الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 60
- بتاريخ: 01 - 06 - 1928
الأخطل
بقلم الأستاذ الشايب مدرس الأدب العربي في المدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية
1 -
لعل الأخطل أكثر الشعراء الإسلاميين اتصالا بالعصر الجاهلي في أغلب نواحيه، إن لم يكن في كل نواحيه، ولعل القدامى لم يخطئوا حين قالوا: لو أدرك الأخطل الجاهلية لما فضله أحد في الشعر. وما عساك تبغي من شاعر انتهت إليه البلاغة الجاهلية في فنه وموضوعه ونزعته ثم أضاف إليها عصارة الحياة الإسلامية في أولها، أي حين كانت الحكومة العربية الدولة الإسلامية خالصة العروبة والدين، لم تشبها حضارة فارس واليونان، ولم تتورط فيما تورطت فيه من السياسة الفارسية والنزعة الغربية أيام بني العباس، فإن نحن عرضنا اليوم لدرس هذا الشاعر الفذ فإنما ندرس النفس العربية في بدايتها من جهة، وفي فنونها الأدبية من جهة ثانية، وفي أسلوبها الحكومي أو السياسي من جهة ثالثة، ثم صلابتها الخلقية والدينية آخر الأمر. ولقد يخطئ المؤرخون الذين يعتبرون رجال التاريخ وحدات مستقلة عن الدنيا كأنهم هبطوا من السماء،
أو كأنهم مضارب صحراوية لا يتصلون بالحياة التي عاشوا في جوانبها وتأثروا بمظاهرها فكانوا هم مظهرها، كما قد يخطئون الرجل بسني حياته فقط أو بعصره الذي عاش فيه. وفي الحق أن رجال التاريخ الأدبي اوالفلسفي أو العلمي ترجع حياتهم في بداءتها إلى قبل عصورهم بل إلى أقدم عصور التأريخ البشري ما دمنا نؤمن بنظرية الإرث العقلي وتواصل الجهود العالمية، فيكون الفرد العلمي منا صلة بين الماضي والمستقبل، لأنه ثمرة السابقين ومقدمة اللاحقين. وهكذا نجد الاخطل في شعره ومذهبه الفني.
2 -
ففي خلافة عثمان بن عفان. وفي جهات الجزيرة الفراتية بين تغلب نشأ الاخطل نصرانيا كأغلب قومه يحترم دينه لحد ما، غير متأثر بتلك الديانة الإسلامية التي تزخر حوله وتقوم عليها الدولة الجديدة والحكومة الفتية، وهذا يدل على احترام الاخطل النصرانية دينه ودين آله، ثم يدل كذلك على تسامح الحكومة الإسلامية والشعب المسلم، فلقد كان النصارى يعيشون آمنين ناعمين ليس للنعرة الدينية ذلك الشأن الذي يحول بين القلوب ويفرق النفوس، بل نزيد على ذلك أن الاخطل كان مقدما لدى حكومة أمية، وإن كان سبب ذلك
مذهبه الأموي في الشعر ونصرته دولتهم أمام أعدائهم من الشيعة والخوارج. ولأجل أن نفهم مذهب الاخطل في الشعر وفي السياسة العصبية يجب أن نرجع إلى زمن الجاهلي ليعلم أن أشهر القبائل العدنانية ثنتان: مضر وربيعة، ومن ربيعة بكر ثم تغلب قبيلة الاخطل، وبين مضر وربية منافسة شديدة منذ القدم ظهرت آثارها في المهاجاة بين جرير والاخطل، كذلك كانت منافسة بين بكر وتغلب وحروب في الجاهلية امتدت عصبيتها إلى ما بعد الإسلام ومن غريب الأمر أن يحتفظ الاخطل بعصبيتة الربعية وإن ينسى الفرزدق مضريته وينضم إلى الاخطل ليقف في وجه المضري، كما قد يكون من الغريب أن ينسى الاخطل نفسه وقبيله أمام القرشيين الأمويين فيضرب بهم سائر عدنان ثم الأنصار من اليمن، ولكن التفرق السياسي في ذلك العصر هو الذي حكم على هؤلاء الشعراء بالتنابذ كما يحكم على الصحف العصرية الآن فتتهارش وتساب!!!
3 -
وكيف أفاد الاخطل شعره؟ وهنا أيضاً سنعود إلى العهد الجاهلي فنرى مسألة أخرى عربية: نرى أن مدرسة مضرية - أستاذها أوس بن حجر، ومن تلاميذه زهير والنابغة ثم كعب بن زهير والحطيئة - تعتمد في فنها الشعري على أمور ظهرت واضحة في آثار تلاميذها حتى لتشعر انهم صورة واحدة يأخذ بعضهم من بعض. من هذه الأمور التأني في عمل الشعر وتهذيبه قبل إذاعته ليكون محكم النسج، قوي الأسر، لا اضطراب فيه. وأنت تعرف حوليات زهير وقصائد النابغة والحطيئة، وتشعر بما فيها من استواء وأحكام. وكذلك كان الاخطل يهذب شعره فامتاز بجزالته، وقوة استوائه، وأسره، وكان يبقي من القصيدة وينفي سائره. ويمكنك أن تقرأ قصيدة:
خف القطين منك أو بكروا
…
وأدركتهم نوى في صرفها غير
التي يمدح بها عبد الملك بن مروان لتعرف أثر التهذيب وإبداع الصنعة الفنية، ومن تلك الأمور العناية بأنواع التشبيه والمجاز والكناية. ويعتبر عهد هذه المدرسة أقدم العصور الصحيحة لهذه الفنون البيانية التي ظهرت آثارها بعد في شعراء العصر العباسي بعد ما نقلها إليهم الاخطل، والحطيئة، ومروان بن أبي حفصة وغيرهم. ولا يزال رجال البلاغة إلى اليوم يستشهدون ببيت زهير:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطلة
…
وعرى أفراس الصبا ورواحله
ولا تكاد تخلو قصيدة الاخطل من هذه الأنواع البيانية.
ومنها الاعتماد على المحسنات فيما يذهبون إليه من تشبيه ومجاز. فكأنهم يريدون نقل الطبيعة إلى أساليب القول كما ينقلها الراسم في لوحته. كذلك يتبعون الأمور الواقعة والحوادث فيصورونها كما هي مرتبة حقة لا مبالغة فيها ولا زيادة. ويمكنك أن توازن بين زهير والاخطل في صدر المعلقة، وفي قصيدة الاخطل التي سبق مطلعها.
وهذه الميزات تلفتنا إلى أمرين هامين: أحدهما - أنها تمثل الشعر العربي في أول أطوار نضجه حيث يعتمد على الطبيعة والحس دون الخيال البعيد الذي لا يظهر إلا في الأطوار الأخيرة بعد النضج العلمي والفكري بانتشار العلوم
والثقافة، وثانيهم - أنها ساعدت في إثبات كثير من الشعر الجاهلي حين عرض له الشك والانتحال أمام مذاهب النقد الحديثة.
فاستكشاف هذه المدرسة المضرية كان ذا أثر ثمين في تحقيق شعر تلاميذها، وفي إقامة الفنون البيانية في فجر التاريخ الأدبي.
نقول أن الاخطل درس في هذه المدرسة المضرية واخذ عن تلاميذها، فكان شعره صورة صادقة من شعرهم، ولولا شيء من موضوعاته الاجتماعية والسياسية والتاريخية لأضيف شعره إلى الجاهلية دون خوف من أصول الفن!
ولم يقتصر الاخطل على احتذاء هؤلاء في طريقة التشبيه، واخذ المعاني وتربيتها وتهذيب الشعر وأحكامه، بل تعدى ذلك إلى معارضة قصيدهم واخذ عباراتهم برمتها ونصها.
عارض النابغة في داليته، وعارض كعبا في لاميته وعارض زهير في أكثر شعره، واخذ منه الشطرة والعبارة وأخذاه حتى في أجزاء القصيدة الواحدة. ترى ذلك إذا قرأت شعرهم جميعا، ولولا خوف الإطالة لوضعت يدك على أمثلة كثيرة.
ووجه الغرابة في ذلك أن الاخطل ربعي فكيف يأخذ شعره عن مضر؟ قد يكون سبب ذلك أن ليس لربيعة شعر جاهلي صحيح يأخذ عنه الاخطل، وقد يكون السبب أن الشعر المعروف لربيعة مهلهل النسج ضعيف الأسر لم يرق الاخطل فيحتذيه، فأختار الشعر المضري نموذجه فأفاد منه. وإتماما للموضوع اذكر الأعشى وهو ربعي يقرب مذهبه من مذهب المضريين، ولعل الاخطل أخذ عنه شيئا واحدا موضوعيا وهو القول في الخمر.
وأما من عدا الأعشى من شعراء ربيعة فشعرهم مضطرب النسيج.
4 -
بعد أن نبغ الاخطل وجد في قومه شاعرا هجاء أيضاً هو كعب بن جميل التغلبي، اشتبك معه الاخطل في الهجاء فأخمله الاخطل، وأحتاج يزيد بن معاوية إلى شاعر يرد على الأنصار عدوانهم فذهب إلى كعب فأبى وخاف معاوية ولكنه دله على الاخطل، يريد إيقاعه في الشر، فكان الخير في ذلك للاخطل
إذا اتصل خلفاء أمته وكان فيما شاعرهم المقدم.
ولشرح ذلك أيضاً يجب أن نعود إلى العصر الجاهلي وصدر الإسلام. فقد كان بين اليمن والعدنانيين عداوة سياسية جاهلية ازدادت منذ ابعد الأولون الحكم الإسلامي بعد وفاة الرسول وحصر الحكومة في قريش. ثم انتقلت العداوة بين البيوتات العدنانية أو المضرية، فكانت منافسة بين القبائل المضرية، وكانت بين بيت هاشم وأمية، ظهرت واضحة حين وقف علي ومعاوية كل لصاحبه ونتج عن ذلك انتقال الحكم إلى بني أمية على يد معاوية بن أبي سفيان.
وجد الأمويون أنفسهم أمام أعداء عديدين: اليمنيون ومنهم الأنصار سكان المدينة حين ظهر الإسلام والقبائل العدنانية الأخرى، ثم الهاشميون من قريش وكذلك الخوارج الذين أتعبوهم كثيرا، فلم يكن من معاوية إلا أنه تألف القبائل العربية، وهدأ العصبيات مدة حكمه، فما هو إلا من أن مات حتى ظهرت العصبيات شديدة، وكانت نتائج سياسية وأدبية معروفة.
ولم تكن صلة الاخطل بيزيد بن معاوية إلا ظاهرة من هذه الحال السياسية التي تقسمت العرب إليهم حمية الجاهلية الأولى. فوقفت الأحزاب تتحارب وتتنافس حتى قضت على الحكومة الأموية أولا وعلى الدولة الإسلامية أخرا. وكان لا بد للعصبية الأموية من شاعر ينصرها، وصحيفة تدفع عنها، والصحف الكبرى في ذلك العهد ثلاث: جرير والفرزدق والاخطل. فأما جرير فناشئ لم يظهر على أنه متأثم متحرج، فكيف يقف مع أمية في وجه بيت هاشم بيت الرسول؟ فاعتدل ولم يذم الهاشميين، كما أنه مدح الحكومة طلبا للمال والاحتماء بها. وأما الفرزدق فكان شيعيا وإن مدح الحكومة أحيانا أو حملته الحكومة على مدحها ونفحته بالمال اتقاء لسانه وشره، فلم يبق أمام البيت الحاكم سوى الاخطل الذي لا يعني بالمسألة الدينية الإسلامية، كما لا تهمه الحكومة ونوعها فوجه فيها الأمويون طلبتهم،
وأضافوه إليهم وسموه شاعرهم واحتملوا أن يشرب ويدخل ثملا بل أن يشرب في منازلهم وإن يدل عليهم، ذلك لأنه صحيفتهم ومادحهم الخاص. فضربوا به جريرا والفرزدق، وأغنوه بالمال الجزيل. وأما حكايته مع يزيد بن معاوية فتلك أن عبد الرحمن بن حسان
ابن الأنصاري شبب برملة بنت معوية أخت يزيد، فوسع ذلك حلم معوية، ولكن يزيد حمل الاخطل على هجاء عبد الرحمن هذا والأنصار فقال من ذلك:
ذهبت قريش بالسماحة والندى
…
واللؤم تحت عمائم الأنصار
فذهب زعيم الأنصار إذ ذاك وهو النعمان بن بشير إلى معاوية وحسر عن رأسه وقال له: أترى لؤما؟ فقال: لا بل أرى كرما وخيرا. ما ذاك؟ قال: زعم الاخطل أن اللؤم تحت عمائمنا. . . وكاد الاخطل يقع في شر لولا أن يزيد أنقذه، فمدحه ومدح خلفاءه حتى مات في خلافة الوليد بن عبد الملك سنة خمس وتسعين هجرية فانظر تلك العصبيات وآثارها، وانظر الفرق بين دهاء معاوية وقسوة يزيد الذي ضرب الأنصار في المدينة بعد موت أبيه في واقعة (الحرة) المشهورة انتقاما منهم منذ ضربوا قريشا في واقعة بدر أيام الرسول حتى قال أحد شعراء أمية في نكبة المدينة:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
…
جزع الخزرج من وقع الأسل
5 -
عاصر الاخطل جريرا والفرزدق، وهاجى جريرا وغيره، وفخر عليهم ومدح الحكومة الأموية حين غضب عليها الشيعة والخوارج وغيرهم، وكان هؤلاء الثلاثة هم الصحف السياسية للعصر الأموي وأقوى الشعراء فنا وأعلاهم مكانة ولعل الاخطل يمتاز بأنه اصدق تمثيلا لساسة الأموية ودعوتها في استحقاق الخلافة والملك. ولكن مسألة الهجاء كانت مشغلتهم جميعا. لان الخلفاء كانوا يزيدونها لهبا ليشعلوا الشعراء والقبائل بأنفسهم حتى لا يفزعوا للحكومة ويناقشوها الحساب على قاعدة (فرق تسد) فانضم الفرزدق إلى الاخطل وتهافت عليهم عشرات الشعراء يهجون جريرا، فأخملهم جميعا؛ ولم يثبت إلا صاحباه هذان، على أن الفرزدق كان أفخرهم لحسبه ونسبه وكان جريرا أسيرهم شعرا وأسلمهم أسلوبا وأكثرهم فنونا حين كان الاخطل أوصفهم للخمر وأحسنهم مديحا وأطهرهم هجاء.
وهنا يمكننا أن نوجز القول ونختصر فنون الاخطل الرئيسية في المدح