الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 58
- بتاريخ: 01 - 04 - 1928
بي بروا
-
في كتب مشاهير الرجال ونوابغهم. لا نرى أثرا لمن نبه من أصحاب المهن والصنائع والفنون؛ ولا نقرأ شيئا عن أولئك الرجال الذين كان لهم منزلة عظيمة في طبقتي الأمة الوسطى والدنيا، كما لا نجد وصف البيئة لتلك الأيام في أكلها وشربها، وانسها، وسكنها، وفرحها، وحزنها، إلى ما ضاهى هذه الحالات.
على أننا إذا قلنا: لم نر، ولم نجد، ولم نقرأ، فليس معناه التعميم والاطراد الذي لا شاذ فيه، فقد وجدنا في أيام العباسيين رجالا تصدوا لمثل هذه الأبحاث، لكنهم يعدون على الأصابع، بالنسبة إلى ما دون في سائر المواضيع والمعاني، فلقد كتب لنا أبو الفرج الأصفهاني، والجاحظ، والقاضي التنوخي، أمورا يحسدهم عليها أرقى الأمم في عهدنا هذا.
ونحن الآن في عصر تولي فيها العادات والأخلاق والبيئة العربية وتدبر أدبارا لا عودة لها إليها ومع ذلك ليس من يفكر في هذا الانتقال فيدون ما يراه اليوم ليكون سندا يعتمد عليه الجيل القادم في ما كان في هذا العهد.
ولقد انتبه إلى هذا الشأن الخطير حضرة المفكر الاجتماعي أحمد حامد أفندي
آل الصراف. فاخذ يطوف القراء بما يلاحظه في هذا الموضوع والفضلاء يطالعون هذه المباحث بشوق عظيم، أن في ديارنا الشرقية وإن في الديار الغربية ويستزيدونا منها.
واليوم يهدي إلى هذه المجلة موضوعا من الذهنية المواضيع وهو ترجمة أحد (الدراويش) الذين كان يرى مثلهم في بغداد قبل نحو خمسين سنة مئات ومئات يجولون في الطرق والأسواق ليستعطفوا الناس عليهم ويستدروا حسناتهم. وفي الوقت عينه يعرفنا بحالة أبناء المجتمع في البلاد التي مر بها المترجم و (عقليتهم ونفسيتهم) وسلطة بعض طبقات الناس على بعضها الآخر. ولهذا تعد هذه الترجمة من افخر ما كتب في هذا المعنى، ومما يجب أن يحتذى عليه، إذ هي المثال الأعلى في هذا الموضوع. قال حفظه الله:
(لغة العرب)
رجعت في الليلة العاشرة من شهر تشرين الثاني 1919 إلى بيتي الواقع في حارة (باب بغداد) في كربلاء وهي حارة ضيقة الأزقة، ينيرها بصيص من ضياء الفوانيس القديمة
المعلقة على جدران البيوت. وكانت الليلة ظلماء حالكة الأديم. خلت سماؤها من قمر مضيء، وكوب لامع: فركنت إلى غرفتي وكنت تعبا ضجرا، مهموما أفكر في العبء الثقيل الذي القي على عاتقي وهو عبء المدرسة الأميرية إذ كنت مديرها. وكان المعلمون السبعة الذين عينوا لها من الأعاجم؛ فكان فيها الشاهرودي والطهراني والشيرازي والرشتي.
وكان في كربلاء ثلاث مدارس فارسية تزاحم مدرستي وتسعى إلى القضاء عليها. وكنت أرى بعيني أبناء العرب الاقحاح من العلويين والهاشميين يؤمون المدارس الأعجمية هناك، حيث يدرسون التاريخ الفارسي والآداب الفارسية ويهتفون بذكر طهمورث وحمشيد وكسرى. وقد تغيرت سجاياهم العربية وتبدل إحساسهم وتطورت عوائدهم وألفوا الفارسية بدلا من العربية.
وكان حاكم كربلاء إذ ذاك رجلا فارسيا عينته السلطة الإنكليزية أثناء الاحتلال، وكان داهية، شديد النعرة الفارسية كثير الرغبة في إنهاض المدارس الإيرانية. قليل الاهتمام بالمدرسة التي كنت مديرها، إلا فترات كان يجامل بها الاهلين، وكادت كربلاء إذ ذاك على شفا جرف هاو. إذ كادت تنقلب بلدة فارسية.
وكانت هذه الحوادث المؤلمة تثير أعصابي وتزيد في آلامي وكنت في تلك الليلة ال 10 من تشرين الثاني191 - أفكر في الطرق التي أنقذ بها المدرسة العربية من تلك المخالب.
فقضيت ساعتين تارة أفكر وطورا اقرأ ما تيسر لي من الكتب حتى دقت الساعة الرابعة عربية ليلا، فساد الصمت وانقطعت أصوات النائحين والباكين في التعازي والمآتم. وإذا صوت رخيم رقيق أشبه برنين الجرس فقد انبعث من طيات ذلك الليل الهادئ منشدا:
يا شام غريبان يا إمام رضا
وكانت تلك النغمة التي لم تكن إلا نغمة النأي الحزين قد أهاجت بلابلي وأثارت كوامن شجوي، فانتفضت انتفاضة المتكهرب ورفعت باب الكوة المطلة على الطريق، وملت بكل جوارحي إلى الجانب الذي جاء منه ذلك الصوت الرخيم وبعد بضع ثوان سمعت نشيدا بنغمة فارسية:(دوست علي مولا جانم) ثم انطلق يتغنى بأشعار فارسية لم استطع ضبطها فعلمن من النغمة ومن هذه الكلمات إنه (درويش فارسي). فقلت: بابا درويش بفرما أي
تفضل أيها الدرويش - فجاء يمشي الهوينا، حتى وقف تحت (الفانوس) فتبينته ثم رميت له قرانا (نقدا فارسيا يساوي نصف فرنك ذهب) لم يعثر عليه إلا بشق النفس. وقلت له:
أي مرشد بخوان - أي اقرأ أيها المرشد. فقال جشم.
فقرأ بنغمة الافشار قصيدة من أبدع قصائد الشاعر الشهير سعدي الشيرازي وقد ضبطت - وأنا في غرفتي - بيتين منها:
شرف مرد بجود است
…
وكرامت بسجود
هركه إين هردر ندادد
…
عدمش به زوجود
اي كه در نعمت ونازي
…
بجهان غرد مشو
كه مجالست در إين
…
مرحله إمكان خلود
معناها: شرف المرء بجوده وكرامته بسجوده لله ومن لم يملك هذين
الأمرين كان عدمه أحسن من وجوده يا أيها المتنعم المدله لا تغتر بهذه الدنيا إذ من المحال الخلود في هذه المرحلة (الحياة).
ولما أتم إنشاد القصيدة، رميت له قرانا آخر وقلت له:
شعر عربي ازبر داريد؟ يك قصيدة عربي بخوان - أي: أتستظهر شعرا عربيا. اتل قصيدة عربية. أجابني قائلا: بيرشي.
ثم قال بلي قربان ازبر دارم أي نعم عزيزي أني استظهر ذلك فانطلق ينشد كالقيثارة النائحة قصيدة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
…
حتى جاء على آخرها
وقد أحدث في ثورة من ثورات المغرم حين يهزه الوجد فقلت له: شام نميخواهي آيا كرسنه نيسي (أي إلا تريد أن تتعشى)؟ الست جوعان؟ فسكت فعلمت إنه جوعان فصرخت على الخادمة وقلت لها أن تفتح الباب ففتحته له فصعد إليّ ودخل متأدبا وحياني قائلا: سلام عليكم.
عليكم السلام بفرما آغاي مرشد فجيء له بالطعام، فأكل بتؤدة ثم غسل يديه، وشكر الله، ودخن دخينة (سيكارة) قدمتها إليه وكان ينظر إليّ أثناء تدخينه إياها نظرة الخائف الوجل وابتدرني سائلا: جناب عالي مأمور دولتي؟ أي أجنابكم موظف حكومة؟ قلت له نعم. ثم
طلبت إليه أن ينشدني شيئا من الشعر العربي والفارسي. وأخذت اليراعة والقرطاس لأدون ما ينشدني فترنم بالأبيات الفارسية الآتية وقد ضبطتها من فمه:
آن ياركه بي وفا است دشمن به ازوست
…
وآن نقرة كم بهاست آهن به أزوسث
هركس كه نمك خورد نمكدان شكند
…
در مذهب رندان جهان سكك به أز وست
أي: العدو أحسن من حبيب أو صديق لا وفاء له. والحديد أحسن من فضة لا قيمة لها. ومن أكل الملح وكسر المملحة فالكلب اشرف منه بمقتضى مذهب العقلاء الحكماء في الحياة.
يشير إلى إنه أكل من نعمتي وهي نكتة أديب واستشهاد أريب ثم أنشدني قصائد لحافظ الشيرازي وخاقاني ومنوجهري وغيرهم من شعراء الفرس.
ثم قرا لي بيتين بلكنة أعجمية وهما:
انبتت سبابتكم
…
غرحة على كبدي
بت من تفجئكم
…
كالأسير في السفد
أي:
انبتت صبابتكم
…
قرحة على كبدي
بت من تفجعكم
…
كالأسير في الصفد
ثم انقطع عن النشيد فسألته عن اسمه وعن أسم بلده. فقال اسمي أبو القاسم ولقبي (بي بروا) وبلدي (شيراز) فقلت له: متى صرت درويشا؟ ولماذا فضلت هذه الحياة؟ وماذا كانت مهنتك وعملك قبل أن تكون درويشا؟ فلم يجبني بشيء فألححت عليه كثيرا، وكررت عليه السؤال. فقال لي (عشق است) أي - العشق - إلا أنني لم اقنع بهذا الجواب وكررت عليه السؤال وطلبت إليه بإلحاح أن يجيبني فقام على قدميه وقال متأدبا: آغا خيلي دير كردم أن شاء الله وقت ديكر خواهم كفت أي سيدي أني تأخرت وسأحدثك أن شاء الله في وقت آخر فدعوته إلى أن يأتيني في الليلة الثانية فودعني وانصرف. وانصرفت عني كل همومي وكانت الساعة الخامسة تماما.
أبو القاسم بي بروا
كان الدرويش بي بروا شيخا قد اجتاز الكهولة، ربعة، أشقر اللون، ازرق العينين، ذا وجه
مستديرا، أحدثت فيه الآلام غضونا، وأورثت فيه تجعدا ذا لحية طويلة صفراء وخطها المشيب، ذا شعر طويل كشعر النساء لهزه البياض.
أما ثيابه فلم تكن أسمالا اخلاقا، وكانت نظيفة وهي عبارة عن قلنسوة طويلة (كلاه) من اللبد الأصفر، مشدود في وسطها حزمة من خيوط دمقسية طويلة قد اختلطت بشعره، عليه قميص من الصوف فوقه جلد معز طويل وجراب طويل وقدوم ثمينة مزخرفة بنقوش وأبيات فارسية وعلى ظهره كشكول.
تدل ملامحه وحركاته على إنه لم يكن من أولئك السفلة الشحاذين، ثم بدا
لي أن أدون بعد هذا اليوم، ما يقع لي من أمر هذا الدرويش وما يتعلق به فكتبت يومئذ في مذكرتي ما أعيد صورته إلى القارئ.
طلعت شمس اليوم العاشر من تشرين الثاني سنة 1919 فذهبت إلى المدرسة وقمت بواجباتي وخرجت منها من الساعة الحادية عشرة غروبية وذهبت توا إلى بيتي فانتظرت الدرويش إلى الساعة الخامسة عربية فلم يأتني ثم يئست من مجيئه ولما أعياني السهر نمت.
11 تشرين الثاني
خرجت من بيتي عند انبلاج الفجر وتجولت في الحضرة الحسينية والعباسية لعلي أجد الدرويش فلم أره ثم ذهبت إلى الخيمكاه وهو مأوى أكثر الدراويش الفقراء فلم أصادفه، فذهبت إلى المدرسة وأرسلت خادم المدرسة (حمزة) ليفتش عنه فجاءني بعد بضع ساعات وقد طاف في المدينة فلم يلاقه.
صرفت التلامذة في الوقت المعين وخرجت إلى الحضرة الحسينية حين طفول الشمس ولما دخلت الصحن من باب القبلة رن في مسمعي صوت الدرويش فأسرعت إليه فوجدته قد رفع قدومه على كتفه ووضع كشكوله على مرمر الصحن ووقف حاسر الرأس منشدا شعرا في مدح الحسين الشهيد عليه السلام وقد اجتمع حوله الناس على شكل دائرة رجالا ونساء وشبانا وهم بين باك ومتباك وقد ملئوا كشكوله من كل ما شاءوا.
ووقفت أمام الدرويش (بي بروا) ولما وقع بصره علي امتقع لونه وتجلجل، فخرقت الصف ورميت له ربية واحدة في كشكوله ولما أتم نشيده دعا للحاضرين بالخير والبركة وطول
العمر على عادة الدراويش ثم قرا الفاتحة ورفع كشكوله من الأرض وانصرف موليا وجهه شطر السوق من غير أن يلتفت إليّ فتقصصت أثره ثم تعرضت له في السوق وسلمت عليه قائلا بلهجة المعاتب:
أي مرشد بكجا تشريف ميبريد؟ (إلى أين تذهبون أيها المرشد؟ فوقف الدرويش وقفة المتحير في أمره فعلمت في تلك اللحظة القصيرة إنه ارتاب مني
ومن شكلي ولباسي وطربوشي وظن إنني موظف أمرت بالبحث عنه فمسكته بيدي وعرفته باني مدير مدرسة، من خدمة العلم والأدب، ويلذ لي معاشرة الدراويش وصحبة الفقراء وإن صوته الرخيم وحفظه الشعر الكثير حبباه إليّ وأقسمت له وأغلظت له الإيمان مؤكدا له صدق ما أقول، فاطمأن وهدأ روعه فأخذته رأسا إلى بيتي.
ليلة 12 تشرين الثاني
ولما اختلط الظلام قام وتوضأ وصلى صلاة المغرب ثم تعشينا معا وبعد أن دخن عدة دخينات (سيكارات) اندفع يغني شعرا فارسيا دون أن أكلفه وكان غناؤه أوقع في قلبي من نغمات الأرغن ونقرات العود ولم أشأ أن أسأله في تلك الليلة عن سبب تفضيله هذه الحياة على حياة العمل لئلا يرتاب مني مرة أخرى فينقطع وأنا حريص عليه جد الحرص، ولما مضى هزيع من الليل ودعني وانصرف بعد أن نفحته ربية أخرى ورجوته أن يزورني تلطفا.
ليلة 13 تشرين الثاني
جاءني الدرويش في هذه الليلة وقد أكثر من تلاوة الشعر بنغمته الفارسية الرقيقة.
لم يزرني الدرويش في ليلة 14 و15 و16 من شهر تشرين الثاني.
17 تشرين الثاني
زارني الدرويش بي بروا في مدرستي، ففرحت به ورحبت به كثيرا وعاتبته طويلا على انقطاعه عني ثلاث ليال سويا فاعتذر مني وقال إنه لم يبرح (الخيمكاه) ثلاثة أيام إذ انتابته الحمى خلالها فتحادثنا طويلا في الشعر ونقلت في مذكرتي بضع مقطوعات شعرية ثم ودعني وانصرف ووعدني بأن يزورني في تلك الليلة.
ليلة 18تشرين الثاني
جاءني الدرويش وكان فرحا مبتهجا فاخبرني بأنه تشرف بزيارة قبر المجاهد الشهيد الحر بن حرب الرياحي راجلا ثم جلس مطمئنا وقال إنه سر كثيرا بزيارته كربلاء، وانه جذل بمعاشرتي، وبعد العشاء طفق يغني شعرا غراميا للشاعر حافظ الشيرازي، ولما أتم إنشاده سألته عن سبب تفضيله شعر حافظ على شعر غيره
فسكت قليلا ثم أن أنة الغريب الكئيب. وقال أحب حافظا لأنه نبت في وطني ونشأ فيه، ولان شعره يذكرني ببلدتي شيراز الجميلة فقلت له: أتحبها وتحن إليها، فقال أن كنت تسألني لكوني درويشا فأقول أني لا أفضل مدينة على أخرى وكل بلاد الله وطني، وكل أهل الأرض أقاربي لا افرق بين العربي والعجمي والهندي والتركي، إلا أني مع ذلك، احن إلى شيراز، لأنها ملعب صباي، ومراح شباب وفيها قبور أمي وأبي وزوجتي وعشيرتي ثم قال وقد ترقرق الدمع في جفنيه:
جه وا بلبل آشبانهء خودرا دوست ميدادر وإنسان وطن خودرا دوست نميدارد.
أي: لماذا يحب البلبل عشه ولا يحب الإنسان وطنه.
فقلت له: ومتى فارقت مدينة شيراز؟ فقال وقد انحدرت دمعة من مآقيه على خده: لم أطأها منذ أربعين سنة على التقريب.
لماذا؟ وما السبب؟ فقال بعد أن تنهد طويلا: إنك قد سألتني قبل بضعة أيام فلم اشأ أن أقص عليك حديثي، خشية منك، لأني إرتبت كثيرا في أمرك وخفت أن يصيبني في (كربلاء) ما قد أصابني في (بيروت) وذلك أنني وطئت بيروت أثناء الحرب فذقت فيها عذاب الهون وعانيت ألوانا من المصائب والرزايا وكان أطفالها يركضون خلفي ويحصبونني ويمطرون علي وابل الحجارة.
آغا شهر بيروت بر أز فرنك بود. أي ومدينة بيروت ملآى من الفرنك
وقد تعرفت بفتى من أهل بيروت أخذني إلى بيته وأطعمني وسألني عن سياحاتي فقلت له أني جئت من الهند على طريق إيران وفي اليوم الثاني قبض علي شرطي طويل القامة وقادني إلى دار الحكومة ثم زجني بالسجن ثم طلبوني واتهموني بالتجسس، يلي اغا جان مارا كوتك زدند خيلي جوب زندن فرياد كردم قسم خوردم كه من درويشم غريبم كوش ندادند وزدند تحمل كردهم خدارا شكر كرده م.
نعم يا سيدي فقد ضربوني وجلدوني بالسياط صرخت كثيرا وحلفت لهم بأنني درويش غريب فلم يصغوا إليّ ثم ضربوني وضربوني فتحملت وشكرت الله.
ثم أطلقوني وقد مرضت وأشرفت على الهلاك وكنت اقضي أيامي في أحد المساجد ثم تعرفت بصاحب (قهوة) وكان مسلما من الأخيار الطيبين فكنت اغني نهارا في قهوته، وانفخ بالناي، فكان يطعمني.
ولما عاد إليّ نشاطي وصحتي تركت بيروت وما فيها من ظلم وعسف وجور، وأتيت إلى الشام ثم سافرت إلى بغداد ومنها إلى طهران.
بلي قربان! خيلى اذيت كشيده أم - لقد عانيت الاذى، ولهذا السبب خشيت أن أقص عليك حديثي، وانقطعت عنك وقد سألت عنك فعرفت إنك من الأخيار وألان أقص عليك حديثي وأكلمك عن السبب الذي دفعني إلى أن أكون درويشا:
حياة (أبو) القاسم بي بروا
وكانت الساعة الثالثة من الليل، فجيء بأكواب الشاي فشرب الدرويش ثلاثة اكواب، ومسك قدومه بيده ووضعها بجانب الكشكول، واخرج من جيبه مشطا من خشب الأبنوس واخذ يمشط لحيته الطويلة الصفراء، ويرجل جعد ذوائبه الطويلة ثم نظر إليّ نظرة طويلة وقال:
أي جوان! أي نور ريدة من! بنجاه سال دارم ازفلك بي رحم خيلي ستم ديدم بدرم درشيراز كارباس فروش بود - أي أيها الفتى يا نور عيني عمري خمسون سنة؛ وقد شاهدت ظلما من هذا الفلك الظالم. أبي كان في شيراز (بزازا) وقد قرأت في صباي القرآن وقرأت على (الاخند) أي (الملا) النحو والصرف والمنطق وقرأت الفقه، وحفظت كثيرا من كلستان سعدي الشيرازي وديوان حافظ الشيرازي.
بلي قربان! خيلي حفظ داشتم! كنون يك كمي ميدانم از مبتدا وخبر ونواصب وقضية صغرى وكبرى ببر سيد الحمد لله شما از أهل عرفان هستيد. أي كنت احفظ كثيرا وألان أيضاً أعرف قليلا. سلني عن المبتدأ والخبر والنواصب وقضايا المنطق في الصغرى والكبرى. الحمد لله أنت من أهل العرفان.
وكان والدي يحبني ويعزني كثيرا، لأني كنت ولده البكر وكان يهتم بي ويعتني بتربيتي أكثر من أخي الصغير. ولما بلغت الخامسة عشرة أخذني والدي
إلى الدكان لأعينه. وكان
لي عم توفي هو وزوجته وترك ابنته الصغيرة، فأخذها والدي إلى بيتنا.
وهنا زفر الدرويش زفرة شفت عن ألم عميق، واسترسل في حديثه وكانت ابنة عمي جميلة الخلق والخلق: مهناب بود، ستارة آسمان بود! كانت قمرا وكانت نجم السماء! وكنت احبها حبا جما، وكانت هي تحبني أيضاً حبا عظيما ولما بلغت العشرين زوجني إياها والدي وأقام الأفراح والولائم.
وهنا تغيرت لهجة الدرويش حالا واخذ صوته يتقطع ويرتجف ارتجافا متواليا ويرتعد جسمه ويهتز اهتزاز شجرة الصفصاف. وقفت شعرات لحيته الطويلة: فرمى السيكارة من يده وقال: وبعد مرور شهر واحد مرضت زوجتي مرضا لم يدم إلا يومين حتى أرداها. ثم استخرط في البكاء وهو يدمدم دمدمة الهائج الحزين المغلوب على نفسه.
أي خدا وندكار! حه كويم؟ أيها الرب ماذا أقول؟ ثم أخذ يزبد ويرعد ويرغو رغاء البعير وتدفقت دموعه حتى بللت خده ونحره. وأخضلت لحيته وقد طال بكاؤه وأنينه ساعة من الزمن، إلى أن نفدت عبراته وملت نفسه الأنين ولما انتهى دوره جاء دور السماء فأمطرت وابل الدموع. فقمت وأنا حيران في أمر هذا الدرويش الباكي الحزين وقد علمت يقينا إنه فجع بموت حبيبته.
أي مرشد خواهش دارم إمشب در إين اوتاق بخو ابيد تاريكي وباران بيرون آمدن خيلي سخت است. أيها المرشد أرجوك أن تنام ليلتك في هذه الغرفة (إذ اليوم لا يرى إلا) ظلام ومطر (ولهذا كان) الخروج عليك صعبا جدا.
فانطرح الدرويش على الأرض وخرجت من الغرفة فذهبت إلى مخدعي ونمت نوما متقطعا ولم يغمض جفناي إلا قبيل الفجر.
18تشرين الثاني
انتبهت على صوت الدرويش وكان يتلو دعاء في العربية بنغمة مشوبة بلكنة أعجمية فدخلت عليه في الغرفة فقام في وجهي متأدبا وقد ظهر الخجل
على محياه.
سلام عليكم. (سبهكم) الله بالخير اغا جان ببخشيد ديشب خيلي بي ادبي كردم مارا ببخشيد خيلي دلتنك بوده ام.
سيدي، اعذرني قد أسأت الأدب ليلة أمس اعذرني فقد كنت حزينا متألما.
فهششت له وابتسمت بوجهه وقلت له: أني آسف لأني أنا الذي ذكرتك بتلك الذكريات المؤلمة، وجددت لك حزنك، وأنت معذور في بكائك لفقدانك زوجتك التي كانت عزيزة عليك، ثم فطرنا معا وخرجنا من البيت، فذهبت إلى مدرستي وفارقته في السوق وقد وعدني بالمجيء إلى بيتي، ولما خطوت بضع خطوات اندفع ينشد في السوق بهزيج أوقع في القلب من نغمة المزمار:
(جان علي جان علي جان، أي أمير المؤمنين أسد الله جانم).
ليلة 19 تشرين الثاني
جاءني بي بروا في الساعة الثانية ونصف عربية من الليل واعتذر إليّ مرة أخرى فقلت: إنما أنا يجب علي أن اعتذر إليك لأني أنا الذي أثرت آلامك وأحزانك، كلنا أيها المرشد العزيز نموت، ولا يبقى إلا وجه الله الكريم، وقد مات الأنبياء والأولياء والأحباء والأئمة والعلماء قبلنا فالموت نصيب الإنسان والمنية مورد كل حي.
فابتسم وقال: بلي قربان، خدا كفت، (كل نفس زائغة الموت) أي (كل نفس ذائقة الموت).
أني كنت ليلة أمس كالمجنون، فقد تذكرت والدي وأمي وزوجتي وبلدي شيراز ولهذا السبب أزعجتك كثيرا. وكانت المصيبة التي نزلت بي عظيمة جدا، وهي التي أخرجتني من أهلي ودفعتني إلى الدخول في طريقة الدراويش، فتغربت عن وطني أربعين عاما، قضيتها في التسول والتجول في إيران والهند والصين وسمى الاسم الأخير - حين ما حين - وبلخ وبخارى وهراة والغوغاس (كذا) والاسلامبول (كذا) والشام والبيروت (كذا) والمكة (كذا) ومدينة (كذا) وبقداد (كذا) وقد عانيت آلاما وأوجاعا وعذابات كالحبس والجلد والجوع
والبرد والحر، وقد صاحبت خلال هذه السنوات أناسا كانوا اخبث من الشياطين والأبالسة، وعاشرت السفلة من الدراويش السفهاء فأهانوني وسرقوا أشيائي وحسدوني لأني احفظ منهم شعرا وأعذب منهم صوتا وكان المؤمنون يتصدقون علي. وكثيرا ما كنت ارجع عند المغرب وكشكولي مملوء دراهم.
خيلي نياز داشتم - كان محصولي كثيرا.
أي لعنت خدا بأن روي كه بدتر از روي إبليس بود لعنت بآن ناغلا، آن نامر، بي مذهب بي دين بي حيا!
إلا لعنة الله على ذلك الوجه الذي كان ابشع من وجه إبليس! إلا لعنة الله على ذلك الزنيم النغل الذي لا مذهب له ولا دين ولا حياء!
ماتت زوجتي فحزنت عليها، ثم مرضت وأصابني هزال ونحول!
بيمار أفتاده أم بدرم خيلي اطبا آورددوا دادند خوب نشدم تب لازم داشتم.
وقعت مريضا وقد جاء أبي بالأطباء. وصفوا لي علاجا فلم اكسب صحتي وكانت معي حمى ملازمة.
وقد أشار بعض أصدقاء أبي عليه أن يعرضني على درويش كان ظاهره يدل على إنه كان زاهدا تقيا دينا، فجاء به والدي فكتب لي أدعية لتحرق تحت ثيابي، وكان موسم الربيع وقد طاب الوقت، ورق النسيم، وبرزت براعم الأشجار واخضرت الاغصان، وتفتحت أكمام الورد والأزهار، وتغنت البلابل، فكانت شيراز جنة تجري من تحتها الأنهار فرجع إليّ قليلا من نشاطي وكان ذلك الدرويش الملعون يأخذني في كل صبح ومساء إلى البساتين والجنات والى الأرباض المحيطة بشيراز فكنا نجلس إلى الجداول الصغيرة ونتفيأ ظلال الأشجار الخضراء وكان ذلك الدرويش ذكي القلب، لبقا فتيق اللسان، أريحي الطبع، رقيق الصوت؛ بارعا في إيراد النكات حافظا للشعر؛ إلا إنه كان خبيث الروح، خداعا مكارا، طماعا، لا ذمة له ولا ضمير ولا وفآء. وكان ينشدني شعرا في مدح أمير المؤمنين وال الرسول؛ وقد صحبته شهرين متتابعين حتى تعلقت به ولم يكن في وسعي أن أفارقه يوما واحدا.
وكان أبي لا يبخل عليه بتومان (من نقود إيران) في كل ثلاثة أيام ذلك
فضلا عن الثياب والطعام.
وكان ذلك الدرويش يقص علي أحاديث أسفاره وسياحاته وكان يحبب إليّ السفر ويحضني عليه ويرغبني في دخول سلك الدراويش حتى أقنعني. فاتفقنا على السفر على أن تكون وجهتنا مدينة الإمام المعصوم علي بن موسى الرضا أي خراسان.
ففاتحت ذات يوم والدي بالأمر وبينت له رغبتي في زيارة الإمام المذكور فأبى ورفض طلبي رفضا باتا؛ وكان يخشى علي من السفر ومن نوائب الدهر؛ فأشار علي الدرويش بأن أتظاهر بالمرض فلزمت فراشي بضعة أيام فتحير والدي في أمري وشاور صاحبي
الدرويش فأشار عليه أن يوافق علي سفري قائلا: أن ابنك على خطر.
اغا شيطون بود حرامزده بود - كان شيطانا وكان زنيما فرفض والدي طلبي وزجرني فدخلت ذات يوم غرفة أبي وسرقت منها مائة تومان فسافرت مع الدرويش تحت جنح الظلام ووصلنا خراسان ونزلنا في أحد الخانات. وكنت اصرف عليه من الدنانير التي كانت معي وكان يأخذني بعد زيارة الإمام كل يوم إلى محل يأوي إليه الدراويش فعرفني بهم ولاسيما (البير) فأخذوا دراهمي مني إذ قال لي (البير) إنه لا يجوز للدرويش أن يحتفظ بالدراهم. وجمع ذات يوم (البير) كل الدراويش وطبخ لهم (شاة قلندران) وبعد أن أكل الجميع امرني أن أتعرى فامتثلت الأمر وسكبوا على رأسي أربعة عشر طاسا من الماء البارد (آب قدرت) رمزا إلى الأربعة عشر معصوما. وقد زعم (البير) إنني تطهرت من الدنس والرجس الدنيوي ثم علمني (البير) تلاوة القصائد في مدح آل البيت بنغمة الدراويش وأعطاني قلنسوة (كلاها) وقدوما وكشكولا وبعد أن تمرنت وحفظت الأدعية وكيفية الاستجداء أخذني (البير) مرة إلى السوق ليمتحن صوتي وإلقائي وجرأتي فتجولت في أسواق خراسان وأزقتها منشدا شعرا في مدح الإمام علي بن موسى الرضا. فاجتمع علي الناس وملئوا كشكولي دراهم حتى أن أحد التجار نفحني تومانا واحدا لأن جودة صوتي
وماء حسني الرقراق كانا يؤثران في نفوس القوم.
رجعت مساء إلى المأوى فاخذ (البير) جميع ما حصلته من الدراهم في ذلك النهار وأطعمني ما أطعم الدراويش فبقيت على تلك الحالة مدة شهرين، تعلمت في خلالها الأدعية والقصائد والأسرار وكان ذلك البير رجلا صالحا طيب القلب، عفيف النفس صمم يوما على السفر وشد الرحال إلى طهران وأناب في مكانه الدرويش الذي صحبني من شيراز إلى خراسان وكان رجلا ماكرا خبيثا يستعمل الأفيون.
رجعت مرة إلى الخان الذي يأوي إليه الدراويش. اغا در آن روز خيلي نياز داشتم، وكان محصولي كثيرا فأخذ ما كان معي من الدراهم. ولما جن الظلام جاء ذلك الماكر الملعون إلى غرفتي وجلس إلى جانبي واخذ يحادثني على عادته فشكوت إليه فراق أبي وأمي وأخي، فقال. وقد برقت عيناه من المحال أن ترجع إلى شيراز، أو تترك الدروشة وإن حدثتك نفسك بترك الطريقة تقتل لا محالة. وكان قد مضى الهزيع الثاني من الليل. وكان
الخان الذي يلجأ إليه الدراويش بعيدا عن البلدة نحو فرسخ واحد. وهو وقف أحد الأخيار على الفقراء وكان خاليا ليس فيه أحد سواي والدرويش ودرويش آخر كان مريضا يعاني سكرات الموت. وكان ذلك الدرويش اللعين نائما بجنبي وعند منتصف الليل انتبهت مذعورا إذ قد وجدته يدب إليّ.
ثم ضحك الدرويش (بي بروا) ضحكة الساخر المتهكم وقال: بدرسوخته خيلي بي بود. كان ابن المحروق قليل الحياء. . . ولهذا سئمت من البقاء معه وأخذت عروضي وخرجت بها من ذلك المأوى بعد أن ضربته ضربا وجيعا.
وذهبت توا إلى ضريح الإمام علي بن موسى الرضا (ع) ونمت عند عتبة الصحن الشريف مع الفقراء والمساكين ولما انبلج الصباح لجأت إلى داخل الضريح وصليت وصممت على السفر إلى بلدي شيراز فذهبت في الحال إلى السوق وبعت أدوات الدروشة مثل القدوم وابتعت ثيابا معتادة ورجعت إلى الصحن. ولما وصلت إلى عتبة المزار المقدس شعرت بضربة عصا غليظة على ظهري فنظرت وإذا الدرويش الذي أشبعته أمس لكما وضربا مع جندين وجمع من ذوي العمائم السوداء والبيضاء. فصاح الدرويش (بكريد إين كافر بابي را) أي (خذوا هذا الكافر
البابي) فمسكني الجنديان وشدا وثاقي ثم انهال علي الناس يضربوني بعصيهم وأيديهم وأحذيتهم وحصبني الأطفال عند مروري في السوق وبعضهم كان يبصق في وجهي وكنت أصرخ واستغيث وأقسم الإيمان واغلظ في القسم متبرئا من البابية وليس من مجيب أو مغيث وكان أحدهم يصرخ: اقتلوا هذا الكافر الوقح والآخر يقول أحصبوا هذا الغراب، ارجموه بالحجارة حتى يموت وكانت الجموع تتدفق تدفق السيل لتنال الأجر من الله في ضربي وإهانتي. وفي أثناء هذا الهياج رأيت أحدهم يشق الصفوف حتى دنا مني وخاطب الجنديين والناس قائلا كفوا عن ضرب هذا الفتى وارحموا هذا المسلم إلا تسمعون إنه يتبرأ من البابية فلعل الذي وشى به كان كاذبا ثم قاله لهما: إنكما أن لم تمنعا الناس عن ضربه وظهرت براءته يصبكما عقاب من الحكومة: فضلا عن عقاب الله وسخطه فلما سمع الجنديان كلامه فرقا الجموع ومنعا الناس عن الدنو مني إلا أن ذلك الدرويش الملعون كان يصرخ بالويل والثبور ويركض تارة أمامي وطورا ورائي يلطم صدره ورأسه ويقول واد يناه! وامحمداه! واشريعتاه!
ساقني الجنديان إلى بيت أكبر عالم في طوس والناس يقتفون اثري ولما دخلت الدار شاهدت في فنائها نيفا وخمسين رجلا من المعممين وقد توسطهم رجل ذو عمامة بيضاء يلوح الوقار على سيمائه فعلمت إنه المجتهد فأسرعت نحوه وأكببت على يده اقبلها وقلت بأعلى صوتي (لا اله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله).
جناب اغاي آية الله حجة الإسلام والمسلمين من مسلم غريبم بابي نبستم سيعه أم الحمد لله.
أي: يا أية الله وحجة الإسلام والمسلمين أنا مسلم وغريب ولست بابيا أنا شيعي والحمد لله ثم انحنيت على رجله اقبلها وتلوت الشهادة مرات وكنت على وشك أن الفظ أنفاسي الأخيرة من شدة ألم الضرب الذي لحقني فأمر المجتهد أن احبس في بيته فأخذني الخدم إلى سرداب مظلم كادت الرطوبة تقوض أركانه وتهدم حيطانه وعند الظهر جاءني أحد الخدم ورفسني برجله وسبني ووضع أمامي كوزا من الماء ورغيفا من الخبز اليابس وصحنا فيه (آش) ولما كان
المساء جاءني الخدم وقادوني إلى غرفة طويلة مؤثثة بالسجاد النفيس في صدرها المجتهد محفوفا بأعوانه المعممين فقبلت يده بأدب فامرني بالجلوس فجلست وأجهشت بالبكاء ثم لمحت شخصا مقيدا مغلولا جالسا في آخر الغرفة وقد بانت عليه آثار التعذيب والجلد وكان نحيفا مهزولا يئن أنينا خفيا ويردد أنفاسا سريعة فقال له المجتهد ألم تزل مصرا على ضلالك وغيك وكفرك وإلحادك فأجابه برباطة جأش أني مصر على يقيني واعتقادي الصحيح وعلى ديني وإيماني وانتم المصرون على ضلالكم وغيكم. ولما أتم كلامه ماج الجالسون وهاجوا وتطاير الشرر من عيونهم وصرخ المجتهد بخدمه وقال لهم (بزنيد سخت بزنيد) أي اضربوه اضربوه شديدا فجر ذلك البائس على وجهه والسياط تنوشه كوقع الصيصة في النسيج. أما هو فكان يكثر من النداء يا صاحب الزمان (بلى آغا دولت خيلي ضعيف بود حكم در دست مجتهدين وعمامه ها بود!) أي الدولة كانت ضعيفة والحكم كان بيد المجتهدين من ذوي العمائم!
وبعد برهة حول المجتهد وجهه نحوي وقال: بكو أي جوان شما هم بابى هستي - أي قل أيها الفتى أأنت أيضاً من البابية؟ فقلت له: وقد بكيت، معاذ الله يا مولاي أني مسلم موحد وشيعي مؤمن وأني لا أعرف البابية ولا أعلم بمعتقدهم ولم أعاشر أحدا منهم. ثم قصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها وكيف أغواني الدرويش وجاء بي إلى خراسان. وأراد
هتك عرضي إلى غير ذلك وقلت له: أن أبي اليوم في شيراز وانه ينتظر مجيئي فامرني المجتهد بأن اسب الباب والبابيين فامتثلت أمره فاعتقد بصدق ادعائي ورق لحالي وبينما كان على وشك أن يطلق سراحي قام أحد المعممين وهمس في إذن المجتهد بضع كلمات ما عتم أن تغير لونه وبدت على سيمائه آثار الغضب فأمر الخدم أن يرجعوني إلى السرداب. فبت ليلتي وقد تمشت الحمى في مفاصلي وعظامي وكنت أئن طول الليل أنين المحتضر.
وكانت الحكومة الإيرانية قد أطلقت للمجتهدين التعذيب والتنكيل بمن يشتبه به إنه من الطائفة البابية أو يشك في إنه ممن ينتمي إليهما فكان المجال فسيحا للمتعادين المتباغضين إذ يبطش أحدهم بالآخر وكان المجتهدون لا يترددون طرفة
عين في إصدار فتوى تقضي بالموت على من ألصقت به هذه التهمة لذلك تفشت الوشايات فأريقت الدماء وأزهقت الأرواح وكثرت الضحايا وأصبحت البلاد في هرج ومرج وقد بات الناس خائفين على حياتهم مرتاعين من فتاوى المجتهدين الذين كانت أقلامهم أمضى من السيف إذ ذاك.
قلت للدرويش (بي بروا) هل تعرف شيئا عن البابية؟ قال: لا غير أني كنت ذات يوم أتسمع وعظ أحد الواعظين في صحن الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، وكان يقول للسامعين أن البابية فجرة كفرة طغام وانهم جاحدون مارقون عن الدين وانهم يعتقدون بمذهب الحلول إلى غير ذلك، قلت له: أتعرف مذهب الحلول؟ فأجابني بالسلب.
شعر (بي بروا) بالتعب وتصبب جبينه عرقا، فانقطع عن الكلام، وقال لي سأحدثك ليلة غد بالبقية أن شاء الله وتركته في تلك الغرفة، فنام فيها ليلته وقد استيقظت في الصباح فلم أجده. وقد أعلمتني الخادمة إنه خرج قبيل الفجر من غير أن يفطر.
20 تشرين الثاني
جاءني بي بروا في الساعة الثانية ونصف عربية من الليل فتعشينا معا ثم أشعل سيكارة واتكأ على الوسادة ونظر إليّ ويسراه تعبث بلحيته الطويلة وقال: بقيت في بيت المجتهد مسجونا نحو شهر واحد ثم جاء نفر من جنود الدولة وساقوني أنا مع ثلاثة آخرين إلى الحاكم فبقينا في سجن الدولة مدة أسبوعين لم يسألونا شيئا ولم يطلبونا إلى الاستجواب والاستنطاق ثم نفيا مخفورين إلى مدينة (شروان).
درراه خيلي زحمت كشيديم مارا شلاق زدند.
لقد عانينا المشقات في الطريق فقد ضربونا بالسياط، جئنا إلى شروان وجلسنا فيها مدة ستة أشهر ثم نفينا إلى مدينة (رشت) وحبسنا فيها مدة تقارب السنتين. ثم أخذنا إلى طهران وبقينا في حبس الحكومة سنة واحدة وأطلق سراحي يوما على غفلة فتجولت في طهران وأنا لا املك قطميرا فراجعت (شواء) توسمت فيه الخير والصلاح وقصصت عليه حديثي من أوله إلى آخره فرق
لحالي واستخدمني في حانوته وكان ينفحني في كل يوم قرانا واحدا عدا الطعام والمنام وبقيت عند الرجل مدة تقارب ستة أشهر أرسلت خلالها بعدة مكاتيب إلى والدي في شيراز إلا أني لم أتلق منه جوابا فشعرت يوما كان القيامة قامت في طهران وإن الأرض تميد ميدا والناس يموج بعضهم أثر بعض فلما تحققت الخبر علمت أن أحد البابية قتل ناصر الدين شاه في مزار الشاه عبد العظيم وقد انبث الجند في طهران يقبضون على كل من يشك فيه أو يشتبه به إنه من البابية فأحسست بالشر وعلمت انهم قابضون علي لا محالة فاضطربت كثيرا إذ تراءى لي شبح المنون فأيقنت بالموت. فبكيت طول يومي.
وفي المساء أعطاني ذلك (الشواء) الطيب القلب عشرين قرانا وقال لي: انج بنفسك فخرجت من المدينة خائفا أترقب لا الوي على شيء والمدينة في هول عظيم.
وضعت على رأسي عمامة خضراء لأوهم الناس بأنني من السادة العلويين ولأدفع عن نفسي الأذى وطفقت انتقل من قرية إلى قرية، ومن بلد إلى آخر، هائما على وجهي وكنت أتعيش من (فتح الفال). وبقيت على هذه الحالة مدة ثلاث سنوات حتى وصلت إلى مدينة (اصفهان) فشاهدت أثناء دخولي البلدة جماعة من اليهود قد رجعوا إلى المدينة وقد دفنوا ميتا لهم ورأيت جماعات من الأطفال وبعض الرجال يركضون وراءهم، يضربونهم بالحجارة فبقيت في اصفهان مدة سنة واحدة وكنت اشتغل كعامل في قهوة. وهناك تعلمت النفخ بالناي وبعد هذه السنة حصل لدي مبلغ غير يسير من الدراهم فشددت الرحال إلى شيراز - وكنت أتلهف شوقا إلى رؤية والدي وأمي - فوصلتها. . . وهنا ارتعد الدرويش (بي بروا) وامتقع لونه وارتجفت لحيته، ثم قال: وقد سألت العبرات من عينيه:
جه عرض كنم اغا. ماذا أعرض لك يا سيدي، علمت أن والدي ذهب إلى طوس ليبحث عني فمات فيها أسفا على فراقي وإن أخي الصغير مات وإن أمي هلكت كمدا وإن المجتهد
في شيراز وضع يده على أموال أبي وبيته. فراجعت ذلك العالم وطلبت إليه أن يسلمني أموال والدي وبيته فابرز لي ورقة
وقال أن والدك جعلني وصيا على ثلث ماله، وإما الباقي من تركته فقد صرفتها على الفقراء حيث لم يظهر وارث لتركته. فراجعت حاكم المدينة مع ثلة من التجار فقال لي إنه لا يتعرض لشؤون العلماء فرجعت يائسا ثم ذهبت إلى ذلك المجتهد مرة أخرى وتذللت بين يديه وشكوت له حالي. وبثثت له آلامي فلم يرق لي وطردني من بيته طرد الكلاب. هكذا يا مولاي أغواني ذلك الدرويش السفيه الخبيث، وهكذا فجعني الدهر بأمي وأبي وأخي وهكذا اغتصب العلماء مالي وملكي وجعلوني مشردا أهيم على وجهي في أرض الله، أبيت تارة طاوي أحشائي جوعا، ومرة أنام في الأزقة والشوارع. وقد شاء القضاء أن تكون حرفتي الاستجداء ومهنتي التسول. وقد تربيت في أحضان العز والدلال وكنت من ذوي الرفاه والجاه. وأنا اليوم في حاجة إلى قطمير وقد أصبح مصيري بئس المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإذا أصابتكم مصيبة قولوا أنا لله وأنا إليه راجعون. . .
أن هذه المصائب والفجائع والكوارث التي ألمت بي أشعلت في كبدي نار الأسى فصممت على أن أخرج من شيراز إلى بلاد أخرى فذهبت إلى بوشهر ومن هناك ركبت باخرة إلى الهند فصادفت أناسا طيبين في الباخرة وبينهم رجلا كان روضيا (روضه خوان) فعلمني قراءة مآتم الحسين (ع) وبعد ذلك وصلت إلى مدينة بومبي.
اغا هند أم العجائب است، جمعي كاورا ميبر ستندة، قومي آتش واميمر ستند هندوها مردهاي خود شانرا بآتش ميسو زانند حيز هاي عجيب وغريب در هند ديدم. سيدي الهند أم العجائب فيها أناس يعبدون البقر وقوم يعبدون النار والهنادكة (الهندو) يحرقون أمواتهم في النار. شاهدت في الهند أمورا عجيبة غريبة يعجز اللسان عن ذكرها.
وقد وجدت في الهند جماعات من الدراويش الفقراء وهم على جانب عظيم من الزهد والورع؛ ولم أصادف نصبا ولا أذى، وقد جلت في أكثر مدنها مثل دهلي وكجرات ومدراس وغيرها: ثم سافرت إلى حين وما حين - يريد بذلك
الصين ومن اعجب ما شاهدته في هذه البلاد هو أن الصينيات يحبسن أرجلهن في قوالب من حديد لكي تبقى صغيرة وعند الصينيين أن من الجمال الرائع أن تكون الأرجل صغيرة ومن الصعب أن
يفرق الإنسان الرجل من المرأة هناك لأن الرجل يرسل شعره المضفور على كتفيه كالمرأة وهم يستعملون الترياق (الأفيون) ثم رجعت من هناك إلى بلوجستان فأفغانستان فالقوقاس، وزرت مدينة قونية وفيها قبر الصوفي الكبير مولانا جلال الدين الرومي الشاعر وحضرت (ذكر المولوية) وهم يدورون على أنفسهم على نغمات الناي والقيثارة ثم ذهبت إلى اسلامبول وهي اجمل مدينة شاهدتها في أسفاري ثم اشتقت إلى أن أحج بيت الله الحرام وإن ازور قبر الرسول الأعظم فشددت الرحال إلى مكة فمررت بحلب والشام والقدس الشريف. وبعد أداء فرض الحج وزيارة الرسول قفلت راجعا إلى إيران. وفي أيام الحرب جئت إلى الشام فبيروت وقد أصبت بأذى فيها كما حدثتك قبل هذا وعدت إلى إيران ومنها جئت إلى (كربلاء).
ثم تنهد الدرويش (بي بروا) طويلا وقال بلهجة المتألم الحزين: هذه حياتي وهكذا قدر علي أن أعيش متسولا فقيرا مشردا في أرض الله الطويلة العريضة وأنا اليوم اعدد ساعاتي وانتظر الموت ولست أدري بأي صورة يداهمني الحمام أاقبر في مقابر المسلمين أم أموت عطشا وجوعا في الصحارى أم أكون طعمة للنيران أم فريسة للوحوش. ثم اندفع يتغنى:
أي آنكه زهيجم بوجود آوردي
…
وز سوي عمايم بشهود آوردي
نه نفع زطاعتم نه خسران كناه
…
در سوق جهانم بحه سور آوردي
أي - يا إلهي الذي جاء بي من العدم إلى الوجود ومن العالم المعمى الغامض إلى عالم المشاهدة أنت يا الهي غير منتفع من إطاعتي لك وغير خاسر من ذنبي فلأي جئت بي إلى سوق هذه الحياة؟
قلت للدرويش (بي بروا) كيف كنت تحصل قوتك في أسفارك الطويلة قال تارة انشد الشعر في الأزقة والأسواق واستجدي من الناس والناس لا يبخلون علي بشيء من الصدقات. وطورا أصير (فتاح فال) واخرج لي من جرابه كتابا
أكل الدهر عليه وشرب في (الفال) وبعضا اقرأ مأتم الحسين (ع) وأخرى اطبب في القرى الصغيرة. قلت له: أنت تجهل الطبابة وربما أعطيت مريضا دواء أهلكه أفلا تخشى الله في عملك هذا؟ قال: أن الأدوية التي أصفها للمرضى معلومة وتفيد ولا تضر وهي: سنامكي وبنفشه (بنفسج) وكل كلب زبون أي ورد لسان الثور.
21تشرين الثاني
اجتمع عندي في هذه الليلة بعض أنباء الأشراف وعرفتهم بالدرويش (بي بروا) وكان نتطارد في الشعر. وحفظ الشعر هو ما يتفاخر به أبناء النبلاء في كربلاء والبليد الأحمق في نظرهم من لا يستظهر طائفة من القصائد العربية وتلاوته فاكهتهم في مجالسهم التي يعقدونها.
وبينما كنا نتلو شعرا كان الدرويش يكتب شيئا في دفتره الصغير ثم نظر إلينا وقد ابتسم ثغره وقال: آقايان من هم شعر درست كردم بشنويد أي سادتي أني أيضاً نظمت شعرا فاسمعوا. وقرأ لنا بنغمته الرقيقة المشجية أبياتا أضحكت الحاضرين وهي:
أنا الدرويش بي بروا
…
احب النان والحلوى
حليف الهم والبلوى
…
أريد المن والسلوى
ثم أخرج النأي من جرابه وكان يعزف به عزفا مشجيا إلى أن مضى هزيع من الليل فانصرف الحاضرون ونام الدرويش ولما كان الصباح فطرنا معا وبعد ذلك انحنى الدرويش على يدي يريد تقبيلها وقال بلهجة المتمن: أشكرك يا ولدي ونور عيني فقد شاهدت منك لطفا وكرما عظيمين وأني اليوم عازم على السفر إلى إيران وأني سأدعو لك في صلواتي وتعبداتي وأرجو الله أن يطيل في عمرك وإن يبارك في رزقك وإن يوفقك.
فشكرت الدرويش وطلبت إليه أن يبقى عندي فاعتذر، فأعطيته شيئا من الدراهم وزودته بمتاع فودعني وسافر ولست أدري ما فعل الدهر به. فأسعده الله أن كان حيا يرزق ورحمه الله أن كان ميتا ملحودا!
أحمد حامد الصراف
أرجوحة الأبطال
ذكر صاحب جريدة الزمان بين يدي الزهاوي شابا غض الإهاب أمر بشنقه جمال باشا السفاح، وكان أول عبارة خرجت من فم المحكوم عليه:(إذا كان لابد للاستقلال من أن يشيد على جماجم الرجال، فمرحبا بك يا أرجوحة الأبطال) وبمثل هذه الفكرة تقدم إلى
العود (عمر حمد) الذي مضت كلمته مضي المثل. فأخذ زهاوينا هذه العبارة وأفرغها في قالب بديع المعنى، والمبنى جدير بأن يقف على حسنه كل مغرم بشعر العصر، قال:
(ل. ع)
يخاطب (المشنقة)
فيك أهتز فارحا بالمعالي
…
مرحبا (يا أرجوحة الأبطال)
أن في الموت للبقاء جلالا
…
أنت تعلين بي لذاك الجلال
ارفعيني إليك ثم ذريني
…
أتدلى معلقا بالحبال
أمل أنت لي وليس ببدع
…
أن يكون الردى من الآمال
قد طلبت الهدى لنفسي عمرا
…
ثم أني وجدته في ضلالي
حلمي كنت في هجوعي بليل
…
ولدي يقظتي نهارا خيالي
ولأنت اليوم الحقيقة في رو
…
عتها من قرب أراها حيالي
أنت بين الجمهور مرفوعة لي
…
ولأفراد جاهدوا أمثالي
كلما زدتني أذى زدت فخرا
…
لا تكوني رحيمة في اغتيالي
أنت تولينني البقاء فسحقا
…
للألى يزعمون فيك زوالي
أنت من واحد لتضحية بالنفس
…
للآخرين خير مثال
أنت مأساة الشعب أجمع بعدي
…
أنت ذكرى التاريخ والأجيال
حبذا الوعد والوفاء به لي
…
بعد شحط النوى وطول المطال
أنا راض بأن ألاقي حتفي
…
في سبيل الحياة للأنسال
لا أخاف الأيام في جدثي تس
…
ود حتى تكون مثل الليالي
إنما الموت للحياة جدير عند كل الأقوام بالإجلال
سيري الناس إنني حين أعلو
…
ك شجاع بالموت غير مبال
وكأني عليك بعد قليل
…
لم أكن للرأي سوى تمثال
لم يكن حين أبصرتك عيوني
…
بغتتة من مخافة إجفالي
بل تذكرت أنني لم أصافح
…
بعد أصحابي للفراق وآلي
لم أودع شمس النهار التي أحببت
…
ها في الغدو والآصال
جميل صدقي الزهاوي
الحاج السيد إبراهيم السبزواري
هو الحاج السيد إبراهيم بن معصوم بن إبراهيم، وينتهي نسبه إلى علي العريضي (بالتصغير والنسبة) ابن الإمام جعفر الصادق.
ولد في 3 رجب سنة 1282هـ (الموافق 13 تشرين الثاني سنة 1865م) بسبزوار ونشأ فيها كما درس فيها العلوم العربية وغيرها.
وفي سنة 1310هـ (1892م) زار مكة والمدينة والأستانة وغيرها من البلاد الشهيرة في التاريخ.
وفي سنة 1311هـ قدم العراق من الحج وسكن الكاظمية وحضر محاضرات الشيخ محمد تقي آل الشيخ أسد الله، ثم هاجر إلى النجف وتتلمذ لبعض العلماء الأعلام كالشيخ الملا محمد كاظم الخراساني، والسيد كاظم البزدي والحاج الميرزا حسن الميزرا خليل؛ ثم عاد إلى الكاظمية ولبث فيها إلى المحرم من سنة 1326هـ (1908م) فشد رحاله إلى إيران، وبقي بسبزواز مدة سنة وفيها رزق ولده السيد محمد مهدي العلوي الذي ترجمناه سابقا (6: 32).
وفي سنة 1327هـ عاد إلى العراق وبقي فيها إلى سنة 1340هـ (1921م) فرجع فيها إلى سبزوار، وهو اليوم مقيم فيها.
وله كتاب في بعض الأدعية المأثورة وحواش على كتاب المختصر المنافع في الفقه، (وكلاهما مخطوط).
السجاجة
في البستان: (أتانا بضيحة سجاجة ترى سود (كذا) الماء في حيفها) فسجاجة هنا بدل، إلا أن يكونوا بالسجاجة (كذا) لأنها في معنى مخلوط (كذا) فتكون على هذا لعثا. أهـ. قلنا: والصواب: سواد الماء. . . إلا أن يكونوا وصفوا. . . معنى مخلوطة. . .
الكاكائية
1 -
من هم؟
الكاكائية طائفة خفية المعتقد والمذهب؛ مبثوثة في كركوك وأنحائها ولهذا لم يذكر وجودهم أحد من الكتبة والمؤرخين لأنهم يخفون رأيهم الديني على كل إنسان ويتظاهرون بالإسلام في موضع يكون أكثر سكانه مسلمين، ويتظاهرون بالنصرانية في المواطن التي يكثر فيها المسيحيون.
2 -
أسرار معتقدهم
لا يبيحون بأسرارهم لأحد، والذي عرفته من رجل زارني في شهر حزيران من سنة 1896 وصبأ إلى النصرانية انهم لا يعتقدون (بنبوة ابن عبد الله). هكذا نطق باسم النبي الحنيف (سعود بن جمو)، وهو الذي توفي في قرية واقعة على الزاب الأكبر قبل نحو سبع سنوات، وكان قد وقف على حقائق كثيرة من الأديان الشهيرة في شمالي العراق لمخالطته بعض الناس المتأدبين منذ صغر سنه. قال: ولا يعتقد أجدادي بالصحابة ولا بأئمة المسلمين من أقدمين ومحدثين: - ثم عدد لي أسماء بعض الصحابة والأئمة وأصحاب المذاهب الأربعة ولا حاجة إلى سردها. كما أنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا يأخذون بشيء من الحديث والخبر وإن كانوا يطوون أيامهم بين ظهراني أصحاب الدين الحنيف.
وهم يعتقدون أن الإله واحد إلا إنه يظهر في ثلاثة مظاهر: كبير ووسط وصغير فهم ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة، وإن الروح القدس خلق مريم العذارء (كذا) بواسطة جبريل (كذا) وتحت هؤلاء الثلاثة أربعة وزراء ولكل وزير سطوة أو سلطة خاصة به ولأولئك الوزراء الأربعة مسيطرون وعددهم سبعة، ولهؤلاء المسيطرين السبعة منفذون لأحكامهم وعددهم اثنا عشر وقد اتفقوا جميعا على أن يرسلوا إلى العالم الأدنى رجلا زودوه بجميع القوى العقلية والجسدية وهو موسى. وهم يعظمونه أشد التعظيم ويحلفون به ويضعونه فوق جميع الأنبياء ويعتقدون بأنه المسيح (كذا بهذا الخبط والخلط).
3 -
الحلال والحرام عندهم وبعض من قرباتهم
يحرمون أشياء عديدة كما يحرمها النصارى ولاسيما ما أملاه الضمير على صاحبه ويبيحون شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ولا يحرمون على المرء ما استطابه ذوقه أو قبلته معدته.
وهم يصومون أربعين يوما ينقطعون فيها عن أكل اللحم ولهم ما عدا ذلك ثلاثة أيام صوم في أوان الشتاء. وبعد ثلاثة أيام من صومهم يذبحون دجاجة بيضاء وبعد أن يسلقوها أحسن سلق يقلونها في السمن (الدهن) ويأكلونها مع خبز رقاق (وهو خبز مستدير دقيق يفتحون عجينته بشوبك) ويكون دقيقه من اخلص الحنطة وابيض اللون. ولا يجسرون على أن يأكلوا منه إلا من بعد أن يصلي عليه رئيسهم الروحاني الديني ويوزعه هو بيده عليهم ولا تحضر النساء حين هذا التوزيع ولا يفرق الرئيس بين كبير وصغير بين خادم ومخدوم ويسمون هذه الحفلة بكلمة عربية هي (اللقمة).
ومن أعمالهم الدينية: الاعتراف فهم يقرون بذنوبهم وبكل ما ارتكبوه بتذلل وخشوع ويقرعون صدورهم ويكونون بين يدي رئيسهم الديني كالمجرم بين يدي الحاكم عليه بالعقاب ويفرض عليهم ما يفون به ذمتهم.
وعندهم صلوات خاصة تعرف عندهم باسم عربي أيضاً هو (تصرعات) يبتهلون بها إلى الله فيرفعون رؤوسهم إلى السماء ويبسطون أكفهم إليها ناظرين إليها نظرهم إلى رجل أهانوه ويستمدون منه العفو والصفح.
وهم لا يتجهون إلى (القبلة) وليس لهم صلوات خمس كما لا يعرفون (الآذان) ولا يتوضئون قبل صلاتهم.
وهم يحبون النصارى كل الحب ولا يكرهون اليهود. ولا يودون التقرب من المسلمين لكنهم يخافون بطشهم فيعاملونهم بالحسنى حفظا لحياتهم وتدبيرا لشؤونهم. وهم لا يزوجون بناتهم المسلمين وإن كان بعض المسلمين يزوجون بناتهم رجالهم. ويوم الزفاف عندهم من أهم أيام حياتهم ويقيمون أفراحا لا يقيمون مثلها في أي فرصة كانت، ورقصهم وأغانيهم وملاهيهم على ابسط ما يكون.
4 -
لسانهم
لسانهم هو لسان أهل البلاد التي يكونون فيها فالذين يسكنون كركوك يتكلمون بالتركية وفي ديار الكرد: الكردية وفي ربوع العرب: العربية؛ إلا أن لهم لسانا خاصا بهم لا يعرفه غيرهم ولا يتكلمون به بين يدي من يجهله وهو كلسان العصافير ويستعملونه لحفظ أسرارهم من الفشو.
5 -
أسماؤهم
عند جميع الأكراد المنتشرين في الموصل وكركوك وسليمانية وتلك الأرجاء أسماء مصوغة صيغة خاصة بهم غير معروفة في غير تلك الأنحاء. وقولي (جميع الأكراد) يشمل جميعهم، مهما كان دينهم ومذهبهم، حتى أن تلك الصيغة معروفة عند المسلمين والنصارى أنفسهم وتلك الصيغة هي وزن (فعو) أي بفتح الأول وتشديد الثاني المضموم وفي الآخر واو ساكنة. فيفرغون جميع الأعلام في ذلك القالب فيقولون في محمد وعلي وحسن (أو حسين) وسعيد وجميل ويوسف وعبد الله: حمو وعلو وحسو وسعو وجمو واسو (لا يسو) وعبو إلى غيرها. فإذا سمعت بلفظة مفرغة في تلك الصيغة فاعلم أن اصله من الموصل أو من تلك الأرجاء وليس من ربوع أخرى. فأحفظه.
6 -
كتبهم الدينية
عندهم الزبور على ما هي موجودة في أيدي النصارى؛ وعندهم كتب دينية خاصة بهم. لا تشبه كتب أصحاب سائر الأديان ولا يمكن أن يتوصل إليها أحد مهما بذل من الأموال لشرائها.
7 -
عددهم ومواطن وجودهم
يدعون أن عددهم يبلغ ثلاثة ملايين. ولا جرم أن هذا العدد مبالغ فيه كل المبالغة ولعل عددهم الحقيقي لا يجاوز العشرين ألفا.
ففي كركوك نحو 60 بيتا وهم في محلة الجاي.
وفي أنحاء دقوقاء (طاووق) نحو 540 بيتا. أي إنك تجد منهم في (عرب كوي) و (زنقير) و (علي سراي) و (طوبو زاوه).
ومنهم من هم في جوار قرى دزديي على نهر الزاب نحو 480 بيتا.
وفي خانقين وأطرافها نحو 560 بيتا.
وما بقي منهم مبثوثون في السليمانية وما جاورها من القرى والدساكر، ومنهم شيء قليل في بغداد. ويقولون أنهم كثيرون في خارج بلاد العراق أي في الأستانة وإيران وروسية والهند والصين إلى غيرها من البلاد النائية.
8 -
نسب كبيرهم في الدين
يزعم كبيرهم الديني أن نسبه يتصل بمنصور الحلاج ويسمونه (منصور بردار) ومعنى بردار: على الخشبة، لأنه صلب عليها. وكان يقول:(أنا الحق) فلما سمعه بعضهم كفروه وحكموا عليه بالصلب. ويقول هذا الرئيس أن الحلاج المذكور كان الرئيس الأكبر لطائفتنا في عهده وهو الذي كان موزع (اللقمة). وكان صلبه في 24 ذي القعدة سنة 309هـ (أي 26 آذار 922م) فيكون قد مضى على رئيسهم الأكبر أكثر من ألف سنة وتزعم الكاكائية أن نصف سكان بغداد كانوا على مذهبهم (كذا) إلا أن تشديد غيرهم عليهم ممن لم يكونوا على معتقداتهم دفع كثيرين إلى إنكار ديانتهم ومالوا إلى المذاهب أو الأديان الأخرى فاختاروا النصرانية على كل دين سواه.
واليوم أكبر شعراء كركوك بالتركية والفارسية معا هو دده محمود هجري أفندي وهو يدير جريدة كركوك الحالية ورئيس تحريرها، ويلقب بدده لأن (دده) كلمة فارسية معناها الجد وبعضهم يقول بابا ويلقب به كل كبير في الدين ويرى تحت أمره سائر الزعماء فهو مثل شيخ الإسلام عند المسلمين وكالباب عند النصارى. ويعرف عند الغير (بموزع اللقمة).
9 -
رأينا في أصلهم ومعتقدهم
في أنحاء الموصل وكركوك وسنجار وما يجاورها فرق دينية مختلفة لا تكاد تجدها في بلاد أخرى، حتى أن مذاهب المسلمين المبثوثين في تلك الأصقاع
تختلف مذاهبهم ومعتقداتهم عن أصحاب تلك النحل في سائر الديار وهذا الاختلاف يعود إلى طبيعة البلاد فأنها جبلية وقد تناوب عليها أصحاب الأديان القديمة والعناصر المتباينة. وقد أبقى كل عنصر وكل معتقد وكل مذهب شيئا من بقاياه، فإن قلت أن الأمة الفلانية أو الفرقة الفلانية أو النحلة الفلانية هي كردية أو فارسية أو سريانية أو عربية أخطأت كل الخطأ. وكذا القول في
المذاهب فإنها كلها غريبة. وفي كل من أولئك الأقوام وكل مذهب من تلك المذاهب وفي لسان كل من تلك الأجيال بقايا قد اختلط بعضها ببعض حتى إنه ليستحيل على كل عاقل الوصول إلى قرار الحقيقة والذي يحاول البلوغ إليه يطلب المحال.
ففي عنصر الكاكائية ترى سحنات مختلفة تترد بين سحنة الكردي والتركي والفارسي والعربي والآرامي والأرمني. وكذلك قل عن لغتهم ففيها ألفاظ من جميع هذه اللغات المتضاربة الأصول البعيدة المنازع في لغات أخرى، وإما المذهب أو الدين أو النحلة أو ما تريد أن تسميه من الأسماء فإنه مجتمع معتقدات قديمة وحديثة لا صلة تصل بعضها ببعض ولا جامعة تجمع بعضها إلى بعض فترى فيها شيئا من المزدكية وبعض النصرانية وفيها من اليهودية وجزءا من الإسلامية. وإن كانوا يقولون لا نقر بشيء منها. وعندهم طائفة من آراء الفرق السرية كما عندهم رموز يتعارفون بها وألفاظ لا يبوحون بها إلى غير إخوانهم وحينما عرفوا أن بين الأتراك الجدد أخوانا ماصونا (أو فرماصونا) حاولوا الانخراط في سلكهم، لكن لم يتيسر لهم ذلك لأن الحرب حالت دون تحقيق أمنيتهم.
ثم أن لفظة كاكائي ليست أسم قبيلة أو أمة أو قوم أو بلد، إنما هي لفظة كردية فارسية الأصل معناها: الأخ. فقالوا في واحدها العائد إلى هذه الجمعية السرية كاكايا على الطريقة الارمية ومنهم من يلفظها كاكايي مفردا وجمعا. فانظر كيف جمعوا في لفظة واحدة الفارسية والآرامية وهم يريدون بذلك (الأخ في المذهب) أو كما يقول الفرنسيون فيكون معنى كاكائية أو
10 -
أنباؤنا
هذه الأنباء أو المعلومات - كما يقول بعضهم - أخذناها في أول الأمر
من سعو بن جمو - لكننا ارتبنا في صحتها. لأننا قلنا: لعله يفيدنا بهذه الإفادات بلوغا إلى غاية نجهلها الآن، ولا تتضح لنا إلا في ما بعد ثم قلنا: لعله يوهمنا ليحملنا على اعتقاد أشياء لا حقيقة لها في ذاتها. ولهذا أخذنا نبحث عن رجل آخر يفيدنا عن حقيقة ما سمعناه. فمضى على تلك المدونات نحو أربع سنوات واتفق إننا عرفنا كاكائيا آخر فكلمناه فزاد شيئا عليها، لكنه لم ينكر علينا واحدة منها وإن لم نكن نذكر له شيئا مما كنا سمعناه. بل كنا نلقي عليه أسئلة فكان يجاوبنا عليها وكنا ندونها أمامه بلا خوف، لأنه كان أديبا فاضلا.
ثم عرفنا ثالثا كان جاء إلى بغداد ليبيع شققا من البسط، وكان قد سمع بأننا في حاجة إلى عدد منها؛ فجاء بها إلينا فسألناه عن وطنه واصله ولغته ومذهبه فقال إنه (كاكائي) فقلنا له: وما تريد بذلك؟ إلى آخر الأسئلة، فكانت أجوبته تقوي ما كنا قد نقلناه عن أخويه. والرجل حي يرزق وهو الآن في جهة سليمانية.
11 -
الخلاصة
الكاكائية فرقة دينية منتشرة في أنحاء كركوك منذ قديم العهد، ولها أسرار غامضة لا يبوح أصحابها بها إلى غير إخوانهم، ولهم ألفاظ خاصة بهم يتعارفون بها وكان أبناؤها سابقا من عناصر مختلفة؛ أما اليوم فأجل عنصر فيها هو الكردي.
وسميت بهذا الاسم لأن (كاكا) بالفارسية هو ألام الأكبر - وللأخ الأكبر عند الشرقيين اعتبار خاص في الأسرة يتميز به عن سائر اخوته الأصغرين وذلك لأن الأب كان يبوح لابنه البكر فقط بأسراره الخاصة به وبالأسرة فكان الولد الأكبر مستودع الأسرار، والغنى، والشرف، والمجد، والقوة، والسؤدد، وهو ما يرى إلى اليوم في تلك الأرجاء.
وكان الأب يعد ابنه في حياته لهذه الغاية ومسألة انتقال أمور المملكة إلى البكر غير مجهولة في ديار الغرب نفسها، بل كان البكر في حياة أبيه ينوب هو عنه في غيابه دون سواه. وأبناء الشرق يحافظون على عاداتهم الموروثة عن آبائهم الأقدمين إلى عهدنا هذا وإن كان هذا الأمر لا يرى في جميع هذه الديار بصورة واحدة.