الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
افتقار اللغات قاطبة إلى الاستعانة بالإشارات
واللهجات
يستحيل أن نظفر على وجه المعمورة بإنسان ينبعث للكلام هنية، فلا يحتاج إلى الاستعانة في تأدية أغراضه بحركات، ولهجات بأصوات متباينة الأجزاء. صعودا وهبوطا، وشدة ولينا، للدلالة على النفي والإثبات، والرفض والقبول. والأمر والنهي، والسخط والرضى، والجلد والجزع، إلى غير ذلك.
ولعل هذه الحالة ورثها البشر عن عهد كان يؤدي فيه مقاصده بالإشارات، تصحبها أصوات غير هجائية أو هجائية أحادية ثم ثنائية حتى بلغ الكمال في التعبير: لكنه كمال نسى لا حقيقي، إذ لو كان حقيقيا، لاستطاع الإنسان أن يعبر عن جميع مقاصده مستغنيا عن الإشارات واللهجات وهذا ما يخالفه الواقع.
فلو فرضنا أن أنسانا كلف الأعراب عما يدور في خلده. على شرط سكون جوارحه، وهدوء عينيه، وركون اساريره، واستمر حديثه بضع دقائق. لوجدت علائم الضجر بادية على وجهه، ولا يقتصر الضجر على المحدث بل يشاركه فيه المصغون إلى حديثه فيستفزهم الملل كما إنه لا يطمئن إلى حديثه في إماطة اللثام عن رغائبه كما يجب.
وهذا الافتقار يختلف باختلاف المواضيع، فمنها ما يحتاج المحدث إلى الافتنان فيه، كأن يكون الموضوع خطابيا، أو تمثيليا، يراد به حسن الوقع في النفوس؛ فكم من رواية كرر تمثيلها فاستحملت تارة، واستهجنت تارة أخرى مع أن الألفاظ واحدة: لكن الذي ألقى تلك الألفاظ في إحدى المرات كان امهر في إتقان الحركات والتفنن في الإشارات ممن ألقاها في المرة الأخرى.
إلا أن الافتنان في مثل هذا أمر فضلة لأن التأثير وحسن الوقع ليسا من غايات الكلام المباشرة. فإن فقرات الرواية تفهم بمجرد إلقائها، سواء أتفنن فيها، أم لم يتفنن؛ بل للغاية المباشرة للكلام هي الإفهام لا غير.
فلنجعل موضوع بحثنا قضية الإفهام فحسب، بيد أن ذلك لا يعيننا على إنقاذ اللغات من
النعت بالافتقار.
ألا ترى إنك إذا قلت: (ما أخذت كل الدراهم) مثلا احتمل كلامك وجهين: أنك أخذت بعض الدراهم، وانك لم تأخذ منها شيئا، وتضطر في التعبير عن المقصد الأول إلى إظهار شدة الارتباط بين الفعل والمفعول به، بتعجيل النطق بالكاف بعد التاء، وتضطر في التعبير عن القصد الثاني إلى أحداث فترة لطيفة بينهما.
نعم أن الناطق ليفعل كل ذلك بسائق الفطرة، دون الانتباه لسرها الخفي. ففي الفرض الأول اعتبر أن الجملة كانت في الأصل مثبتة، ثم ادخل عليها حرف النفي، أي أن أصل الكلام كان:(أخذت كل الدراهم) ثم سلط السلب عليه لثلم كلية الأخذ، فانقلبت جزئية فكانت تقوية الاتصال بين الفعل ومفعوله إيذانا بأنهما مقترنان من قبل، أي قبل إدخال حرف النفي، ولولا ذلك، لما انتقل ذهن السامع إلى الغرض.
وفي الفرض الثاني أحدث فترة بين الفعل ومفعوله، للدلالة على أن الفعل، إنما سلط على المفعول به بعد مصاحبته للسلب.
ومن هذا الباب قول الترك: (بر آلما يدم) مثلا، وذلك أنهم قد يقرنون الكلمة بلفظة (بر) للدلالة على الوحدة، وقد يقرنونها بها للدلالة على التنكير. فترجمة العبارة السابقة:(أني أكلت تفاحة واحدة) أو (أكلت تفاحة) فإذا أراد المتكلم المعنى الأول نطق بالراء بإزعاج كأنه يحاول مصادمة مدع إنه أكل أكثر من ذلك، وإذا أراد المعنى الثاني نطق بها بهدوء وسكون لأنه لم يقصد بلفظة (بر) معناها الأصلي المستحق للاهتمام، بل أتى بها لتكون أمرا عرضيا كالتنوين في اللغة العربية.
ولعل من دواعي اختراع البشر للموسيقى، عجز اللغات عن ترجمة ما تفيض به العواطف، مما لا يستطيع اللسان ترجمة أكثره، إذ تكتظ الجوانح بما لا قبل لها وبه وتضطر إلى نفث ما عندها طلبا للتخفيف عن النفس وإذ لا تصادف بغيتها عند اللسان، تفزع إلى الآلات التي يكل اللسان عن مجاراتها، من عود اخرس، ووتر ابكم، إذا اجتمعا كانا افصح ناطق.
محمود الملاح