الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أشياء، كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الرّوم: 55].
وهكذا في أنواع كثيرة للبديع، اعتنى ببيانها بعض المفسّرين، ويحسن بالمتدبّر مراعاتها وإن كانت ليست من لوازم التّفسير.
المبحث الثالث: قواعد أخرى
1 -
ما يروى عن السّلف في تفسير الآية الواحدة من تفسيرات مختلفة للكلمة الواحدة أو الجملة المعيّنة، فإنّ أكثرها يعود إلى اختلاف التّنوّع، لا تضادّ بينها ولا تخالف، وهناك معنى كلّيّ تجتمع فيه كلّ تلك التّفسيرات.
مثل اختلاف ألفاظ المفسّرين في تفسير كلمة (طوبى) في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ [الرّعد: 29]، فقيل:
فعلى من الطّيب، والمعنى: العيش الطّيّب لهم، وقيل: نعمى، أو نعم ما لهم، وقيل: حسنى، وقيل: غبطة، وقيل: فرح وقرّة عين، وقيل:
خير، ومنه قول الرّجل: طوبى لك، أي: أصبت خيرا، وقيل: الجنّة، وقيل: شجرة في الجنّة، فهذه التّفسيرات وإن اختلفت إلّا أنّها تشترك جميعا في معنى واحد، هو الثّواب الحسن، وإن كان الأخير منها يحتاج إلى الخبر، والحديث فيه ضعيف.
ومثل هذا ما ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ 1 قال: «بينما أنا أسير في الجنّة، إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدّرّ المجوّف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الّذي أعطاك ربّك» (1).
مع ما صحّ عن ابن عبّاس من قوله: «الكوثر: الخير الكثير الّذي أعطاه الله إيّاه» (2).
فليس بين الحديث والأثر تضادّ، فإنّ نهر الكوثر في الجنّة هو الخير الكثير الّذي أعطاه الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قيل لسعيد بن جبير حين حدّث بما تقدّم عن ابن عبّاس:
فإنّ النّاس يزعمون أنّه نهر في الجنّة؟ فقال سعيد: النّهر الّذي في الجنّة من الخير الّذي أعطاه الله إيّاه (3).
واختلاف الألفاظ في التّعبير عن الشّيء الواحد مدرك معلوم (4)، وقد يعبّر عن الشّيء بما يقرّب معناه وإن لم يكن يساويه من كلّ وجه (5).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 12008 ومواضع أخرى) والبخاريّ (رقم:
4680، 6210) وأبو داود (رقم: 4748) والتّرمذيّ (رقم: 3359، 3360) والنّسائيّ في «التّفسير» (رقم: 726) وغيرهم من حديث أنس بن مالك.
(2)
أثر صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 4682، 6207) والنّسائيّ في «التّفسير» (رقم: 724).
(3)
هذا في رواية البخاريّ.
(4)
انظر: فتاوى ابن تيميّة (13/ 205 - 206)، البرهان، للزّركشيّ (2/ 151).
(5)
انظر: فتاوى ابن تيميّة (13/ 183).
ولا يكاد يوجد تعارض حقيقيّ بين أقاويل السّلف في التّفسير، فإن وجد وصحّ إسناده عن قائله، ولم يوجد مرجّح من النّصوص، فالتّرجيح لمن رسخ قدمه في التّفسير، أو من له مزيد دراية في موضوع اللّفظ المختلف فيه (1).
والأصل أنّ كلّ تفسير يحتمله اللّفظ من جهة اللّغة، ولا معارض له يساويه أو يرجح عليه، فهو مقبول.
2 -
جميع نصوص القرآن متكافئة في درجة الاعتبار بها، إلّا ما ثبت نسخه.
وهذا يعني أنّه لا يصحّ اللّجوء إلى التّرجيح بين نصّين، إنّما الواجب الاجتهاد في التّوفيق بينهما، وذلك باتّباع الأصول المعتبرة في علم أصول الفقه، كتخصيص العامّ، وتقييد المطلق.
ولا يحلّ الفزع لادّعاء النّسخ عند مظنّة التّعارض، إلّا أن توجد شروط النّسخ، على ما سبق في (المقدّمة الرّابعة).
3 -
مراعاة دلالات: العموم والخصوص، والإطلاق والتّقييد، والأمر والنّهي، والمنطوق والمفهوم.
وملاحظة من توجّه له الخطاب، إن كان خاصّا أو عامّا، أو خاصّا أريد به العامّ، أو عامّا أريد به الخاصّ، وهكذا.
(1) انظر: «البرهان» للزّركشيّ (2/ 159 - 160، 172).
ومحلّ بسط ذلك كتب أصول الفقه.
4 -
إذا وجدت النّصّ يخبر عمّا هو معلوم عادة أو حسّا أو عقلا،
فليس المراد منه مجرّد الإعلام بذلك، إنّما يشتمل على غرض آخر، فتأمّله (1).
وذلك كقوله تعالى: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ 22 [التّكوير: 22]، في ردّ دعوى المبطلين، إذ شأنه معلوم في نفي الجنون عنه، وكقوله:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ 30 [الزّمر: 30] للوعظ والتّذكير، وإلّا فالموت حقيقة مسلّمة، وكقوله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [القصص: 44]، وذلك تمنّن على نبيّه صلى الله عليه وسلم وأمّته، وإظهار لصدقه.
5 -
ملاحظة الوحدة الموضوعيّة للسّورة، بالنّظر إلى ترابط أجزائها لتكوّن موضوعا واحدا.
ومن هذا ما يعبّر عنه بعض العلماء ب «المناسبة» أو «التّناسب» .
ومراعاته فيما بين آيات السّورة يعني فهم الآية من خلال سياقها، وحيث إنّ ترتيب الآيات في السّورة توقيفيّ، فعلاقة الآية بالآية معتبرة، ومن خلال ذلك التّرابط يفهم موضوع السّورة.
لكن هل يطّرد هذا التّرابط بين آيات السّورة في جميع القرآن؟
(1) نبّه على هذا الأصل الإمام عزّ الدّين بن عبد السّلام في كتاب «الإمام» (ص: 162 - 168) وأتى على ذكر اثنتي عشرة فائدة لذلك.
من المفسّرين من بالغ في استعمال هذه القاعدة، والحقّ فيها وسط.
قال العزّ بن عبد السّلام: «من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه
ببعض، ويتشبّث بعضه ببعض؛ لئلّا يكون مقطّعا مبتّرا، وهذا بشرط أن يقع الكلام في أمر متّحد، فيرتبط أوّله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحد الكلامين بالآخر، ومن ربط ذلك فهو متكلّف لما لم يقدر عليه إلّا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث، فضلا عن أحسنه، فإنّ القرآن نزل على الرّسول عليه السلام في نيّف وعشرين سنة، في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة غير مؤتلفة، وما كان كذلك لا يتأتّى ربط بعضه ببعض، إذ ليس يحسن أن يرتبط تصرّف الإله في خلقه وأحكامه بعضه ببعض، مع اختلاف العلل والأسباب» وذكر لذلك أمثلة (1).
وبالغ الشّوكانيّ (2) في إنكار سلوك هذه الطّريقة، واستدلّ بما لا يخرج في معناه عمّا ذكره العزّ.
وذكرت في جوامع التّفسير كتاب البقاعيّ في ذلك (3)، وقد زاد فيه أيضا التّناسب بين السّور، كما أفرده السّيوطيّ كذلك بكتاب (4)، ومراعاة السّور
(1) الإشارة إلى الإيجاز، للعزّ بن عبد السّلام (ص: 221).
(2)
فتح القدير، للشّوكانيّ (1/ 171 - 174).
(3)
وهو المسمّى «نظم الدّرر في تناسب الآيات والسّور» تقدّم (ص: 363).
(4)
في «تناسق الدّرر في تناسب السّور» والمطبوع باسم «أسرار ترتيب القرآن» .
وانظر لهذا المبحث أيضا: «البرهان» للزّركشيّ (1/ 35).
مسلك فيه تكلّف ظاهر، خاصّة أنّ راجح القولين لأهل العلم أنّ ترتيب السّور في المصحف دخله الاجتهاد.
6 -
ملاحظة دلالات خواتيم الآي، والرّبط بينها وبين ما قبلها، كتأمّل وجه الرّبط مثلا بين قوله تعالى: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ بعد أن
قال: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ* [الأعراف: 200]، ومجيء قوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* في خاتمة قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة: 38].
7 -
رعاية أحكام الوقف والابتداء.
وهذا سبيله التدبّر، وهو سبب عظيم المنفعة لفهم القرآن، والأصل أنّه اجتهاديّ، ولذا حين أثبتت علاماته في المصاحف اختلفت، وفيه مؤلّفات مفيدة، وتأتي له تتمّة في (المقدّمة السّادسة).
8 -
مراعاة بيئة النّصّ الزّمانيّة والمكانيّة، وذلك بتصوّر عهد نزول القرآن وواقع النّاس يومئذ، والمكان الّذي كان ينزل فيه القرآن.
والطّريق إليه: معرفة أسباب النّزول، والوقائع الّتي استعمل فيها نصّ القرآن، والدّراية بسيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
حدّث طاوس اليمانيّ عن ابن عبّاس، أنّه سئل عن قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشّورى: 23]؟ فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمّد صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عبّاس:
عجلت، إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلّا كان له فيهم
قرابة، فقال: إلّا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة (1).
ومن ذلك ملاحظة مراحل التّنزيل، فقد تقدّم ذكر التدرّج فيه وما فيه من الحكم.
9 -
ربط القرآن ودلالات النّصوص ممّا لا يتّصل بالجانب
التّوقيفيّ المحض، بما يظهر اليوم من الاكتشافات العلميّة المبيّنة لكثير من وجوه الإعجاز في القرآن.
هذه المباحث الثّلاثة تضمّنت كلّيّات جوامع، لم أجد بدّا من الإيجاز فيها والاختصار؛ لأنّ الدّخول في تفاصيلها يخرج عن التّقعيد، ويطول به الكتاب، والإشارة بما ذكر إلى ما لم يذكر تغني اللّبيب.
…
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 3306، 4541).