الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن الجزريّ: «وهو المختار عند أكثر أهل الأداء» (1).
والرّابعة: التّرتيل، وهو القراءة المبيّنة المفسّرة المستوعبة لأحكام التّلاوة، وهي قراءة التّدبّر الّتي نزل القرآن بالأمر بها، كما قال الله عز وجل: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزّمّل: 4].
والّذي أميل إليه: أنّ التّحقيق والتّدوير جميعا من جملة التّرتيل، إذ الأمر يرجع في جميعها إلى ترك الإسراع في القراءة، والتّفاوت في البطء لا ينضبط، خاصّة إذا لاحظنا أنّ الإتيان بأحكام التّلاوة على التّمام مراد في كلّ ذلك.
وغاية ما يمكن أن يقال من الفرق بينها: أنّ التّحقيق أبطأ من التّرتيل، والتّرتيل أبطأ من التّدوير.
الهدي النبوي في صفة الترتيل:
عن أمّ المؤمنين حفصة، رضي الله عنها، قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في سبحته قاعدا، حتّى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلّي في سبحته قاعدا، وكان يقرأ بالسّورة فيرتّلها، حتّى تكون أطول من أطول منها (2).
فهذا يبيّن أنّ التّرتيل الّذي أمر الله تعالى به نبيّه صلى الله عليه وسلم في كتابه، كان بالتّأنّي
(1) النّشر (1/ 207).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مالك (رقم: 363) وأحمد (6/ 285) ومسلم (رقم: 733) - والتّرمذيّ (رقم: 373) والنّسائيّ (رقم: 1658) من طريق الزّهريّ، عن السّائب بن يزيد، عن المطّلب بن أبي وداعة السّهميّ، عن حفصة، به.
قال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح» . والسّبحة: صلاة النّافلة.
في أداء الحروف والوقوف، ممّا تخرج به تلاوة القرآن عن شبه التّلاوة لسائر الكلام الّذي عهد بأن يسرد سردا: موصولا ببعضه، مكتفى بالنّطق بأدنى ما يكون من صفة الحرف، أو بما هو دون ذلك.
وأمّ المؤمنين أمّ سلمة رضي الله عنها كانت تصف قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأنّها كانت قراءة مفسّرة حرفا حرفا (1)، وأنس بن مالك يذكر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يمدّ بها صوته مدّا (2)، ويفسّر أنس ذلك في رواية،
فيقول: كانت مدّا، ثمّ
(1) وذلك في حديث يعلى بن مملك: أنّه سأل أمّ سلمة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصلاته؟ فقالت: ما لكم وصلاته؟ كان يصلّي، ثمّ ينام قدر ما صلّى، ثمّ يصلّي قدر ما نام، ثمّ ينام قدر ما صلّى، حتّى يصبح، ثمّ نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسّرة حرفا حرفا.
أخرجه أحمد (6/ 294، 300) والبخاريّ في «خلق أفعال العباد» (رقم: 171) وأبو داود (رقم: 1466) والتّرمذيّ (رقم: 2923) والنّسائيّ (رقم: 1022، 1629) وابن خزيمة (رقم: 1158) والحاكم (رقم: 1165) والبيهقيّ (3/ 13) من طريق اللّيث بن سعد، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك، به.
قال التّرمذيّ: «حديث حسن صحيح» ، وقال الحاكم:«حديث صحيح على شرط مسلم» . قلت: هو صحيح، وليس على شرط مسلم، فإنّه لم يخرّج ليعلى، وإنّما صحّحته تبعا للتّرمذيّ، فإنّه صحّحه مع حكمه بغرابته ممّا دلّ على ثقة يعلى عنده، ويعلى لم يجرح من أحد، ولم يرو منكرا.
(2)
وسياقه عن قتادة، قال: قلت لأنس: كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان يمدّ صوته مدّا. أخرجه أحمد (رقم: 12198 ومواضع أخرى) والبخاريّ (رقم:
4758) وأبو داود (رقم: 1465) والنّسائيّ (رقم: 1014) وابن ماجة (رقم:
1353) من طريق جرير بن حازم، قال سمعت قتادة، به.
قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1* يمدّ ب بِسْمِ اللَّهِ*، ويمدّ ب الرَّحْمنِ* ويمدّ ب الرَّحِيمِ* (1).
كذلك سمع عبد الله بن مغفّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ قراءة ليّنة يرجّع فيها، يقول:(آآآ)(2).
فهذه صفة القراءة النّبويّة ترجع في جملتها إلى التّأنّي والتّرسّل في التّلاوة بإعطاء كلّ حرف حقّه ومستحقّه على أكمل وجوهه، ولا يخفى في التّطبيق ما لذلك من الأثر في تدبّر القرآن وفهم معانيه، وهو المقصود من تلاوته.
وهذه الصّفة تفسير للأمر بالتّرتيل الّذي جاء به نصّ الكتاب، والمتأمّل يرى اندراج المراتب الاصطلاحيّة الثّلاث (التّحقيق، والتّدوير، والتّرتيل) جميعا تحت ذلك الهدي، إذ كلّها موصوف باستيفاء أحكام التّجويد وإن
(1) رواية صحيحة، أخرجها البخاريّ (رقم: 4759) من طريق همّام عن قتادة.
(2)
حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4031، 4555، 4747، 4760) ومسلم (رقم: 794) من طريق أبي إياس معاوية بن قرّة، قال سمعت عبد الله بن مغفّل قال:
رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح، أو من سورة الفتح، قراءة ليّنة، يقرأ وهو يرجّع.
وللبخاريّ في رواية (رقم: 7102):
قال: ثمّ قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفّل، وقال: لولا أن يجتمع النّاس عليكم لرجّعت كما رجّع ابن مغفّل يحكي النّبيّ صلى الله عليه وسلم، (قال شعبة بن الحجّاج): فقلت لمعاوية: كيف كان ترجيعه؟ قال: (آآآ) ثلاث مرّات.