الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منطق المنطق
هذا بحث طريف لعلي لم اسبق إليه، وموضوعه المعاني التي اشتركت فيها الأمم على اختلاف بيئاتها. وتباين لهجاتها. فوضعت من دون تواطؤ بل يوحي الغريزة إزاء كل منها لفظا يدل عليه.
وهذا البحث لخطورته جدير بمن يطرقه، أن يكون ثابت القد في لغات مختلفة؛ غير أني طرقته وليس في حقيبتي سوى لغتين: العربية والتركية متوكئا في سيري على اللغة العامية التي تكاد تكون لغة قائمة بنفسها، مع شئ يسير لا يستحق الذكر من بعض اللغات المجاورة للغتنا دارا أو استعمالا.
ومع قلة بضاعتي في علم الألسن، بل فاقتي فيه، أقدمت على الكتابة في هذا الموضوع لأنه شاقني، وعسى أن يشوق غيري من لهم ولوع بمثله.
وسوف احرص على اتخاذ الحيطة والاكتفاء بالحد الأدنى دون إرخاء العنان نظرا لفقري الآنف الذكر. وأملي أن ينسج على منوالي - ليكمل مشروعي - من كانوا في اللغات أعلى كعبا، وأطول باعا. ليقوموا بإشباع الموضوع واتراع كأسه أذاهم استطرفوا ما خضت فيه.
وسيكون بحثي مشتملا على مباحث مختلفة منها عامة ومنها ما يتعلق بمفردات اللغة ومنها ما يتعلق بمواد الصرف والنحو ومنها ما يتعلق بعلم البلاغة.
وربما استطردت فأتيت بسوانح لطيفة لم تسخ النفس بإفلاتها بعد اقتناص شواردها. هذا وليعلم القارئ أني لا أستطيع من الآن تحديد الفصول التي سوف اكتب تحت ظلال عناوينها إذ لا أدري ماذا سيعن لي في هذه البيداء المترامية الأطراف، والشعاب الملتوية التي قدر لي سلوكها.
كما ينبغي أن يعلم أني لا اقطع بالإصابة في جميع ما ستجود به البراعة لأني قدمت بين يدي عذرا. وكيف اقطع بالإصابة؟ وأنا حديث الدخول إلى مجاهل لم تجل فيها يراعة كاتب.
لذلك أقول بكل صراحة أن جميع ما سأنشره من الفصول أن هي إلا مسودات
تحتمل الرجوع فيها وتسخر البنان في تنقيحها وتهذيبها وأن نشرت وأذاعت في البلاد.
1 -
لابد لكل أمة من الأمم من ألفاظ موضوعة إزاء المعاني الأولى كل أمة مجتمعة لها لسان تتفاهم به، لا بد أن تضع، بحكم الغريزة إزاء كل ما يقع تحت حسها من الأشياء وما يعرض لها من الحركات والأوضاع الضرورية وما اشعر به شعورا قويا، ألفاظا تدل عليها. وما لم يقع تحت حسها أو لم تشعر به فإنما تضع له عند وقوعه أو شعورها به أي عند تقربه من المحسوسات وذلك اللفظ أما من ثروتها وأما مستعار من غيرها منزل على حكم لغتها.
فالأرض والسماء والهواء والحيوان والنبات لا مندوحة من وضع أسماء تدل عليها عند جميع الأمم وأن كانت في أحط المنازل من الإدراك البشري لأنها المواد الأولى لحياتها فلا يعقل أن تفترش الأرض. وتسير عليها، وتشرب الماء، وتركب الحيوان. وتأكل النبات، وتقي العواصف، وهي عارية عن الأسماء التي تدل عليها عند تحريها والالتماس لها والإشارة إليها.
ومن هذا القبيل الحركات والأوضاع التي لا مناص من طروءها كالقيام والقعود والاضطجاع والمسير والأخذ والعطاء وكذلك ما يقوي شعورها به كالجوع والعطش.
وإذا تقدمت الأمة وطرأ عليها أمر زائد على ما ذكرنا كالكوز لحفظ الماء والصفحة لوضع الطعام والمنشار لقطع الشجر، اضطرت إلى إحداث أسماء لهذه الحاجيات المستجدة.
ومن هذا القبيل الحركات المتفرعة عن الحركات الابتدائية كالهرب هو فرع من الذهاب والعدو من المشي والغناء الذي هو فرع من الصوت، وكذلك ما يفيض به الخيال عند اتساع نطاقه كالحياء والوفاء والبخل والسخاء والرياء والنفاق من المعاني التي لا يعقل وضع ألفاظ إزاءها في الابتداء.
وعلى هذا النسق تنمو شجرة اللغة وتنجب اغصانها وتزكو ثمراتها. كل لغة على حسب مرتبة أهلها من الثقافة وممارستها لمعترك الحياة.
دعني الآن اضرب لك مثلا: امتنا قبل مائة سنة فأنها لم تضع كلمة (قطار) ولا (طيارة) ولا (سيارة) بالمعاني المعروفة اليوم حتى طرقت مسمياتها بلادنا