الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو يكون أحسن قانون وتشريع، مهما رجحت عقول مقنّنيه، فإنّه ما من قوم إلّا ولهم من الشّرائع والقوانين ما يسيّرون به شئون حياتهم، لكنّهم لا يفتئون يغيّرون ويصلحون، ولو وصفوا قانونهم
بالحقّ المطلق لتعذّر عليهم تبديله والاستدراك عليه، وإنّما هذه أوصاف لا تكون إلّا لما هو خارج عن قدرات المخلوقين.
كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1].
وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ 42 [فصّلت: 41 - 42].
فأنزل القرآن حين أنزل، وهو إلى اليوم، وسيبقى إلى آخر الدّهر، لا يجد النّاس سبيلا إلى نقض شيء من أحكامه وشرائعه، مهما سعى الكفّار والّذين في قلوبهم مرض لإبطال ما جاء به من الحقّ والعدل والهدى، كما لا يجدون سبيلا للإتيان بما هو أحسن منه، إذ لا أحسن منه.
النّوع الرّابع: الإعجاز العلميّ:
وذلك فيما بيّن الله في هذا الكتاب ودلّ عليه من الآيات في السّماوات والأرض والأنفس، ممّا لم يكن ليحيط به علم بشر في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، ثمّ يبقى النّاس يكتشفون أسراره في الكون، والقرآن قد سبق به منذ دهر بعيد تصريحا وتلويحا، كان يتلوه على النّاس نبيّ أمّيّ، لم يدرس علوم الفضاء ولا البيئة ولا البحار ولا طبقات الأرض ولا الأجنّة، لينبئ
العالم أنّه رسول ربّ العالمين، وأنّ هذا القرآن من علم الله الّذي أحاط بكلّ شيء.
فتأمّل مثاله في الأنفس في قول الله عز وجل: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً 14 [نوح: 13 - 14]، ثمّ تأمّل تفسير تلك الأطوار في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَ
جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 12 - 14].
وتأمّل مثاله في الكون في قول الله عز وجل: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ 30
…
الآيات [الأنبياء: 30 - 33]، أو في قوله سبحانه:
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ 40 [يس: 37 - 40].
ألا تكفي هذه الآيات باحثا عن الحقيقة ليشهد أنّه الحقّ من ربّه؟
أترى يكون هذا من بشر من أهل مكّة يأتي به من تلقاء نفسه قبل خمسة عشر قرنا من الزّمان؟ كلّا، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى 5 [النّجم: 3 - 5]، تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ
وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة: 252].
والعلم الحديث يظهر على النّاس بعجائب في خلق الله، فيبهر النّاس بها، وحقّ لهم، لكنّ الأعجب أن يكون القرآن قد نبّه على اعتبارها ودلّ عليها منذ دهر بعيد، ولم يكن للنّاس يومئذ من وسائل النّظر والاكتشاف ما لأهل زماننا، إنّه استمرار شهادة الحقّ، أنّ هذا القرآن من عند الله:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصّلت: 53].
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 185].
إنّ الله سبحانه أراد لهذا القرآن أن يكون حجّته على الأمم إلى قيام السّاعة، وما كان ليصحّ ذلك إلّا والدّليل على أنّه من عند الله باق مستمرّ، فتارة لغته وفصاحته وتأليفه ونظمه، وتارة عصمته من التّحريف وبقاؤه غضّا طريّا كما لو أنزل السّاعة، وتارة ما جاء به من القوانين والشّرائع العادلة الّتي استغرقت جميع مصالح العباد، وتارة ما فيه من التّنبيه على الآيات الكونيّة، والدّلائل العلميّة، وهكذا، إلى براهين لا تنقطع ولا تتناهى، كلّها تشهد أنّه كلام ربّ العالمين.
***