الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوائد لغوية
القنع
قال السيد مرتضى: (القنع) بالضم: الشبور، وهو بوق اليهود. . . وليس بتصحيف (قبع) بالموحدة، ولا (قثع) بالمثلثة، بل هي ثلاث لغات: النون، رواية أبي عمر الزهد (كذا. والصواب أبي عمر الزاهد). والثالثة نقلها الخطابي وأنكرها الأزهري. وقد روي حديث الآذان بالأوجه الثلاثة. . . وقد روي أيضاً بالتاء المثناة الفوقية. . . مثال الخطابي: سألت عنه غير واحد من أهل اللغة فلم يثبتوه لي على شيء واحد، فإن كانت الرواية بالنون صحيحة، فلا أراه سمي إلا لإقناع الصوت به، وهو رفعه. ومن يريد أن ينفخ في البوق يرفع رأسه وصوته. وقال الزمخشري: أو لأن أطرافه أقنعت إلى داخله أي عطفت. أهـ.
قلنا أصل رواية اللفظة في القديم في عهد الجاهلية قنع (بضم القاف وإسكان النون وفي الآخر عين) وقد نقلها اليونانيون عن العرب في العهد العهيد بصورة وكانوا إذ انقلوا العين إلى لغتهم حاروا في تصويرها بحروفهم فيختلفون بين ما ذكرناه من حرفهم (وهو حرف واحد في لسانهم) وبين حروف أخرى. واصل معنى القنع صدفة يشبه ظاهرها صدفة حلزون كبير وبالافرنسية ثم أطلق على كل ما أشبه هذه الصدفة من آنية وآلات فكان من معانيها عندهم القنقل، وهو مكيال يكال به، والجمجمة، وأعلى الرأس، ومقبب الترس أو الدرقة. وغطاء كل آنية إذا كان مقببا ولاسيما ورودها عندهم بمعنى صدفة الحلزون وبمعنى الشبور الذي يشبه هذه الصدفة. والشبور بوق مقنع الطرف أي مستديره معطوف إلى داخله كالصدفة المذكورة.
أما القبع بالباء الموحدة التحتية، والقثع المثلثة فهما عندنا من التصحيف القديم للفظة، خلافا لما ارتأى صاحب التاج؛ إذ اللغات في الغالب مبنية على تصحيف
وتحريف أو لثغة. وإن وردت مفردات على غير هذه الأوجه المذكورة.
ومن الغريب أن السلف من بعد أن وضعوا هذا الحرف في الزمن القديم عادوا إلى اليونانية فعربوا المذكورة بصورة قنقن وخصوها بما يقابلها عند الإفرنج وأطلقوا القنقن أيضاً على ما سماه اليونانيون وكذلك نقلوا عن اليونانيين (القنقل) المار ذكره وهو مكيال يسميه
الرومان
ونقل اليونانيون لفظتنا (القنع) بصورة أخرى وهي وهي عندهم الصدفة المستديرة العطفات إلى الداخل فنقلها عنهم الرومان بصورة بمعنى الحلزون. واشتقوا منها في لسانهم الملعقة فسموها لأنهم كانوا يستخرجون بطرفها الواحد الحلزون الذي كانوا مولعين بأكله.
فقد رأيت من هذا البسط أن السلف سموا الشبور بالقنع لأنه على شكله والقنع هو الحلزون. ولم يكتفوا بالقبع والقثع المصحفين عنه. بل زادوه تصحيفا ثالثا وهو (المنع) فكأنهم قرءوا القاف المهملة ميما وابقوا النون على حالها وأرادوا به السرطان لا الحلزون والمنعي بزيادة ياء النسبة أكال السرطانات. فالظاهر أن السلف في الجاهلية كان مولعا بأكلها على حد ما يفعل الرومان واليونان وأبناء الغرب في عهدنا هذا. ومن الغريب أن اللغويين ذكروا المنع والمنعي بمعنييهما ولم يذكروا معدنيهما واصليهما والسلف كثيرا ما يصحف الألفاظ ليعلق بها معاني جديدة وكان يتصرف مثل هذا التصرف في المفردات الدخيلة المعربة.
ومن العجب أن عوام سورية جهلوا أن اللاتينية عربية النجار فعربوها عنها وقالوا (قوقعة) في حين أنهم كانوا في مندوحة عنها بقولهم (قنعة) مفرد القنع وإن لم تسمع، لوجود القاعدة أن الشبيه بالجمع يفرد بالهاء. وكان عوام آخرون عربوها بصورة (قوقن) على ما رواه المستعيني وجاءت (كوكن) أيضاً. وكلها تنظر إلى الأصل العربي المصحف.
وما أضحكنا إلا قول أحد الفضلاء المتشدقين وهو: (إذا أردتم أن تحطموا قوقعاتكم وتتخلصوا من أنواع الضيق المسيطرة على نفوسكم. فاخرجوا. . . أفلا قال كما قال السلف الفصيح: إذا أردتم أن تتخلصوا من قائبتكم أو قنعتكم. . .
أو نحوهما؟).
لكن هذه اللغة البائسة قد صار أمرها إلى بعض الجهلة فاخذوا يهدمون حصونها بالنواسف وهم يجهلون نتيجة عملهم. فهذا هو الجهل المركب. وقانا الله شره!
الغريزي لا الغرزي
يكثر كتبة مصر من النسبة إلى الغريزة بقولهم غرزي بفتح الأول والثاني مدعين أن ذلك هو القياس لما كان من المنسوبات إلى فعيلة. والحال ليس كل قياس يقال: لأن السماع أفضل من القياس. إذ هذا وجد بعد ذاك. والمسموع في النسبة إلى الغريزة غريزي كما
قالوا طبيعي وسليقي وسليمي وعميري وبديهي في النسبة إلى طبيعة وسليقة وسليمة وعميرة وبديهة، وذكر الغريزي صاحب (مد القاموس) نقلا عن الثقاة، والأطباء الأقدمون لم يقولوا إلا (الحرارة الغريزية) وقال أبو القف في كلامه عن خواص العدس:(وأما حرارته الغريزية فقوية وطبيعته فائقة جيدة لا يغلبها سبب ممرض) أهـ. وابن البيطار ذكر الحرارة الغريزية مئات ومئات.
ولهذا تتحدى كل كاتب أن يورد لنا شاهدا واحدا - من الأقدمين أو من المولدين - فيه لفظة الغرزي في معنى الغريزي - نعم قد يجد الباحث الغرزي نسبة إلى الغرز (كسبب) وهو ضرب من الثمام، لكن بمعنى الطبيعي لا تجد ولن تجد. ولهذا وجب أن يقال الغريزي أمنا للبس، وإما حيث لا لبس فالنسبة إلى فعلية هو فعلي بالتحريك. تقول ربعي وحنفي وجذمي في النسبة إلى ربيعة وحنيفة وجذيمة؛ ويشبه فعلية في النسبة فعلية (بضم ففتح) تسقط منها الياء في مواطن وتحتفظ بها في مواطن أخرى. تقول جهني وقتبي (بضم ففتح) في جهينة وقتيبة. لكنك تقول حويزي في النسبة إلى حويزة (راجع كتاب سيبويه طبع مصر 2: 70 و71) ولهذا لا يحسن بالمرء أن يخطئ صاحبه معتمدا على ما يرى في كتب الصرف والنحو ولا يلتفت إلى السماع، وإلا فإن ثبت هذا لديه كان حجة على القاعدة وضرب بها عرض الحائط كما قرره العلماء الأعلام في معاجم اللغة ودواوينهم العلمية.