الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جناية الرواة على الشعر
.
بقلم الأديب الناقد البصير الأستاذ عبد القادر عاشور من كبار أساتذة الإسكندرية
بمصر
إذا كان الشعر عند الغربيين مظهرا من مظاهر الصراع بين الحق والباطل فإنه عند العرب أعم وأوسع، إلا أن الذكر الحكيم كفى شعراء العربية مؤونة التعرض لكثير من الأغراض كأخبار الأولين والحث على اتباع ما كمل من العادة والأخلاق، وكأن الشعراء عندما بهرتهم بلاغة القرآن سقطوا في أيديهم ونسوا الحرية والصراحة اللتين هما أساس نمو الشاعرية وتلهب الوجدان، وأجبل منهم من أجبل، حتى أن لبيد بن ربيعة هجر الشعر ولم يرو له في الإسلام غير بيت واحد، وهو - على بعض الروايات:
ما عاتب الحر الكريم كنفسه
…
والمرء يصلحه الجليس الصالح
وكان إذا سئل عما قال من الشعر بعد الإسلام يتلو بعض آيات من القرآن! وأيقن كثير من الشعراء بعد ذلك أنهم لن يتمكنوا من الظهور كشعراء إلا بعد أن يتخذوا لهم إماما من شعر السابقين يحتجون به إذا اعترضهم معترض ومن شذ منهم عن هذه القاعدة وركب متن الحرية سلم من التقليد وقصر العاطفة وجاء شعره كله إبداعا في إبداع كابن ربيعة وابن أذينة والعرجي.
وفي بدء عصر بني أمية ظهر الرواة الذين أفسدوا الشعر وانتحلوه وأجبروا الشعراء على ارتكاب ما سود صحيفته ونزل به إلى الحضيض وأملوا عليهم رغباتهم واضطروهم إلى الشطط في الصناعة والتكلف واصطياد الغريب والحوشي ومكانتهم السامية لدى الملوك والأمراء وكلمتهم النافذة في الحكم على الشعراء أخذت بلب كثير من محترفي الشعر فأصبحوا ولا هم لهم غير إرضاء الرواة والتزلف إليهم أو معارضتهم والظهور عليهم كما كان يفعل الطرماح بن حكيم فإنه كان يسأل الأعراب عن الغريب ويضعه في شعره ليتحدى به علماء الشعر ونقدته وبهذا سمت منزلته عندهم حتى أن أبا عبيدة والاصمعي فضلاه على غيره من الشعراء وزعما إنه أشعر الخلق في بيتيه:
مجتاب حلة برجد لسراته
…
قددا واخلف ما سواه البرجد
يبدو وتضمره البلاد كأنه
…
سيف على شرف يسيل ويغمد
وكلنا يعلم أن في هذا الاستحسان من الخطل ما فيه! غير أننا بازاء هذا الاختيار نعذر الشعراء ونضع اللوم كله على عاتق ما نصبوا أنفسهم للتقدير والحكم وكيف لا نلوم الأصمعي على استحسانه الاستحسان كله قصيدة المرقش:
هل بالديار أن تجيب صمم
…
لو أن حيا ناطقا كلم
مع إنك لو جست خلالها لوجدتها معقدة اللفظ رديئة السبك خاملة الخيال مختلة الوزن؟!! ولا أدري كيف استحسن قول الشاعر:
ولو أرسلت من حب
…
ك مهبوتا من الصين
لوافيتك قبل الصب
…
ح أو حين تصلين؟!
ومن الرواة من كان يستحسن الفج الغليظ من الشعر ويستملح ما كان على شاكلة قول ذي الرمة:
رمتني مي بالهوى رمي ممضغ
…
من الوحش لوط لم تعقه الاوالس
بعينين نجلاوين لم يجر فيهما
…
ضمان وحيد حلي الدر شامس
ولم يحفل بشعر ابن أبي ربيعة وقصيدته التي ابتدأها بقوله:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
…
غداة غد أم رائح فمهجر
على ما فيها من إبداع وطول نفس! وأنها لتحمل قارئها على السير فيها بشوق ولذة. ولما سمع المخزومي قول عروة بن أذينة:
ولهن بالبيت العتيق لبانة
…
والبيت يعرفهن لو يتكلم!
لو كان حيا قبلهن ظعائنا
…
حيا الحطيم وجوههن وزمزم!
إلى آخر الأبيات قال: إنه اهجر واخطل!! ويعلم الله أي الرجلين اهجر واخطل. . . وزعم العتبي أن قول جرير:
أن العيون التي في طرفها حور
…
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا!
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
…
وهن اضعف خلق الله أركانا!
ليس له كبير معنى!. . مع أن معناه - كما قال أبو هلال العسكري - غاية الحسن والجودة.
ولما شاهد الرواة روج التجديد تكتسح القديم وتطرده من ربوعها قابلوا ذلك بازدراء الحديث وإنكار فضله، وبالتشهير بكل من يعرفون فيه بعض التمرد على القديم، من ذلك أن إبن الأعرابي كان يأمر أن يكتب جميع ما يجري في مجلسه فانشده رجل يوما أرجوزة أبي تمام في وصف السحاب على إنها لبعض العرب:
سارية لم تكتحل بغمض
…
كدراء ذات هطلان محض
موقرة من خلة وحمض
…
تمضي وتبقي نعما لا تمضي
قضت بها السماء حق الأرض
فقال ابن الأعرابي: اكتبوها! فلما كتبوها قيل له إنها لحبيب بن اوس فقال: خرق خرق لا جرم أن أثر الصنعة فيها بين!! فأنت ترى أن أبا تمام أغرب فيها الأغراب كله وتتبع آثار من سلفوا من الرجاز كابي النجم ورؤية حتى أشكلت على ابن الأعرابي ولكن ذلك كله لم يشفع له بل خرقت تخريقا!! لا لأن أثر الصنعة فيها بين بل لأنها شعر حديث! ومن أين يأكل ابن الأعرابي وأمثاله إذا حل الحديث محل القديم؟! على أن كثيرا من الشعراء اشتد حرصهم على إرضاء الرواة وتغالوا في أن يكون لكل بيت من قصيدهم معنى يستقل به عن سابقه ولاحقه مع تحميل بعضها ما لا يطاق من لفظ غريب وقواعد شاذة ليسير سير المثل وليتداوله الرواة في مجالسهم وعلماء النحو والغريب في حلقات الدرس!! وكان الفرزدق شيخ الشعراء الذين نحوا هذا المنحى واتبعوا هذه الطريقة شهد له بذلك ابن سلام في قوله: (كان الفرزدق أكثرهم بيتا مقلدا) والمقلد البيت المستغني بنفسه المشهور وذلك كقوله:
ولو خير السيدي بين غواية
…
ورشد أتى السيدي ما كان غاويا
ومن الذي كان يعجب النحويين هذا البيت:
وما مثله في الناس إلا مملكا
…
أبو أمه حي أبوه يقاربه!
ومن الذي كان يعجب النحويين هذا البيت:
وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه!
وكذلك:
ألستم عائجين بنا لعنا
…
نرى العرصات أو أثر الخيام؟
فقالوا:
إن فعلت فاغن عنا
…
دموعا غير راقئة السجام
هذه الأشياء كلها مجتمعة جوزت للشعراء ما لا يجوز وأباحت لهم الانتحال والسرقة والغصب وحصرت الشعر في دائرة ضيقة! وكم من شعر نسب إلى
غير شاعره وشعراء لم يأنفوا من اغتصاب ثمرة مجهود غيرهم الفرزدق يغتصب قول جميل:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
…
وإن نحن أومأنا إلى الناس
وجرير ينتحل قول العملوط السعدي:
أن الذين غدوا بلبك غادروا
…
وشلا بعينك لا يزال معينا!
غيضن من عبراتهن وقلن لي
…
ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟!
وينتحل أيضاً قول طفيل الغنوي:
ولما التقى الجمعان ألقيت العصا
…
ومات الهوى لما أصيبت مقاتله!
وكان أبو نواس يبني أكثر شعره على معاني غيره: يدل ذلك على ما جاء في (الأغاني) من أن اسحق الموصلي انشد شعرا لأبي الهندي في صفة الخمر فاستحسنه وقرظه فذكر عنده أبو نواس فقال: ومن أين أخذ أبو نواس معانيه إلا من هذه الطبقة وجعل ينشد بيتا بيتا من شعر أبي الهندي ثم يستخرج المعنى والموضع الذي سرق الحسن فيه حتى أتى على الأبيات كلها واستخرجها من شعره. وذكر صاحب (الأغاني) أيضاً أن قول أبي نواس: (وداوها بالتي كانت هي الداء) مأخوذ من قول الأعشى: (وأخرى تداويت منها بها) وإن قوله: (أن الشباب مطية الجهل) مأخوذ من قول النابغة الجعدي: (فأن مطية الجهل الشباب) ولكنه أبو نواس شاعر الخلفاء والمشهود له بالفضل بين جمهرة العلماء. . .!! وهكذا ظلت هذه العيوب لاصقة بالشعر حتى يومنا هذا ولم يجرؤ أحد من شعراء نهضتنا الحالية على مناوأتها والقضاء عليها غير نفر قليل وعندما حبب إلى (أمير الشعراء) شوقي) التجديد نهاه عن ذلك (آفة اللغة الجامدون) وأغروه بأماني أسرت لبه وصادفت هوى في نفسه فرجع إلى القديم من الشعر يتوكأ عليه ويحتذيه والى الغريب من اللفظ يفسد به شعره والى الحكم المعادة والأمثال البائدة (يحشرها) في كل قصيدة من قصائده ليكون حافظ اللغة وحجتها ولو علم لترك شاعريته تنمو وبيانه ينطق بما يعتقد ولم يسمع لهؤلاء الذين أخمدوا قريحته
وحادوا به عن الجادة ولكن ما الحيلة والله لم يرد إلا أن يكون كذلك؟!