الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحمد لطفي السيد
وزير المعارف المصرية كما عرفته -
بقلم الأديب المعروف الأستاذ نجيب شاهين المحرر في صحيفة (السياسة) المصرية
جمعني وبعض الأصدقاء مجمع عرض فيه ذكر المقال الذي حشاه صديقي عباس محمود العقاد طعنا في رجل من خير رجالات مصر وهو أحمد لطفي السيد وزير المعارف الحالي. فقال أحد الحاضرين وهو محام مصري طويل الباع في الأدب (أنا لا أعرف العقاد ولم أر له صورة وجه ولكني استدل من كتابته على إنه شديد الذكاء وإن لم ينل قسطا وافرا من التربية الحديثة فقد تحامل على شوقي مثلا وهو شاعرنا الأوحد ويخيل إلى غير الأديب الحق وهو يقرأ انتقاده لشوقي أن شوقي ليس بناظم فضلا عن أن يكون شاعرا فذا منقطع النظير. ولا أذكر إنه مدح أحدا مختارا أو إنه تطوع لبيان فضائل فاضل وهذا شر ما يصاب به (أديب).
والغريب أن يكون هذا شأن كاتب مشهود له بالذكاء والأدب الكتابي كأن يكون الأدب الكتابي والأدب الخلقي نقيضان فيه لا يجتمعان. والأصل واحد والاشتقاق واحد ورحم الله القائل:
كذاك أدبت حتى صار من خلقي
…
أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
وفي الحق أن الأدب الخلقي الذي أراده الشاعر إنما هو سيد الأخلاق ولا يحسب الكاتب الأديب أديبا ما لم يكن على خلق عظيم.
تناول صديقي العقاد أستاذي أحمد لطفي السيد في مقاله ونال منه كل منال ولج في خصومته ولد في عداوته ولم يترك مكانا للصلح - فعل هذا كله متطوعا مختارا - إذ لا يعقل أن مثل هذا السباب البذيء يكلفه إياه أحد حتى ولو كان من حثالة خصومه السياسيين. وهكذا ترى إنه أديب يتطوع للشر ويقترح عليه الخير فلا يلبس إلا مكرها. وهذه أدنى دركة ينزل إليها الأديب، وهذا ما يحملنا على الظن أن المقال لم يعرض على صاحب البلاغ ورئيس تحريره عبد
القادر حمزة. فقد زاملناه في أواخر أيام (الجريدة) وكان الأستاذ لطفي السيد رئيسا لنا فجعل عبد القادر يده اليمنى في التحرير حتى حين وأحاطه برعايته وكان يلقنه ما يريد أن يقول وبقي ذلك شأنه حولا أو أكثر حتى انتدب لتحرير
(الأهالي) في حديث ليس هذا مجاله. فما نظن الأستاذ عبد القادر كان يسمح بنشر ذلك المقال لو اطلع عليه وكان ممن يعرف الجميل ويذكر المعروف.
أراد الأستاذ العقاد أن ينتقص فضل رجل لو كان في مصر عشرات مثله لكانت ذات استقلال تام من تلقاء نفسها ومن غير أن يحتاج في ذلك إلى السياسة ووسائلها. أراد أن ينتقص فضائله (فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل) ولست أدري لم يغضب الأستاذ العقاد من أن يسمى أحمد لطفي السيد أستاذا وكل محام أستاذ وكل طبيب أستاذ وكل معلم أستاذ. أتراه يسلم بأستاذية هؤلاء جميعا إلا أستاذية أحمد لطفي السيد؟
وبالطبع أن من ينكر على رجل كونه أستاذا أحر به أن ينكر عليه كونه فيلسوفا. ولكن هل كلف أحمد لطفي السيد أحدا يلقبه بالفيلسوف أو أوعز إلى أحد بذلك. وإن كانت السياسة هي أول من أشاع هذا اللقب فهل هي التي أوعزت إلى غيرها أن يحذو حذوها. لا يهولنك يا صديقي العقاد أن يلقب أحمد لطفي السيد بالفيلسوف لأنه إذا كان فيلسوفا فلست تقف أنت عقبة في سبيل هذا اللقب وإن لم يكن فيلسوفا فلسوف يزول هذا اللقب عنه من نفسه يوم يقوم في البلاد رجال أكثر استحقاقا لهذا اللقب منه.
ونحسب أن خلو كتاب الأخلاق الذي ترجمه من مقدمة له دليل على ذوقه السليم وانه يقدر الأشياء قدرها فاكتفى بالمقدمة الفرنسية لوفائها بالغرض وفي هذا أعظم دليل على البعد عن الدعوى الذي يلصقه العقاد.
ولست أدري لم تكون معرفة نيتشه أو تولستوي هي مقياس الفلسفة ولا يكون مقياسها معرفة أرسطو أو أفلاطون أو سقراط أو ابن رشد أو الغزالي أو ديكارت أو هيجل أو سبنسر. ثم أن فلسفة نيتشه ليست مجهولة كل الجهل عندنا فقد رأينا مقالات كثيرة عنها لكثير من كتابنا في كثير من مجلاتنا أفلا يجوز أن يكون أحمد لطفي السيد قد أطلع على إحداها ليدرك ماهية فلسفة نيتشه!!
صدقني يا صاحبي العقاد إن مقالك كله هزل ليس فيه جد وهو من نوع الهزل الذي يسميه الإنجليز لا من النوع الذي يسمونه والفرق بينهما أن الأول يكتب بروح الانتقاد والثاني يكتب بقلم بريء خال منها كلها فصاحبه ظريف حقا. فإن شئت يا صاحبي أن تعرف من هو أحمد لطفي السيد فاعلم:
إنه في مقدمة الذين سعوا في إنشاء حزب الأمة و (جريدته) وهو الذي وضع برنامجه وخطب الخطب الكثيرة ودبج المقالات العديدة في تأييد سلطة الأمة ولقي الاضطهاد الكثير مع (جريدته) في سبيل فصل شخصية الأمة المصرية عن الشخصيات الأخرى ورأى ذلك مقدمة لازمة للاستقلال المنشود فعارضه (المؤيد) صنيعة الخديوي السابق وعارضه (اللواء) القائل بالتعلق بالأهداب العثمانية وعارضته الصحف الأخرى القائلة بممالأة هذه الدولة الأجنبية أو تلك. ولما ظهرت (الجريدة) دعانا نحن محرريها وكان فيهم الأستاذ المرحوم عبد الحميد الزهراوي شهيد الحرية فقال أن الذين ينتمون إلى الدولة العثمانية منكم قد يريدون أن يعلموا خطة هذه الجريدة. فخطتها هي هذه: تناول قلما وقرطاسا ورسم دوائر خارجا بعضها عن بعض فكتب في دائرة مصر وفي الدوائر الأخرى تركية وغير تركية وقال هذه خطتنا السياسية إننا مع اتصالنا بالبلاد الإسلامية دينا، لا صلة سياسية لنا بها البتة.
واحمد لطفي السيد في مقدمة الذين سعوا في إنشاء حزب الأحرار الدستوريين وجريدة (السياسة) لسان حالهم. وهو الذي قضى ثماني سنوات يكتب المقالات الافتتاحية في (الجريدة) بيانا لسلطة الأمة وتعليقا على مناقشات الجمعية التشريعية ومجلس الشورى وغيرها من مقالات التشريع والأخلاق أيام كان بعض الكتاب يقضون الساعات الطوال بين بشار وأبي نواس وصريع الغواني وابن الشمقمق!!
ولم يشك أحد من العقلاء في وطنيته المصرية يوما. غاب عنا أياما ونحن في (الجريدة) لمرض اعتراه وكان منزله في دار الجريدة فدعاني صبيحة ذات يوم إليه يسألني عن التحرير فرأيته كاسف البال فجلست فسمعته يتأوه فظننت ذلك من
شدة وطأة الداء عليه وما أبطأ أن قال (ضاع البلد من أيدينا)!
كان ذلك على ما اذكر عند إعلان سياسة الوفاق في عهد السر الدون غورست وعلى أثر مشادة سياسية لا اذكرها تماما علم منها أهل الرأي في البلد حقيقة سياسة إنجلترة المصرية.
أما أخلاقه فإلى القارئ مثلا عليها: أقلت من (الجريدة) في السنة الأخيرة من سنيها طلبا للتوفير فلم يشأ أحمد لطفي السيدان يبلغني خبر الإقالة فعهد في ذلك إلى المرحوم حسن باشا عبد الرازق شهيد حادث شارع المبتديان وبينا كنت أقرأ مسودات الجريدة في ذلك
اليوم رأيها بها خبرا عن إقالتي (فشطبته) فسأل المدير عنه فقيل له أني حذفته فدعاني إليه وشدد النكير علي بحضور المرحوم إسماعيل بك ذهني حسبان أن في ذلك اعتداء على حقوقه. وفي اليوم التالي جاءني من يقول أن إسماعيل بك ذهني قال أن لطفي بك (ادالك جامد) وقد كان اجمد ما قاله لي (هل تعتدي على حقوقي)؟
ومضت الأيام فلقيته ذات يوم في إدارة المقتطف يزور المرحوم الدكتور صروف فسلم علي هاشا باشا ولمحت في وجهه نور الاطمئنان علي في عملي. وفي سنة 1922 قصدت الشام للتصييف ولما عدت قصدت دار الكتب فاخبرني صديقي حافظ إبراهيم أني عينت محررا في (السياسة) براتب حسن وكان ذلك أول ما علمت عن ذلك التعيين وإن لطفي بك هو الذي عينني.
هذا شيء عن علم رجل من رجالات مصر ووطنيته الصحيحة وأخلاقه العالية. أفي رجل مثل هذا تكال مقالات الطعن البذيء جزافا؟ أرأيت يا صديقي العقاد إن كان معالي وزير المعارف الحالي وفديا أو عضوا في وزارة ائتلافية هل كنت تقول فيه ما قلت في مقالك هذا؟ لقد بلغنا السن التي ينتظر قراؤنا منا فيها أن نكون أكثر تأنيا وإنصافا في إصدار أحكامنا على الناس واعلم أن مقالات الكاتب منا أكثر دلالة عليه منها على من يتناولهم فيها واصدق حكما علينا منها عليهم. وإني أدعو إلى الله ألا يكون حظي منك مقالة مثل هذه المقالات!!