الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غادة بابل
- 6 -
نام أهل الحي وأصحاب القافلة نوما هنيئا. أما شمشو فلم يغمض جفنا على جفن بل أخذ يسامر الكواكب والبدر المنير في سماء صافية الأديم وكان يرى في البدر وجه حبيبته حتراء وفي النجوم عينيها اللامعتين ويتخيل في تمايل السنابل عند مر النسيم البليل قدها المياس تيها ودلالا. وإذا سمع خرير الماء في الجداول والترع يصغي إليه كأنه أنشودة حب سرية.
وبين فينة وفينة يذكر بنت خاله شميرام بخير ويعطف عليها ويأسف لبواعث الأسى التي تختلج في صدرها بسبب حبها له وهو تحت سلطان غرام غيرها فلا قدرة له على كبح جماح الهوى وتحكمه فيه ولا سبيل له لإرضائها. وبينما كانت يد الهواجس تداعب مخيلته وأنامل الشوق تلاعب شعوره إذا بعض الرعاة الذين يتناوبون يصيحون بالويل والثبور ويستغيثون لدفع شر أسد أنسل بين القطعان يريد افتراس الغنم فهجموا عليه بفؤوسهم تعاونهم الكلاب الجريئة الكبيرة الجثث فانقضت على الأسد انقضاضها على فرائس الصيد. وبعد عراك هائل تمكن القوم من طر الأسد وقد خذل أي خذل لأنه لم يأخذ فريسته.
وفي الصباح استأنفت القافلة السير وكان أصحابها يمرون على المزارع فمنها ما كان يزرعها الملاكون مباشرة وقد أقاموا عليها الوكلاء واستأجروا لها الفلاحين من الأحرار أو العبيد بعقود مسجلة، وبين الفلاحين من تقضي عليه شروط عقده أن يخدم خدمة العبيد ويكون ملكا لمالك الأرض حتى ينتهي الأجل المضروب ومن الأراضي ما كان مؤجرا أو (ملتزما) ويدفع الفلاحون إلى مالكيها حصة مقطوعة أو نسبية من نتاج الأرض.
كان بلاتو دعي بيروس يسير إلى جانب شمشو في الطريق ويتحادثان في مواضيع مختلفة فتناولا البحث في ملكية الأراضي في بابل وقوانينها فقال شمشو:
الأرض ملك الإله في الأصل يولونها لمن شاءوا من الملوك والسلاطين
وهؤلاء وهبوا منها ولا يزالون يهبون قطعا لمن شاءوا من المخلصين لهم أو المقربين منهم حتى إذا معظم الأراضي بيد الشرفاء ورجال الدولة والجيش ومختلف طبقات الناس من العامة. لأن من
نال هبة الملك من تلك الأراضي له أن يتصرف فيها حسبما شاء وأراد أيجار وبيع واستغلال وتقسيم بين ورثته أو بين أصدقائه بعد أن يدفع ضريبة الدولة ورسوم الهيكل المقررة مهما كانت ثقيلة الوطأة وليس لأي كان أن يتدخل في شؤون هذا المالك أو يضيق حريته.
وملكية الأراضي مثبتة في رقم من طين مدونة فيها تقسيم كل أرض وحدودها واسم صاحبها وما فيها من المنخفضات والمرتفعات والترع والجداول ومساحتها وإذا وجد بعض المبهمات تخطط صورة أو خريطة مختصرة تلحق بالرقيم زيادة للإيضاح.
وعلى هذا المسح العام للأراضي (الكادسترو) تجبى الضرائب والرسوم وتفرض على قاعدة ثابتة. لا يحتمل وقوع إجحاف كبير بالمزارعين. ويرجع من حين إلى آخر إلى مسح الأراضي التي يشك في صحة مساحتها.
بلاتو - أني لم أتعاط الزراعة ولا وقوف لي على هذه المعاملات ولكن إلا تظن أن الضرائب والرسوم التي تجنى على مساحة الأراضي لا تكون عادلة لأن بعض الأراضي مخصبة كل الخصب وبعضها دون ذلك وبعضها قليلة الإنتاج.
شمشو - الحق معك. إلا أن الشرائع المرعية قد نظرت في هذا الأمر وجعلت تقدير حاصل كل وحدة قياسية يختلف عن حاصل وحدة قياسية أخرى نظرا إلى جودة الأرض وموقعها.
وهكذا كانت تقطع القافلة مرحلة بعد مرحلة بأطيب الأحاديث وافكه النوادر والخوض في مواضيع شتى. وبلغت في اليوم الخامس اوبي الشهيرة
بتجارتها الواقعة عند مصب نهر فسقس وعلى ضفة دجلة الغربية. فرغب رجال القافلة في أن يقضوا يوما في تلك المدينة للتفرج وقضاء بعض الحاجات فوافقهم رئيس القافلة.
تركت القافلة اوبي وسارت في طريقها إلى بلاد آشور وبعد أن قطعت ثماني ساعات أنزلت الأحمال والأثقال للاستراحة والمبيت بموجب العادة.
وهنا حدث أمر ذو بال وهو أن (بلاتو) دعي بيروس أصبح جثة هامدة وفي جسمه آثار السم بادية والى جانبه كلبه ميت أيضاً وفيه مثل تلك الإمارات وبعد البحث عن السبب تحقق شمشو أنهما أكلا من الزاد الذي بعثت به إليه شميرام ولكي يقف على ما في هذا
الزاد من القوة السامة ألقى منه شيئا لكلب آخر فمات لساعته. فلم يبق لديه في الأمر فطرح ذلك الزاد في دجلة ولم يحتفظ إلا بشيء زهيد منه شهادة ما فيه، حتى إذا ما رجع إلى بابل يبحث عن الجاني.
وكان هذا الأمر الخطير من بواعث القلق والاضطراب لشمشو واخذ يفكر في اليد الأثيمة التي تجرأت على دس الدسيسة وهذه الفعلة الشنعاء التي كادت تودي بحياته لو لم يضح على هيكلها (بلاتو) الذي دفعه جشعه إلى حياض الموت وجذبته شراهته إلى ذلك المورد الرنق.
فبقي شمشو ألعوبة بيد عوامل كثيرة. فكان تارة يتهم شميرام ويذهب إلى أنها التجأت إلى هذه الدسيسة انتقاما منه لأعراضه عن زواجها وحبه حترآء
وطور يطرد هذه الأوهام والوساوس والأباطيل ويبرئ ساحتها من هذا المنكر الفظيع لما يعهده فيها من الأخلاق الحميدة والحب الخالص له. . . في الأمر سرا. . . فمن أتى إذا هذا المنكر؟ فلم يهتك البحث ستار هذا السر الغامض ولا أزاح التنقيب الإبهام الذي يحف بهذا الحادث المهيب.
وكان يرجع حينا إلى ذكر (بلاتو) الذي بعثه معه بيروس المخلص على ما يعتقده وكيف مات بلا ذنب ولا حرج وهلك ضحية تلك المؤامرة السرية فيتخيل كأنه أمام الكاهن يؤنبه على موت البار. . . وهو لا يحير جوابا ولا يتمكن من تحمل الأعذار.
وكان في الطريق كله مشتت الأفكار قلق البال. ولا تفارق أشباح ذلك الحادث مخيلته، فكان يكرر أقوالا متقطعة. . شميرام. . السم في الزاد. . . بلاتو البار. . . موت ظلم وعدوان. . بيروس المحسن. . . غموض في إبهام. . . في أسرار تكتنفها الظلمات ولم يجد تسلية إلا في ذكرى حتراء. . حتراء الحبيبة.
بعد أربعة عشر يوما من مغادرة بابل وصلت القافلة إلى نينوى.
رأينا شميرام قد عدلت عن الاستسلام لسلطان الهوى ورأت في الغرام ذلا تأنف النفس الأبية من الرضوخ لقضائه فحكمت العقل على القلب واستولت على الشعور بسمو المدارك. فوجدت راحة وهناء وسلاما في نفسها وأخذت تطالع الرقم وتلتقط منها شوارد الحكمة وآيات الرشد.
وكان لها ولع خاص برقيم مدونة فيه حكم السلوك فكثيرا ما كانت تردد في فكرها ما تعلمته
منها فتقول: لا تغيب. تكلم بما ينزهك. لا تقذع. تكلم باللطف. من يغتب ويقذع يزره شمس على رأسه - لا تتبجح، احفظ شفتيك - أن غضبت لا ترفع صوتك - التكلم في ساعة الغضب يورث الندم - وبالسكوت دار حزنك - تعلم الحكمة من الرقم (الألواح) - مخافة الإله تولي نعمة -
الصلاة تجلب غفران الخطيئة - أطعم الناس وأشربهم خمرا. ابحث عن الحق واجتنب الباطل - لا تتكلم شرا عن صديقك ورفيقك - أن وعدت أنجز ما وعدت - لا تتكلم كثيرا بل احسن التكلم - من يخف الآلهة لا يصرخ عبثا
وكانت تنشد في بعض الأوقات أناشيد دينية مؤثرة تدور حول ندامة الإنسان على خطيئة وطلب المغفرة عما يترتب عليه من القصاص والعقاب من جرائها. وإنشاء تلك الأناشيد بليغ وفيه معان شعرية عالية تنفذ إلى القلوب قبل ولوجها الآذان وتحرك العواطف بلا استئذان. وكثيرا ما كانت تنزل الحديقة في الليل وتترنم بتلك الأناشيد.
وكانت نجيتها نتو تراقب حركاتها وسكناتها عن كثب وتبلغ بيروس الكاهن كل ما تقوله وتفعله سيدتها. وقالت له يوما أني آنس في شميرام أعراضا عن حب شمشو فلا تذكره ذكر الحبيبة لحبيبها بل ذكر بنت الخال لابن عمتها وكأني بأدعيتك قد استجابتها الآلهة. وهي تنزل كل ليلة إلى الحديقة بعد العشاء وتتمشى فيها حتى تبلغ آخرها فكان هذا الخبر مدعاة لتدبير حيلة أخرى حاول بها بيروس السيطرة على أفكار (غادة بابل).
خيم الظلام على ربوع بابل فتردي بيروس ثياب الآلهة اشتر بعد أن أنتزعها من تمثالها وتوجه توا إلى حديقة شميرام وتسلق نخلة وبقى كامنا هناك وبعد هنيئة سمع سوت شميرام الرخيم وهي تنشد أنشودة اشتر الآهة الحب والتناسل.
واخذ يتقرب صوتها شيئا فشيئا حتى بدا له خياله عند الازاهير تقتطف منها ما طابت رائحته وعبق شذاه وطورا تستأنف السير متبخترة ولما صارت على مقربة منه خاطبها بصوت سحري ذي جلال قائلا لها:
يا عذراء بابل؟ يا بنت الآلهة! قفي في محلك متهيبة لأن الروح الذي يخاطبك