الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشك في الشعر الجاهلي
-
شرارة نار انبثقت في بقعة جرداء، تناولت كل ما جاورها، فأصبحت شعلة عظيمة، هكذا الإسلام ظهر في بقعة صغيرة من جزيرة العرب، فانتشر هذا الانتشار الهائل، وما هي إلا سنوات قلائل، بل ما هي إلا غمضة عين في جفن التاريخ، إذا هو انبث في سوريا، افتتح مصر، اخضع المغرب، أذل الأندلس، دانت له أقاصي فارس، وأطراف الهند، واستولى على أواسط آسيا ولاطم أواسط فرنسا أيضاً، وجميع البلدان التي امتد إليه لهيبه - أمر لم يرو التاريخ مثيلا له، وأندفع العرب في الأثر، فملكوا وأعنزوا وصاروا إلى شيء لم يكن ليخطر لهم بالمنام، ولم يحلم به أجداهم والأباء، وإنما تمكنوا من الدخول إلى هذه البلاد والتسيطر عليها وكانت جميعها في أسوأ حالات الاضطرابات الداخلية التي كانت ترهقها إرهاقا وتستنزف دمها وقتئذ. ففي سورية هرقل لاه بالمجادلات الدينية والمباحثات الفلسفية وفي مصر الشقاق ضارب إطنابه بين القبط والروم والمغرب سادته المنازعات الداخلية، وأسبانية. أرهقتها التحزبات والخصومات بين الملك والأمراء وفارس هدت قوتها الحروب المتوالية، وهكذا أقول عن باقي الشعوب والدول، التي استعمروها، وأنى لهذه البلدان وهذه حالتها، أن تقف في وجوه هؤلاء الغزاة؟ وهذه العصبية الوثابة في الصدور وتلك النار المتأججة في القلوب!!! فهجموا واستولوا عليها وكانت لهم لقمة سائغة وما تربعوا في دست الحكم إلا أخذتهم عزة الملك وأنفة السلطة وارتاحوا من الحروب وهدأت أعمال الفتوحات وانقضى عهد الخلفاء الراشدين لأنه في أيام هؤلاء ما كان أحد يقدر أن يقف في وجههم ولا يعاندهم معاند. ومن تجاسر وأهان العرب أيامئذ أو عيرهم بماضيهم، فما كان الجواب سوى ضربة من هذا السيف، فهو فصل الخطاب، وفضلا عن ذلك كانت العرب تأخذهم عصبية الإسلام، فما كانوا يلتفتون إلا إلى إعلاء شأوه ورفع مناره وبسط ظله
فلما انقضى هذا الزمن وظهرت دولة بني أمية، تلك الدولة التي أعلت شأن العلم عند العرب، أفاق هؤلاء الغزاة من كبوتهم، فإذا هم صفر الأيدي من الآداب، وفي بلاد تفوقهم في الرقي والإمعان في التمدن. لأنها كانت مارست جميع العلوم ونبغت في جميع فروعها وعقدت لها رايات الأولية في أكثريتها، فتنبهوا وعلموا أن لابد لهم أن يجاورهم في هذا
المضمار وألا فليس أمامهم إلا أن يرجعوا من حيث قدموا ثم لا تقوم لهم قائمة بعدئذ، فنظروا إلى الخلف فإذا الإسلام أمامهم وفتوحاته، وما صنعوا في سبيله وما بذلوا لأجله وبه يمكنهم أن يتفاخروا بما فعلوا ولكنهم لقرب العهد به لم يشاءوا أن يتخذه كوسيلة للمفاخرة، فنظروا إلى أبعد من ذلك إلى قبيله فإذا الماضي اغبر لا يبشر بشيء فما هم صانعون؟ أحوالهم ومحيطهم تدعوهم إلى أن يثبتوا لمحكوميهم أنهم قوم كانوا ذوي مدنية ورقي، وانه بشر بالإسلام بينهم قبيل ظهوره وغير ذلك ولكن ليس لديهم مستندات ولا كتب! هنا وقفوا حيارى! أي شيء ينيلهم مبتغاهم؟ ليس لهم طريق آمن من الشعر! فعمدوا إلى الرواة والمختلقين وحثوهم، فذكر الرواة ما يعلق بالفكر وتفنن المختلقون فاختلقوا أشعارا وأحاديث كثيرة، والشعر هو أقرب واسهل ما يتمكن به المرء لإخفاء معايبه وإبداء محامده، وهكذا عمدوا إلى الشعر، وطرقوا بابه، فوجدوه مفتوحا ميسورا.
لا يحمل القارئ كلامنا هذا على غير محمله ولا يظن إننا ننفي وجود ما يدعى بالشعر الجاهلي، كلا! بل أننا بالعكس نؤكد وجوده وإن يكن فيه بعض تحريف مهم وتلاعب. وقد قلنا أن العرب لم يعمدوا إلى المختلقين فقط بل إلى الرواة الصادقين أيضاً ولا ينكر الشعر الجاهلي إلا من كان على عينيه غشاوة وفي أذنيه وقروا بعقله تعصب، كما إننا لا ننفي وجود كثير من الشعر المنتحل، لأن أولئك المنتحلة انتحلوا الشيء الكثير منه وعليه فقد وجب الشك فيه وكما أسلفنا فقلنا أن الشك في ما رواه الرواة نتيجة لازمة لترقية البحث العلمي فإن بين العلماء في أوربا الآن من يقول أن الإلياذة والأوديسة ما كانت إلا جملة أبيات أما الباقي فقد نسج خيوطه بعض القصاص بل أن منهم من يذهب إلى أن
هوميروس نفسه لم يوجد إلا في مخيلة أولئك الرواة وإن الكل انتحال. ولماذا هذا؟ لأن شعر هوميروس هذا يشبه الشعر الجاهلي في إنه لم يكن مكتوبا بل قصه الرواة بعد زمن هوميروس. كل هذا مع ما بلغه الإغريق القدماء من المدنية وأنشئ في تاريخ آدابهم من الكتب الكثيرة الضخمة، فكيف إذن بالشعر الجاهلي؟ وليس بين أيدينا تاريخ ممتع كامل لآدابه العربية؟ فإن ما يدعى عندنا بتاريخ الأدب العربي، ما هو إلا طائفة من المعاني وبعض من أخبار وتاريخ الشعراء والأدباء جمعت (بعضها إلى بعض بغير فقه ولا احتياط ولا دقة!) فالواجب يقضي علينا بالشك في أكثرية الشعر الجاهلي لما قدمنا من الأسباب
ولأسباب أخرى دينية. ولما كان من التنافس بين الأنصار والقرشين وإن بعض الرواة كحماد وخلف الأحمر وغيرهما لم يكن لهم من هم سوى الكسب والفخر!. . . وسنأتي ببعض أمثلة من الشعر الجاهلي في معرض كلامنا.
ومما يزيد فينا الشك هذه الكثرة المعروفة من الشعر الجاهلي وأننا نعلم أن كثيرا منه مفقود كما يخبرنا كتبة العرب أن جزءا كبيرا منه فقد على أثر فتوحات الإسلام بموت كثير من الرواة ومنع تداول ذكر جزء آخر يخالف معتقدات الإسلام أو يمس النبي أو صحبه بشيء، فهذه لو بقيت ولم تصادفها تلك العثرات المزعومة لوجدنا بين أيدينا طائفة كثيرة منه ولاحتجنا إلى مجلدات ضخمة!!! نعم! لا ننكر إنه منع تداول بعض شعر وقصائد، لامية بن أبي الصلت والحطيئة وغيرهما، وهذا من الثابت لدينا، فإن الأول عارض النبي الحنيف وناصبه العداء فوقعت مشادات كثيرة بينهما والثاني ناجز خلفاء وأصحاب النبي. أفليس هو صاحب:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا
…
فيا لعباد الله ما لأبي بكر!
أيورثنا بكرا إذا مات بعده؟
…
وتلك - لعمر الله - قاصمة الظهر!
فكان من دواعي ذلك أن أمر بعدم ذكر قصيدة بها أي تعريض بالنبي أو صحبه وإنما ما بقي لنا من أمثال هذه القصائد تناقله بعض الخوارج فوصل إلينا ونحن نشك بقول هؤلاء الكتبة إنه وجد ذلك القدر الهائل الذي ليمحون إليه. وهذا بقطع النظر عما يلمحون إليه من أشعار أمية بن أبي الصلت وأمثاله
من الثائرين على الدين فجميع أشعارهم يحصر في كتاب. وكيف لا نشك في ذلك القدر الموهوم؛ بينما نحن لا نؤمن بكل ما لدينا لما نرى بين سطوره من رقة الشعور الفائقة والإحساس الزائد عما يحتاج إليه أولئك الأعراب فلو أتاني امرؤ وسألني لمن هذان البيتان:
لو كان قلبي معي ما اخترت غيركم
…
ولا ارتضيت سواكم في الهوى بدلا
لكنه قد لها في من يعذبه
…
فليس يقبل لا لوما ولا عذلا
ما ترددت لحظة في نسبتها لعمر بن الفارض فإنها تشابه شعره كثيرا ولم يكن ليخطر لي على بال إنها لعنترة بن شداد (على حد قول الرواة) وهو أعرابي جلف لم تصقله المدنية. بلى أن عنترة اشتهر ببعده عن بذاءة الألفاظ وحوشي الكلام: وأمتاز دون أكثر شعراء
الجاهلية برقته ورشاقة تعابيره ولكن مهما يكن لا تبلغ به الرقة إلى هذا الحد وبين هذه الكلمات ترى آثار الصنعة والتلاعب، ألم يبلغ بالرواة أن نسبوا لامية بن أبي الصلت هذه الأبيات:
الحمد لله ممسانا ومصبحنا
…
بالخير صبحنا ربي ومسانا
رب الحنيفة لم تنفذ خزائنها
…
مملوءة طبق الآفاق سلطانا
ألا نبي لنا منا فيخبرنا
…
ما بعد غايتنا من رأس محيانا. الخ
فهنا نراه يتطلب نبيا. مع أننا عرفنا إنه من الذين حاربوا النبي وعادوه، فالرواة اختلقوا هذه الأبيات والصقوها به كي يدعوا مجالا للظن أن أمية قد تنبأ بظهور نبي حين أرتجاه ويعتقد به، وإنما معاداته للنبي ما هي إلا لأسباب شخصية بحتة بينهما. فهذا الاختلاق هو من ضمن الأسباب الدينية التي قلنا إنها دعت الرواة إلى الانتحال فهم أرادوا أن يظهروا للملأ إنه تنبأ بالإسلام ويبعث نبي عربي من مكة أو من قريش قبيل أيامه بأعوام وقرون، فاختلقوا ما شاءوا من الأشعار ونسبوها لشعراء الجاهلية وعمدوا أيضاً إلى طرق أخرى وطرقوا غير باب الشعر. فقد بلغ ببعض الرواة المختلقين في بلاد الإفرنج أن ألفوا إنجيلا دعوه بإنجيل برنابا، وفيه تنبئوا عن بعثة الإسلام أو ما يشبهه، وذكر فيه النبي المبعوث وذلك أنهم علموا أن القديس برنابا ألف إنجيلا ولكنه ضاع ولم يصل الينا، فالفوا هذا ونسبوه إليه وقالوا أنهم وجدوه مخطوطا قديما في تلك
الديار. وكل ذلك ليثبتوا أن كبار الأولياء كانوا ينتظرون بعثة نبي عربي وقد أبان هذا الانتحال كثير من كبار علماء المسلمين فضلا عن المستشرقين.
ومن المضحكات المبكيات نسبة هذه الأبيات لعنترة:
فدونكم يا آل عبس قصيدة
…
يلوح لها ضوء من الصبح ابلج!
ألا إنها خير القصائد كلها
…
يفصل منها كل ثوب وينسج!
ومثله:
عبيلة هذا در نظم نظمته
…
وأنت له سلك وحسن ومنهج!
فما أسخف التعبير! وما أظهر الصنعة؟ ومتى كانت العرب في الجاهلية تفاخر ببراعة نظمها؟ هذه الأبيات تشابه قول الزهاوي، شاعر العراق من قصيدته (أيها العلم)!:
تتلى أمامك والجمهور مستمع
…
قصيدة لفظها كالدر منسجم
لشاعر عربي غير ذي عوج
…
على الفصاحة منه تشهد الكلم!
هفوة سقط فيها غير الأستاذ الزهاوي من المعاصرين، لو قرأ هذه الأبيات أجنبي لضحك ملء شدقيه، واستخف بعقولنا! تصفح أي ديوان فرنسي مثلا، وقل لي بربك هل تجد فيه هذا المديح وهذه المبالغات وهذا السخف؟ لا أظنك تجده. وإن جل ما تجده من هذا النوع من المفاخرة والمديح، بعض أبيات عند بوالو ذلك الشاعر الناقد المفلق وعند قليل من مثله، ولكن شتان ما بين هذه وتلك! الفرق عظيم في رقة التعابير ورشاقة النظم، وتناسق التركيب وغيره! ونحنلا ندري كيف هفا الأستاذ الزهاوي هذه الهفوة، بينما نعرفه من المجددين الناهضين وسقط في أمر ظهر في سوق الشعر أيام كساده!!.
وينسب لعنترة أيضاً هذه الأبيات:
والنقع يوم طراد الخيل يشهد لي
…
والضرب والطعن والأقلام والكتب
فكأنه المتنبي حيث يقول:
الخيل والليل والبيداء تشهد لي
…
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فمتى كانت العرب في جاهليتها وفي الحجاز تتقن الكتابة أو تعرفها؟ نحن
نعلم أن عنترة كان أميا والعرب جلها لا تفقه القراءة ولا الكتابة بل كان همها الأهم أن تبحث عن معاشها، وضرورياتها والأخذ بالثار، وشن الغزوات ولا يشذ عن هذه القاعدة، سوى من كان منهم متصلا بالروم أو الفرس فقد كان فيهم تراجمة وكتبة، فأي طريقة بل أية أعجوبة حصلت فأنشأت من عنترة كاتبا؟. . . هنا نستدل على أن أولئك الرواة لم يكونوا ينتحلون الشعر وينسبونه إلى الشعراء الجاهليين، بل أنهم كانوا يخبطون فيه خبط عشواء فينسبون هذا البيت لهذا الشاعر وتلك القصيدة لذاك، بدون فكر ولا روية فلو كانوا أتقنوا الانتحال لقلدوا شعر الشاعر ونسبوه إليه ولبقينا في هذه الأشعار بين الشك واليقين، ولكن لكونهم لم يفقهوا ما صنعوا زال الشك، فلو نسبوا ذلك البيت إلى أمية ابن أبي الصلت أو إلى قس بن ساعدة لشككنا في الأبيات ولم نقدر على تأكيد الانتحال. ومما يماثل هذه الأبيات من قصيدة نسبوها إلى السموأل صاحب الأبلق، شك فيها كثير من العلماء، وفيها ما فيها من التكلف:
ألا أيها الضيف الذي عاب سادتي
…
ألا أسمع جوابي لست عنك بغافل
ألا أسمع لفخر يترك القلب مولها
…
وينشب نارا في الضلوع الدواخل
فأحصى مزايا سادة بشواهد
…
قد اختارهم رحمانهم للدلائل
ومنها:
السنا بني القدس الذي نصب لهم
…
غمام يقيهم في جميع المراحل
من الشمس والأمطار كانت صيانة
…
تجير نواديهم نزول الغوائل. . .
فما أسخفها! وأين هذه القصيدة من قصيدته (إذا المرء لم يدنس) الحماسية؟ فمن يعارض هذه بتلك (يأخذه العجب من الفرق الذي بينهما من حيث طبقة الشعر وجودة التعبير ولعله صادق على قول مجلة المقتطف التي وردت بعض الأبيات (سنة 1806 ص 404) فأردفها الكاتب بهذه الكلمات: (مهما يكن من أمرها فهي حديثة كما قال الأستاذ مرغليوث نظمها أحد الإسرائيليين، وتناقلها الحفاظ فزادوا فيها وحرفوها وناظم: (إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه) بريء منها).
وفي هذه القصيدة تلاعب أيضاً من الحفاظ فإذا صدق الأستاذ مرغليوث في أن أحد الإسرائيليين نظمها فكيف نعلل هذا؟ فهو دون شك لم يختتمها بهذا البيت:
وفي آخر الأيام جاء مسيحنا
…
فأهدى بني الدنيا سلام التكامل
هذا لم يرو في غير نسخة الموصل، فأي يهودي يؤمن أن المسيح أتى؟! إذن لابد أن أحد حفاظها أو قل ناسخ هذه النسخة زادها من عندياته! وهذا يدلنا أيضاً على مبلغ التلاعب والتحريف في تلك الأدوار التي مثلها أولئك الرواة والحفاظ والنساخ أيضاً في نقلهم إلينا أشعار الأوائل على مسرح الأدب.
ولا يغر المرء أن يجد بين الشعر الجاهلي لينا وسهولة، فالعربية لم تتغير كثيرا قبيل نصف قرن من الإسلام، إنما الذي تغير في البلاد العربية وعفا أثره منها تلك اللهجات والتمتعات التي كانت سائدة في اليمن وربيعة وبعض أحياء العرب ولا يذهب حالا إلى أن ذلك اللين فيها دليل على الانتحال بلا تدقيق نظر وأعمال روية فهذه أبيات من معلقة ابن كلثوم بها رقة لفظ وسهولة:
قفي قبل التفرق يا ظعينا
…
نخبرك اليقين وتخبرينا
قفي نسألك هل أحدثت صرما
…
لو شك البين أم خنت اليمينا
بيوم كريهة ضربا وطعنا
…
أقر به مواليك العيونا
وإن غدا وإن اليوم رهن
…
وبعد غد بما لا تعليمنا. . . الخ.
فهل يا ترى هذه الرقة في اللفظ هي التي تدعونا إلى وسمها إنها منتحلة؟ لنمسخ قصيدة برمتها دون ترو ولمجرد الشك في تلك الرقة واللغة! ومن ثم يثبت لنا أن عمرا هذا لم يكن متأثرا بلغة القرآن قبيل ظهوره بلغة قريش؟ وأذن لم هذا الشطط وهذا التعسف! يقول الدكتور طه حسين عن هذه المعلقة: (أن في قصيدة ابن كلثوم وهذه من رقة اللفظ وسهولته ما يجعل فهمها يسيرا على أقل الناس حظا من العلم باللغة العربية في هذا العصر الذي نحن فيه. وما هكذا كانت تتحدث العرب في منتصف القرن السادس للمسيح وقبل ظهور الإسلام بما يقرب من نصف قرن. وما هكذا كانت تتحدث ربيعة خاصة في هذا العصر
الذي لم تسد فيه لغة مصر ولم تصبح فيه لغة الشعر)!. شيء لطيف! من أنبأ الدكتور هذا؟ أهمست به إليه العصفورة؟ أم شيطان الأدب، أدب الإغريق؟ أم جن الشعر، شعر العرب؟ على أي شيء يعتمد حضرة الدكتور في قوله، أن لغة العرب لم تكن تتحدث هكذا قبيل الإسلام بنصف قرن؟ أعلى الآثار الباقية في جزيرة العرب، وأين هي؟؟؟ أم على مخطوطات تلك اللغة العربية المتقدمة، وأين نجدها؟؟؟
كلنا نعلم أن اللغة باقية كما كانت منذ ظهر القرآن ولم يصبها تغير جوهري ولم يستول عليها الفساد. . . دعنا من هذا وأتني بأي قطعة شئت من أي مقال اردت، ولأي واحد من المعاصرين والمجددين، وتعال قابلها بأي قطعة أخرى لأحد العرب الأقدمين ثم قل لي بربك هل هناك من فرق بين هذه اللغة الشائعة في يومنا، وتلك اللغة القديمة؟ لا! ولا أظنك حاصلا على شيء! ولكن رويدك، دعني أتداركني فأقول نعم هناك فرق، وما هذا الفرق إلا نتيجة لازمة لترقي اللغة كما هو رأي دأب اللغات الحية، وهو ينحصر في استعمال بعض ألفاظ شعرية لغوية وحذف بعض كما جرى ذلك في نثر ونظم كل اللغات القديمة وتجده أيضاً في اتخاذ بعض التعابير الجديدة دلالة على المعاني المستحدثة فإن التعابير الموجودة قديما لا تفي مطلوبنا بل لا تساعدنا على قضاء حاجاتنا في هذا العصر، عصر العلوم والكهرباء، فإذا العربية كما كانت باستثناء هذه، عذراء، تامة الحسن في شرخ الشباب، غضة الإهاب لم تعرف الطفولة بل قد لا تعلم شيئا من هذه الطفولة كما إنها لم تعرف
غضون الشيخوخة! فكيف يريد منا إذن حضرة الدكتور طه حسين، أن نؤمن ونصدق أن ما يقرب من نصف قرن كان كافيا أن يجعل هذا الفرق العظيم الذي يتوهمه بين لغة عمرو بن كلثوم والقرآن؟! ستة عشر قرنا لم تقدر أن تغير في هذه اللغة ما يزعمه تغير في نصف قرن فقط! فيا عجباه! أن اللغة الإنكليزية ولا نقول الفرنسية هي أكثر اللغات التي تتغير بسرعة وتتخذ كثيرا من الاصطلاحات الجديدة الغريبة عنها وتندمج فيها. فلغة بيرون وتعابيره، ولغة كيلنج واصطلاحاته، بينهما فرق يذكر،
ولكن هذا الفرق هو دون ما يرى بين لغة القرآن ولغة الشعراء الجاهليين على حسب قول طه حسين!!!
وأننا نرى الدكتور يناقض نفسه بنفسه فيهدم ما بناه. قال هنا أن ذلك العصر عصر ابن كلثوم: (لم تسد فيه لغة مضر ولم تصبح فيه لغة الشعر) وكان قد سبق فقال عند التكلم عن امرئ القيس (فنحن لا نعلم ولا نستطيع أن نعلم الآن أكانت لغة قريش هي اللغة السائدة في البلاد العربية أيام امرئ القيس؟ وأكبر الظن إنها لم تكن لغة العرب في ذلك الوقت وأنها إنما أخذت تسود في أواسط القرن السادس للمسيح وتمت لها السيادة بظهور الإسلام) فهو لا يؤكد هنا أكانت لغة قريش قد سادت في البلاد العربية أيام امرئ القيس أم لا، ويتنازعه الشك فكيف يبيح لنفسه أن يؤكد ذلك حين تناول البحث عن ابن كلثوم؟ نحن نعلم أن امرأ القيس وجد ونبغ قبيل زمان عمرو بن كلثوم وإن يكن نفق على أيامه. فكيف نعلل كلام الدكتور؟
وقد وقع طه حسين في الخطأ الذي يرتكبه أنصار القديم بعينه وعليه لا مهم، ألم يسلم تسليما بقصة الفرزدق مع العذارى، قال: (فالرواة يحدثونا أن الفرزدق خرج في يوم مطير إلى ضاحية البصيرة فاتبع آثارا حتى انتهى إلى غدير وإذا فيه نساء يستحممن فقال: ما أشبه هذا اليوم بدارة جلجل وولى منصرفا فصاح النساء به: يا صاحب البغلة! فعاد إليهن، فسألنه وعزمن عليه ليحدثهن بحديث دارة جلجل فقص عليهن قصة امرئ القيس وأنشدهن قوله:
ألا رب يوم لك منهن صالح
…
ولاسيما يوم بدارة جلجل)
فهنا هوى الدكتور في ما عمل لأجل كتابه فهذه القصة المنسوبة إلى الفرزدق ترى فيها الصنعة مجلوة ويحق لنا أن نصفها بالمنتحلة ونضرب بها عرض الحائط. وقصة زيارة
امرئ القيس لخليلته (وتجشمه ما تجشم للوصول إليها وتخوفه الفضيحة حين رأته وخروجها معه وتعفيتها آثارهما بذيل مرطها وما كان بينهما من اللهو) أقرب إلى العقل وأدنى التصديق من تلك القصة! ولماذا
يريد الدكتور أن نصدق قول هذا الراوي ونكذب قول ذلك؟ لو أراد أن نشك في ما يقدمه إلينا الرواة وكتاب العرب على معرض الأدب لوجب أن نشك في الكل فلا ننتقي ما يوافق فكرنا ونصدقه ولا نضرب ما لا يوافقه عرض الحائط ونكذبه فأين هذا من النقد الصحيح العلمي؟ وهل هذه طريقة ديكارت؟ لا! نحن لا نقدر أن نعلل هذا التذبذب في كتاب (الأدب الجاهلي) وإنما نكتفي فنقول (أن مبدأه حسن يجمل لنا أن نتخذه قاعدة في درس الآداب فنشك عند أول فرصة للشك ونبحث في موضوعه دون أن ننفي بطريقة عامة وحكم بات كل الشعر الجاهلي) كما إنه يحسن بكل دارس الشعر الجاهلي أن يطلع عليه مع قليل من التحذر ففيه نظريات قيمة وملاحظات ثمينة.
ونظن أننا لا نأتي شططا إذا ما نسبنا النصر لهذا الشاعر أو ذاك، فعنترة والنابغة وأمية بن أبي الصلت وقيس بن ساعدة وعمرو بن كلثوم والمهلهل وغيرهم من فطاحل الشعر الجاهلي هم نصارى وإن تكن قصائدهم لا تتضمن مقاطيع تظهر بصراحة نصرانية أصحابها. . . نتحقق أن الشعراء وهم رافعو لواء قومهم لم يكنوا يفترقون عنهم في أمر مهم كالديانة، وفضلا عن ذلك أن خلو أشعارهم من آثار الوثنية ومظاهر اعتقادهم بالتوحيد وبالحياة المستقبلية، وتعودهم الكثير من الأفكار والمؤسسات والأعياد المسيحية، والتعبير اللطيف الذي يستعملونه لذكرها والذي يلزم كونهم في محيط نصراني أو متنصر) كل هذا يهيئ أمامنا برهانا جديدا على صحة نظريتنا فضلا عن أن كثيرا من كتاب العرب ذكروا شيئا عن نصرانية تلك القبيلة، أو ذلك الشاعر.
نكتفي بما أوردنا عن الشعر الجاهلي وعن أسباب الشك فيه وأننا نرى أن هذا الشعر هو خير ما جادت به اللغة العربية وجادت به قرائح الشعراء (وقد أجمع الجهابذة العارفون بنقد الشعر وفنونه الضاربون في سهوله وحزونة أن