجازم لحرف العلة لغة صحيحة كما صرحوا به، وما ذكر الشيخ صحيح في المضارع المجزوم إذا كان ناقصًا، ويقال: كذلك لغة لم يخشى، فيصح في لفظ الأمر الغائب الذي هو بعينه لفظ المضارع أيضًا، ثم ما ذكره التُّورِبِشْتِي في سبب إثبات الياء من الرواة بعيد جدًا، وقال أيضًا: وأما من نصب الياء وجعل اللام فيها الناصبة، فالوجه فيه لو ثبتت الرواية أن يقال: اللام متعلقة لمحذوف دل عليه أول الحديث، والراوي لم يذكر ذلك اختصارًا للحديث، ففيه تعسف أيضًا بل ليس بشيء، انتهى.
وقوله: (الأحلام) جمع حلم بالكسر بمعنى الأناة والتثبت، وحقيقته: حفظ النفس عند هيجان الغضب، وقد يفسر بالعقل، وقال التُّورِبِشْتِي: ليس الحلم في الحقيقة هو العقل لكن فسره به لكونه من مقتضيات العقل، وقال في (القاموس) (2): الحلم بالكسر: الأناة والعقل، جمعه أحلام، والنهية بالضم العقل لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح، هذا ما عليه الأكثر، وقد يجعل جمع حلم بالضم على ما في شروح (الهداية) بمعنى نوم البالغ أو البلوغ نفسه، أي: البالغون العقلاء، وعلى الأول يكون من قبيل التأكيد
(1)"كتاب الميسر"(1/ 290).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 1011).
ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ". قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلَافًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 430].
1089 -
[5] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" ثَلَاثًا،
ــ
والتفسير، وإنما أمرهم ليلوه ليحفظوا صلاته ويضبطوا الأحكام والسنن التي فيها فيبلّغوها فيأخذ عنهم من بعدهم، وقد جاء أنه إذا صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقوم أبو بكر رضي الله عنه خلفه محاذيًا له عليه السلام، وقيل: ليحفظوا صلاته إذا سها فيجبرها أو يجعل أحدهم خليفة له إن احتياج إليها، والمعول على الوجه الأول، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يليه المهاجرون والأنصار ليحفظوا عنه، كذا قال التُّورِبِشْتِي (1).
وقوله: (ثم الذين يلونهم) كالمراهقين والصبيان، (ثم الذين يلونهم) وهم الخناثى.
وقوله: (فأنتم اليوم أشد اختلافًا) أي: في الكلمة حتى فتنت فيكم الفتن، وذلك بسبب عدم تسويتكم صفوفكم، كذا فسروا، و (أشد) بمعنى أصل الفعل، عبر بصيغة التفضيل مبالغة إذ لم يكن بينهم اختلاف شديد قبل اليوم، اعلم أن الصف الأول للرجال، ثم النساء، ولم يذكر في (الهداية) الخناثى، وقال الشيخ ابن الهمام (2): صف الخناثى بين الصبيان والنساء، وكذا في (الوقاية)، وكذلك عند الشافعية على ما يفهم من شرح الشيخ.
1089 -
[5](عبد اللَّه بن مسعود) قوله: (ثم الذين يلونهم ثلاثًا) فحينئذ يكون
(1) انظر: "كتاب الميسر"(1/ 290 - 291).
(2)
"شرح فتح القدير"(1/ 359).
"وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الأَسْوَاقِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 432].
1090 -
[6] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا فَقَالَ لَهُمْ: "تَقَدَّمُوا وَأتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ،
ــ
المراتب أربعة: الرجال، والصبيان، والخناثى، والنساء، ولم يذكر في الحديث الأول المرتبة الرابعة لتعينها، فافهم.
وقوله: (وهيشات الأسواق) الهيشة والهوشة: الجماعة المختلطة، والفتنة، والتهيج، والاضطراب، يقال: هاش القوم يهوشون هيشًا: إذا تحركوا وهاجوا، وقيل: هي الموضع الذي فيه كثرة رفع الأصوات واختلاط الناس من كل صنف، كذا في بعض الحواشي، والمراد ههنا التحذير عن ارتفاع الأصوات في المساجد كما ترفع في الأسواق، أو اختلاط البالغين بالصبيان، والذكور بالإناث كما يختلط أهل الأسواق، أو التشاغل بهيشات الأسواق وأمورها، فإنه مانع من أن يسبقوا ويلوني، وقيل: معناه احذروا من أن يصلوا في الأسواق، وفي المواضع التي لا يكون فيها حضور القلب من كثرة الأصوات.
1090 -
[6](أبو سعيد الخدري) قوله: (تأخرًا) أي: في صفوف الصلاة أو في أخذ العلم (1)، والأول أنسب بالباب، والمراد بالائتمام على الأول: الاتباع في الحركات والسكنات في الصلاة بالوقوف عليها، وعلى الثاني: في اكتساب العلوم وتعلمها.
(1) قَالَ الطِّيبِيُّ (4/ 1142): أَرَادَ التَّأَخُّرَ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ، أَوِ التَّأَخُّرَ عَنِ الْعِلْمِ، فَعَلَى الأَوَّلِ مَعْنَاهُ: لِيَقِفِ الأَلِبَّاءُ وَالْعُلَمَاءُ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ، وَلْيَقِفَ مَنْ دُونَهُمْ فِي الصَّفِّ الثَّانِي، فَإِنَّ الصَّفَّ الثَّانِيَّ يَقْتَدُونَ بِالصَّفِّ الأَوَّلِ ظَاهِرًا لَا حُكْمًا، وَعَلَى الثَّانِي الْمَعْنَى لِيتَعَلَّمْ كُلُّكُمْ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَلْيَتَعَلَّمِ التَّابِعُونَ مِنْكُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَلُونَكُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ. "مرقاة المفاتيح"(3/ 850).
لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّه". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 438].
1091 -
[7] وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَآنَا حِلَقًا فَقَالَ: "مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟ " ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: "أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ " فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: "يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُولَى وَيتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ [م: 430].
ــ
وقوله: (حتى يؤخرهم اللَّه) أي: عن رحمته وعظيم فضله.
1091 -
[7](جابر بن سمرة) قوله: (فرآنا حلقًا) أي: رآنا جلوسًا حلقة حلقة، والحلقة بفتح الحاء وسكون اللام، وقيل: بفتحهما، والأول أشهر، وهي حلقة القوم، والجمع حلق بكسر الحاء، مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع، قاله الخطابي، وذكرها غير واحد بالفتح، قال الحربي فيه: الحلق والحلقة بالسكون مثل تمر وتمرة، قال: ولا أعرف حلقة بالفتح إلا جمع حالقة، كذا في (مشارق الأنوار)(1).
وقوله: (عزين) جمع عزة كعدة، وهي العصبة من الناس، والجمع عزون، كذا في (القاموس)(2)، أي: ما لكم جلستم جماعات متفرقين ولا تكونون مجتمعين مع توصيتي إياكم، فهو إنكار عليهم في كونهم على هذه الحالة المؤذنة بتفرق قلوبهم ومباينتها، والظاهر أن يكون هذا الإنكار في غير الصلاة خوف افتراق الكلمة، لا في الصلاة؛ لأن الحلقة لا يستقبل كلها القبلة.
وقوله: (ثم خرج علينا) أي: مرة أخرى، وهذه تكون في الصلاة، والمراد
(1)"مشارق الأنوار"(1/ 197).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 1204).