الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غادة بابل
8
لم تجد نفعا الرقي والطلاسم والتعازيم وندامة الأب بل كانت حال المريضة تزداد حرجا وأصبحت على قاب قوسين من النزع فارتأى أهلها أن ينقلوها من البيت إلى الخارج ويعرضوها على أنظار المارة لكي يصف لها من يراها تعويذة فعالة أو دواء ناجعا مجريا فحملوها على فراشها ووضعوها عند باب دارها. فتكاكأ عليها المارة واخذ كل واحد يصف لها وصفة من تعاويذ وعقاقير جربها في حادث حدث له في زمن مضى ثم يأتي غيرهم ويسفهون آراء من سبقهم ويؤكدون أن رقية الإله الفلاني هي برء الساعة مع العقاقير التي يسردون أسماءها.
ثم أتى واحد واخبرهم أن (آسو) أتى من مصر وهو عالم بمداواة المرضى قدير أن يشفي
أعضل الأمراض.
عمل الأهل كل الوصفات والرقي واستقدموا (الآسو) فلم تنجع في المريضة حيلة بل اشتدت على حترآء الآلام وارتفعت حرارة الحمى فأسلمت الروح بعد غياب الشمس.
أطلقت النائحات أصوات الويل والثبور وأرسلت النساء شعور رؤوسهن
والقين التراب والرماد على هاماتهن ولطمن الخدود بالأيدي وخمشنها بالأظافير. واشترك بهذا المأتم العبيد والعبدات ثم أتت الجارات وانضممن إلى المحفل.
اشتغل الأهل والأقرباء والجارات بالمراثي واللطم وعهدوا بجثة حترآ. إلى نساء دأبهن تجهيز الموتى والسهر على أجسامهم قبل الدفن. فدهنها بزيت معطر والبسنها اجمل ثيابها وأفخرها وزينها بالحل الغالية الثمينة. ووضعن قرطي ذهب في أذنيها وقلادة نفيسة في عنقها هي خرز من العقيق واللازورد والذهب منظومة في سلك، وأساور في معصميها وخواتم وحلقات في أصابعها وحجلين في رجليها ومشطا من ذهب في شعرها وحمرن وجنتيها بالحمرة ودهنها بالدهون وصبغن أهدابها وأطراف عينيها بالزرقة. ثم أضجعنها على فراش وثير وأطبقن ذراعيها على صدرها. ثم نصبن مذبحا عند رأسها لقرابين الماء والبخور والحلويات وأخفين تمثالين الواحد عن رأسها والآخر عند قدميها يمثل أحدهما
صورة (ايا) والآخر شبيها (بأيا) وعلى كل منهما جلد سمكة. وقد مدا أيديهما على جثة حترآ، ووضعن ثلاثة تماثيل أخرى في غرفة المائتة أحدهما بصورة إنسان والاثنان الآخران رأسهما رأس أسد وجسدهما جسد إنسان.
والغاية من هذه التماثيل منع الأرواح الخبيثة من دخول غرفة الميتة وتقمصها بصورة عفريت يمتص بعدئذ دم الأحياء.
وتوضع كذلك تماثيل الآلهة فوق سطح البيت لمنع تلك الأرواح الشريرة من الهبوط من السقف.
وتقام الصلوات والأدعية استدعاء للأرواح الصالحة للسهر على جثة المتوفاة.
اهتم بعض أقاربها بانتقاء تربة شريفة يودعونها جثمانها، فمنهم من ارتأى نقله إلى اورك. تلك المدينة المقدسة في جنوبي بابل التي تنقل إلى مقابرهم أجسام الموتى من جميع المدن البابلية
للتبرك بقداسة ثراها لأنها مدينة العلم والدين
والكهنة والملوك.
ومنهم من ارتأى دفنها في مقبرة البيت القديمة في دار السكنى عينها حيث قبر بعض أجدادها في زمان كان البابليون يدفنون موتاهم في بيوتهم.
إلا أن أباها لم يوافق على الرأيين بل رغب في دفنها في المدفن الذي قبرت فيه أمها لتكون إلى جانب تلك التي حنت عليها في صغرها.
حملوا الجنازة من بيتها بين النوح والبكاء واللطم تتقدمها النائحات والعازفات ويتبعها جوق منهما وكان معها أهلها وأصدقاؤهم ومعارفهم مرتدين ثياب الحداد من نسيج غليظ كمد ليس فيه ثنايا ولا طيات بل يشبه كيسا. أخذوها إلى إحدى المقابر في ضواحي المدينة ووضعوها في تابوت على هيئة حب وهو متخذ من الطين المشوي من قطعتين. وإحدى القطعتين هي غطاء الحب. ولحموا القطعتين بالقار وفي طرف الحب أو التابوت ثقب صغير تخرج منه الروائح التي تنبعث من الجثة عند انحلالها.
وكانت توضع الجثة في التابوت وضعا يوافق معتقداتهم الدينية فالقوا الرأس على آجرة لفوها بقطعة مطرزة من النسيج وفيها أهداب ذهبية. وتركوا التابوت في مشكاة معقودة في جدار القبر وجعلوا في القبر حلاها وأدوات الزينة وعلب الحمرة والخضاب وأصباغ الوجه
وأواني العطر وأقداحا وأكوابا وبعض أمتعة البيت وشيئا من الطعام الذي كانت مولعة به في حياتها وتمرا وجرة ماء وأزهار ومسرجة. وبعض تماثيل ونقوش محفورة على حجر وصخر وعلى قطع صغيرة من البلور الصخري والجزع واليصب وحجر الحية وحجر الدم والعقيق والبلور، فكانت هذه الأمور تقدمات خالدة للآلهة تفوق التقدمات البالية منزلة وقدرا أو تعاويذ تصد الأرواح الشريرة عن أذى الراقد أو الراقدة.
رجع المشيعون واخذ بعضهم يتحدث عن سرعة زوال الحياة وعن انتقال تلك الشابة الحسناء إلى (الأرض التي لا دعوة منها) إلى (قعر الظلمة) إلى (دار البلى) إلى (مملكة الأموات العظيمة) التي تسود فيها (اللات) ملكة الموتى، إلى ال (ارلو)
ذي السبعة الأبواب للداخلين فيه وعلى تلك الأبواب حراس يمنعون من يحاول الخروج منه لا ينفذ إليه نور الشمس وإنما تبعث منهم أحيانا آلهة الموتى (اللات) بعثة خاصة إلى الأرض لأذى الأحياء لا يأكلون في الارالو إلا الحما المسنون ولا يلبسون إلا ريش طيور الليل الأدكن وما ملكة الموتى (اللات) أو ارشكيجل إلا آلهة الانتقام، إلا ربة البطش والفتك بالأحياء، إلا سيدة مطلقة عنان القسوة والشكاسة والشراسة تعامل الموتى معاملة فظة مهما كانت سيرتهم في الحياة صالحة أو طالحة فهم في عينيها سواء، تكيل لهم العذاب جزافا ويهيبهم قبح منظرها وسماحة تمثيلها وهي امرأة زباء مشوهة الخلقة متخاذلة الأعضاء وجهها وجه لبوءة كاشرة عن أنيابها. ولها أجنحة واكف طائر جارح، وتهز بكل من يديها حية عظيمة كالحربة تطعن بها عدوها وتسمه بلا رأفة. وولداها أسدان ترضعهما من جسمها. تسير في مملكتها وقوفا أو ركوعا على ظهر حصان يرزح تحت ثقلها وتسحقه سحقا وفي بعض الأوقات تذهب بنفسها لتفتقد النهر المنحدر من عالم الأحياء فتركب وحصانها مركبا جنيا يبحر بلا شراع ولا مجداف ينتهي مقدمه بمنقار طائر وكوثله برأس ثور.
فهذه الآلهة المسيطرة على الكائنات مهيمنة في دولتها مستقلة في إدارتها لا يتدخل في شؤونها أي قدير كان، حتى أن الآلهة أن شاءت الدخول إلى تلك المملكة تخنع لأوامر ملكتها وتعدهم من رعاياها الأموات، أما قرينها نرجل فدونها في السلطة في تلك المملكة ولها جند ينفذون أوامرهم ومنهم (الطاعون) و (الحمى) وغيرهما. مسكينة حترآء لقد قضت أيامها ودخلت أقطار الهاوية فهل لها أن تترضى (اللات) لتمنحها جرعة ماء من (ينبوع
الحياة) ذلك الينبوع الواقع عند عتبة الارالو الذي يعيد ماؤه الحياة إلى الموتى. ولكن كيف الوصول أليه وحراسته موكولة إلى أرواح الأرض السبع - هي سبع - سبع هي - في حفرة الهاوية هي سبع لا هي ذكور ولا هي إناث، لكنها تنتشر كالتيارات - لا تتخذ نساء ولا تلد أولادا أبدا. لا تعرف الرأفة والإحسان - لا تسمع الصلوات ولا الأدعية - تكثر الحقد في الجبال هي أعداء (ايا) هي رسل الموت.