الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوائد لغوية
(ولا سيما) العصرية مذهب جديد صالح
اختلف علماء العربية في جملة (ولاسيما) اختلافا كبيرا فأجازوا رفع الاسم الذي بعدها ونصبه وجره. وهذا اضطراب لألباب الطلاب والكتاب واغتراب عن الصواب. لأنه لو جازت أنواع الإعراب الثلاثة لكان الكلام عن (ولاسيما) لبتر أي لا خير فيه. ولان نسير على مذهب واحد واطراد واحد متحرين صحة التعبير والتفسير والتقدير خير من أن نركض نحو تبلبل العلماء كالراكض نحو السراب يؤيد خطأه ويزيد ظمأه. ولذلك أقول: أن حجج بعض العلماء في (ولاسيما) متناقضة وفي اتباع المتناقض تجويز الأضداد دلالة على فقدان الصواب. ومن سوء حظنا أن (ولاسيما) جاءت في الشعر قبل النثر ومن وضعها في النثر اقتدى بالشعر متغاضيا عن صحة وضعها وترتيب أجزائها وإيضاح معناها غافلا عن أن وزن الشعر واقتضاب المعنى وتغيير اللفظ وبعثرته تضطر الشاعر إلى الخضوع لها، فأضعف دليل عندي وارد في الشعر مخالفا للنثر المؤيد. فإن أمثال ذلك الدليل هي التي بعثرت لغة العرب وبحثرت قواعدها. والعجيب الغريب أن (أحد أخطاء المجمع العلمي) في دمشق نشر بحثا زخارا موارا عن (ولاسيما) وعند استدلاله على جواز تخفيف الياء المشددة من (سي) أتى بها في آخر المضارع الأول في أحد الأبيات. ولكنه لما أورد (لا) النافية للعموم وذكر أبياتا لبعض المعترضين على وجوب تكرار (لا) أدعى أن ذلك ضرورة. فاستشهاده الشعر جائز واستشهاد غيره باطل وتلك لعمر اللغة فوضى وحكم لا يرضى.
أن أعظم أدلة العلماء في (ولاسيما) استندت إلى قول امرئ القيس:
ألا رب يوم لي من البيض صالح
…
ولا سيما يوم بدارة جلجل
وقد عثرت على قول أبي سفيان يوم السقيفة:
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم
…
(ولاسيما) تيم بن مرة أو عدي
فهذان القولان أقدم الأقوال وغيرهما مقيس عليهما ومأخوذ منهما، ومتى فسرنا البيتين تفسيرا بعيدا عن التعسف ذهب التكلف والتحرف والتطرف. فأحسن تفسير توصلت إليه
للبيت الأول هو:
(مرت بي أيام ذات صلاح ونعيم. ولا مماثل ليوم دارة جلجل في صلاحه ونعيمه). ومعنى البيت الثاني:
(يا أبناء هاشم لا تتركوا مجالا لطمع الناس فيكم ولا مثيل لتيم بن مرة وعدي في طمعها) فالقارئ يرى أن (لام الجر) حلت محل (ما) فاستقام المعنى استقامة تامة، ويرى أن جملة (ولاسيما) استدراكه فكأنه قال:(الناس طامعون فيكم ولكن تيما وعديا اطمع الناس). ويرى أيضاً أن الجملة مستأنفة ولم يرتبطها بسابقتها إلا المعنى. ولو لم تكن مستأنفة لتعذر التفسير وأرتبك التقدير وتفه التعبير، فما أسمج أن يقال (مرت بي أيام ذات صلاح ونعيم لا تشبه يوم دارة جلجل لأنه ذو صلاح كثير ونعيم عزير)؛ لأنه لا ينطبق على البيت فأي كلام فسروه ب (لا تشبه)؟ أنهم الصقوا ذلك تقويما لأود تفسيرهم. فالشاعر قال (ولا سي) أي (ولا شبيه أو مثيل) بالتغاضي عن الجملة السابقة وبالرغبة في الاستدراك.
الإعراب
الواو: حرف استئناف واجب الذكر لأن المعنى لا يتم أبدا إلا بالاستئناف كما رأينا. وتضمر الواو وجوبا في ما حذفت منه قديما.
لا: نافية للجنس لا يجوز حذفها أبدا ذهابا إلى الفصاحة واتباعا لأفصح ناطق ب (ولاسيما).
سي: أسم (لا) مبني على الفتح بمعنى (مثيل أو مماثل) ولا يجوز تخفيف الياء أبدا حفظا لأصلها الصحيح.
ما: حرف زائد حل محل (لام الجر) المحذوفة لضرورة الشعر ولكون الألسنة والأذواق قد الفتها حسن وضعها.
يوم: مجرور وجوبا باللام المحذوفة والتقدير: (لا مثيل ليوم بدارة جلجل في الصلاح والنعيم) والجار والمجرور في محل رفع خبر (لا) النافية للجنس.
تبرير هذا التقدير
قال العرب (فتى ولا كمالك) أي (فتى ولا مثل مالك في الفضل والشجاعة) ولكنهم حذفوا
آخر الجملة لأن لهم أذواقا حساسة، وإيجاز جميلا. وقالوا:(أبا خراشة أما أنت ذا نفر) والأصل (أن كنت ذا نفر) ولكنهم حذفوا (كان) واحلوا محلها (ما). ولذلك لا حرج علينا في إحلال (ما) محل (لام الجر المحذوفة) تجنبا للتعسفات والتقديرات الغريبة وتحريا للمعنى الصحيح وقتلا لتبلبل العلماء وتناقضاتهم واختصاصا بمذهب واحد ينطبق على كلام الجاهليين والفصحاء المتوسطين والمولدين.
تطبيقات على أحوال (ولاسيما)
1 -
قد يحذف خبر (لا) فتدخل (ولاسيما) على الجار والمجرور مثل: (يستحسن إطعام اليتامى ولا سيما في أيام ذات مسبغة) والتقدير: (ولا سي أو (ولا مثيل) للطعام في أيام ذات مجاعة).
2 -
قد حذفت واو (ولاسيما) عند المولدين ولكنهم كانوا جدراء بإثباتها اتباعا لمن قبلهم من الفصحاء. ولذلك يجب إظهارها عند إعراب كلامهم. قال ابن أبي الحديد في الشرح: (ولا ريب أن محمدا عليه السلام وأهله الأدنين من بني هاشم (لاسيما) علي عليه السلام انعموا على الخلق) والتقدير (ولا مثيل لعلي في الإنعام) في بني هاشم وأهل محمد الأدنين وحملته فيها تقديم وتأخير والأصل: (قد انعموا على الخلق لاسيما علي عليه السلام.
3 -
قد يحذف خبر (لا) وتحذف الواو وتدخل (لاسيما) على حرف يليه فعل قال ابن أبي الحديد (وأين هذا من باب حمل المطلق على المقيد (لاسيما) وقد ثبت أن التعليل) والتقدير (ولا مثيل لقولي أو لإنكاري لأن ثبوت التعليل، الخ). فالواو (واو التعليل) لا محالة ومن الأمثلة على ثبوت قولي بأن الواو للتعليل قولهم:
4 -
(الكتاب جيد لا سيما والموضوع موضوع عصري) والتقدير (الكتاب جيد ولا مثيل لجودته لأن الموضوع عصري) فالقارئ يرى أن الواو احتلت
محل (لام التعليل) من دون شك أو تكلف.
5 -
تدخل على الظرف مثل (المطالعة مفيدة ولاسيما قبل الظهر) والتقدير (ولا مماثل لفائدتها قبل الظهر).
دحض حجج المتبلبلين والمتناقضين
1 -
قال العلماء (خبر النافية محذوف والتقدير (موجود أو كائن) قلت لو وضعناه في مثلي الأخير لصارت الجملة (المطالعة جيدة ولا مثيل قبل الظهر موجود) وهي ناقصة تحتاج إلى زيادة (لجودتها) أي الخبر الذي قدرته أنا فتكون (ولا مثيل لجودتها قبل الظهر) فقولي هو الراجح الرابح: بحذف (موجود) الزائد.
2 -
وقالوا (ما) أسم موصول مضاف إليه والاسم بعدا خبر لمبتدأ محذوف. قلت ذلك خطأ لأن (لا) يجب أن يكون اسمها نكرة وهم أضافوه إلى المعرفة فصار معرفة ولا يجوز أن نعبث بقواعد لغة العرب من أجل تبرير قولهم. أما رفعهم الاسم فيبطل بقول القائل (الكتاب جيد لاسيما والموضوع موضوع عصري) إذ ليس في الكلام خبر حتى يقدر والمبتدأ. ولا تصلح (ما) لأن تكون موصولة إذ لا صلة لها أبدا. ولو حذفوا الواو وقدروا المبتدأ لصارت الجملة (الكتاب جيد ولا مثيل موجود هو الموضوع موضوع عصري) وليس لها معنى مقبول ولا مبنى صحيح فالصواب ما قدمته في تقدير هذه الجملة.
3 -
وقالوا (ما) نكرة تامة مضاف إليها والمبتدأ المحذوف والخبر الموجود صفة لها. قلت هذا لا يجوز أبدا فأبن أبي الحديد قال (لاسيما وقد ثبت) فأين الخبر حتى نقدر له مبتدأ؟ ولو قدرنا كليهما فما معنى (لا مماثل موجود هو الأمر وقد ثبت)؟ فالصواب ما قلت وما قدرت آنفا.
(4)
- وقالوا (أن الاسم الواقع بعد (لاسيما) يكون مضافا إليه إذا كان نكرة باعتبار (ما) زائدة وسي مضافا. قلت ذلك جيد ولكنه لا يمكن تطبيقه في كل الأحوال ولذلك نعود إلى التبلبل بإثباته. وقولنا: (ولا مثيل ليوم بدارة جلجل) أصح من قولنا: (ولا مثيل ليوم بدارة جلجل موجود). ومن جعله (تمييزا) فهو متبلبل أيضاً لأن خير قاعدة ما كانت عامة منطبقة على جزيئاتها تمام الانطباق، أضف إلى ذلك إنه غير مألوف لبعده عن الصواب.
الكاظمية: مصطفى جواد