الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قاتل أخيه
ما أجهز على المجتمع العراقي من قبل إلا إهمال التربية الصالحة، وإطلاق الوحشية عليه من كل جوانبه؛ وما أخاه الشقاء إلا لتقاعس حكامه وزعمائه عن إنعاشه من كبوته، وتمهيد السبل المأمونة المستقيمة له على أنهم هم المسؤولون عن ذلك لاستيلائهم على خلاقه من المال والثمرات. وكان إذا استأداهم حقه من الإصلاح الذي ابتاعه منهم بماله وثمراته، كانت حال جوابهم منطبقة على المثل المشهور القائل:(الأخذ سريط والقضاء ضريط).
فلذلك صار العراق بيئة للجرائم وبؤرة تتقد فيها الاضطرابات ويضطرم فيها الجهل، ووطيسا يقذف شرار الهمجية وحممها.
شب (ي. ن) في ذلك العهد المشؤوم في ناحية من لواء ديالى كثيرة الجداول والخمائل خصيبة الأرض وافرة النعم. في أسرة مشتملة على رجال ونساء عدة وأطفال أقلاء. ولقد كانت هذه الأسرة معتمدة على زراعتها وأنعامها في أعداد معيشتها واعتاد حاجها ولكن العيش لم يتسع لها ولا رأت منتدحا عن حالها الأولى مع كدح رجالها ودأبهم في أعمالهم.
وكان موطن الشاب المذكور (ي. ن) مكتظا بالزعارة أو شراسة الخلق والأجرام. واكثر عشرائه أشرارا وأغمارا وشطارا فلا غرو أن يكون عنفوان شبابه معفرا بالجهالة والسفالة والشرة وكان والداه في أبان ذلك الشاب المضطرب حيين وله منهما ثلاث أخوات اثنتان متبعلتان والأخرى عانس وأخ كبير أسمه (ع. ن) كان يؤدبه كلما جنف عن الصلاح وينقذه إذا وقع في أمر عصيب.
ولقد كانت المودة مستحكمة بين هذين الأخوين استحكاما تاما. فالصغير يحترم الكبير وينقاد له انقيادا عظيما. والكبير يعز الصغير ويعطف عليه عطفا اخويا ويعوده الشجاعة ومكابدة المشاق ويحميه من كل اعتداء أو تحامل من الناس. والويل والثبور لمن كان يمس أخاه الصغير بضر؛ فإنه يكون
من النادمين المنكوبين بل ويح الذي يماس (ع. ن) نفسه مماسة فيها خشونة فإنه يعرض نفسه لرجل كالصاعقة في انقضاضه وكالليث في غضبه وكالمستبسل المستميت في كفاحه. ولكثرة تخوف الناس إياه وتحاشيهم عن بأسه زاد سطوة وهيمنة، وشهرة حتى سموه (غضب الله).
أما الأسرة فأنها كانت قانعة بعيشها مطمئنة في أفكارها هادئة في حياتها وكان ذانك الأخوان همامين دائبين في زراعتهما راضين بعيشة الاجتهاد والكدح؛ بل قدوة حسنة للذين يعملون عملهما وينافسونهما. وما أحلى الاشتغال بحرية بين المزارع والبساتين والجداول والخمائل بقلوب متعاضدة مؤلفة وأجسام نشيطة وهمم عالية ونفوس مطمئنة.
والذي يقرأ صحيفة حياة الأسرة المذكورة يجد عنوانها (السعادة) وشرح السعادة غني عن التفسير (ورب موضوع فسره عنوانه)، ولما توفيت والدتهم التي كانت حنونا عليهم وقطبا لتحابهم وتعاونهم وإئتلافهم أمسوا بعدها مستعدين للشر معدين له (قرع الظنابيب) ما خلا أباهم فإنه كان عاقلا وديعا لكنه لم يعرف كيف ينهج مهيع التأديب والتهذيب. لذلك لم يقدر على إرواء أولاده من مورد الأدب الكامل والتربية الصالحة فانهم كانوا عطاشا بل هيما لا متعطشين.
بينما كان الآخر الكبير (ع. ن) يرقص أبنه ذات يوم إذ نشب في البيت شجار أو حوار ثم مشاحنة دفعته إلى سب والدته المتوفاة أمام أخيه الشاب فأمتلئ هذا غيظا وحنقا عليه وقال له:
ويلك يا هذا كيف استبحت سب والدتنا التقية البارة ومعاملتنا بغلظة فظاظة؟
أجابه:
أسبها ولا أبالي من أنت يا أيها النذل الرذل حتى تقابلني بهذا الاعتراض والامتعاض؟
ثم هجم عليه ليضربه فراغ عنه هذا وصعد إلى سطح منزلهم هلعا حنقا ثم تجاوزه وانحدر إلى بيت أخته (ع. هـ) المتبعلة وكان قريبا فتناول بندقية كان يعرف مناطها ثم غذ أو أسرع إلى سطح منزلهم أيضاً متوعدا أخاه متهددا إياه بقوله:
أأنت تريد أن تضربني. اغرب عني يا لئيم يا رعديد وإلا رشقتك بقذيفة تعدمك
الحياة فتسكنك القبور.
قال الكبير: من هو اللئيم والرعديد يا جبان. قف لي أن كنت صادقا فسوف أريك الحقيقة. واندفع نحوه صادعا إلى السطح ليفتك به ولكن (ي. ن) هرب من بين يديه بجأش مضطرب وإنذعار شديد. فقد كان لا يطيق الوقوف أمام أخيه الكبير وقوف المخاصم بل المناضل فضلا عن أن عمره لم يتجاوز الثامنة عشرة.
لتلك الأسباب نمت بينهما العداوة وأثمرت وبالا وشقاء. فإن عنوان حياة الأسرة قد تبدل بعنوان (الشقاء) وحملت القلوب أحمال الإحن والضغائن وأمست تنوء بها مهتبلة فرصة تتبدد فيها ويكون ذلك التبدد فاروقا وفيصلا. يفرق أو يفصل بين هذين الأخوين بالعاقبة الوخيمة والمغبة السقيمة. والذي زاد الشنئان أضعافا مضاعفة هو أن أختهما الكبيرة (ع. هـ) وزوجها (ح. ن) كانا يشنئان ذلك الأخ الكبير لكونه شديدا في معاملتهما مفتئتا بحريتهما. مضت على تلك المشادة أيام وهنالك من يضرم سعير العداوة بين الأخوين إضراما مستمرا والذين لا يضرمون غافلون عن تدارك الخطر القريب الوقوع. أما (ي. ن) فإنه هجر أهله وانقطع إلى الأقرباء والبساتين بيد إنه كان يختلف إلى بيت أخته (ع. هـ) فيستفهمها أخبار أخيه ونيته نحوه فلا يسمع منها إلا ما يقلقه ويهوله. بعينها في ذلك (حليلها) فقد كانا يقولان له: (إن أخاك متسلح ببندقية يبحث عنك في مآويك ويسأل عنك الناس فلئن ألفاك ليقتلنك فأحذره).
دخل أخوه مرة عليه وهو في بيت أخته المذكورة فأخفته في حجرة فيها بندقية حتى إذا أراد به أخوه شرا دافع عن نفسه. ولكن (ع. ن) لما سألها عن أخيها الصغير أنكرت وجوده عندها لأمر في نفسها أن تعظم الخلاف بينهما فلا يتفقا بعد أن افترقا. ولو أخبرته بوجوده فلربما صالحه وهادنه.
أما الأخ الصغير فإنه عزم عزما صادقا على اغتيال أخيه لينجو من شره الذي صوره له النمامون وظل يهتبل الفرص للفتك به حتى مر به مغربا وهو كامن له ممسك بندقية فوجهها نحوه وجر زندها فثارت وأصابت قذيفتها بطن أخيه
فمزقت أحشاءه كل تمزيق. وخر على الأرض صريعا. ولقد سمعت إنه استجوب عن قاتله فغلبته الشفقة الأخوية ولم يقر بأنه أخوه (ي. ن) ثم فارق الحياة بعد ساعات فما أعظم رأفته بأخيه فقد دعته إلى الإنكار:
أخوه قاتله عمدا ورأفته
…
به دعته إلى الإنكار والصبر
وانه صار قربانا لرأفته
…
أكرم به من أخ في اليسر والعسر
ثم هرب القاتل المجرم الأثيم كالكلب المكلوب ممثلا للناس عاقبة التربية الطالحة ونتيجة الجهل ومغبة إهمال التأديب وغاية التحريض والنميمة. أما المبتلى فهو المجتمع البائس
الذي لا يبل من مرضه إلا بإبلال أفراده.
سمعت الحكومة بالحادثة فطاردت مرتكب ذلك الجرم العظيم وأمسكته ودحمته إلى غيابة السجن لمدة اثنتي عشرة سنة ابتداؤها سنة (1316) مالية فقضى هذا الشرير قسما منها ثم نجا بالعفو العام. وهو الآن حي يرزق دميم الوجه (كالحريري) أعمش العينين أرمصهما خبيث النفس ولكن الدهر خفف من زعارته وشرته وقد قيل: (نعم المؤدب الدهر) وإن لهذا المجرم جرائم عدة وقد سئل مرة عما دفعه إلى اغتيال أخيه فأجاب:
لا تثيروا أشجاني ولا تنبشوا أحزاني إنه كان شفيقا رؤوفا بي مواسيا وحاميا لي فما أعظم إساءتي إليه ووا حر كبداه عليه. اهـ لقد حرضني عليه الظالمون النمامون من الغرباء وذوي القربى وسرت خباطا في ضلال مبين. (ذلك غدره وهذا عذره) أيد الله المصلحين المرشدين الذين سدكوا بتضميد جروح المجتمع وبث العرفان فيه وأغرموا بمداواة أمراضه ففي ذلك الأجر العظيم.
الكاظمية قرب بغداد: مصطفى جواد
الجزءان الحادي عشر والثاني عشر
يسألنا كثيرون من داخل العراق وخارجه عن صدور الجزأين المزدوجين الحادي عشر والثاني عشر فنقول لهم انهما لم يطبعا إلى الآن لموانع حالت دون أمنيتنا ولعلهما لا يطبعان إلا بعد أربعة أشهر أي إلى أن يتفق لجزء الشهر الواحد أن يصدر في أول يوم منه لأنه إلى الآن لم يستهل لنا ذلك. لكن على كل حال لابد من صدور الجزأين معا. وكل آت قريب.