الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا مختصر يحقّق كثيرا ممّا يقصده من يريد معرفة إعراب القرآن.
وفي عصرنا ألّفت كتب مفيدة في هذا الباب، وزادت بيان بلاغة القرآن كذلك، من أبرزها كتاب «إعراب القرآن وبيانه» من تأليف الأستاذ محيي الدّين الدّرويش الحمصيّ، المتوفّى سنة (1402 هـ)، وهو كتاب فريد في أسلوبه واستيعابه وسهولة عرضه، اعتنى فيه بالإعراب أحسن عناية، فأعرب القرآن مفردة مفردة، ونبّه على الصّور البلاغيّة
فيه، مع شرح غريبه، لكن يؤخذ عليه التّأثّر بقول المؤوّلة في صفات الله، وتارة يقف عند مذهب السّلف، فإذا استثنيت هذا فالكتاب في موضوعه كبير الفائدة.
المبحث السابع: تفاسير الصوفية
ويسمّى (التّفسير الإشاريّ).
وهو تفسير اللّفظ بغير المتبادر من ظاهره، أو: استخراج معاني كامنة وراء الظّاهر.
وهو أيضا التّفسير بما يسمّيه الصّوفيّة «العلم اللّدنّي» أخذا من قول الله عز وجل في شأن الخضر عليه السلام: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف: 65].
مثل قولهم في قوله تعالى: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ [النّساء: 36]: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى هو القلب،
وَالْجارِ الْجُنُبِ النّفس، وَابْنَ السَّبِيلِ الجوارح.
وقول أحدهم في قوله تعالى: فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ [طه: 40] قال: نجّيناك من الغمّ بقومك، وفتنّاك بنا عمّن سوانا (1).
وقال آخر في قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة: 5]: من لا يجتهد في معرفته لا يقبل خدمته (2).
وقد سئل الإمام أبو عمرو ابن الصّلاح عن هذا النّوع من التّفسير؟ فأجاب: «الظّنّ بمن يوثق به منهم أنّه إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنّه لم يذكره تفسيرا، ولا ذهب به مذهب الشّرح للكلمة المذكورة في القرآن العظيم، فإنّه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسالك الباطنيّة، وإنّما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن، فإنّ النّظير يذكر بالنّظير» قال: «ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك؛ لما فيه من الإيهام والالتباس» (3).
وسلك هذا الطّريق في التّفسير طائفة، وألّفوا فيه، أبرزهم رجلان:
الأوّل: أبو عبد الرّحمن محمّد بن الحسين السّلميّ النّيسابوريّ، المتوفّى سنة (412 هـ).
كبير الصّوفيّة في وقته، وكان محدّثا حافظا، لكنّه ألّف كتابا في التّفسير
(1) انظر: تلبيس إبليس، لابن الجوزيّ (ص: 331 - 332).
(2)
طبقات الصّوفيّة، لأبي عبد الرّحمن السّلميّ (ص: 439).
(3)
فتاوى ابن الصّلاح (1/ 196 - 197) وذكر الزّركشيّ هذا الكلام بنصّه في «البرهان» (2/ 170، 171) عنه كذلك.
سمّاه «حقائق التّفسير» ضمّنه هذا النّوع من التّفسير المسمّى ب (الإشاريّ)، وحكى فيه مقالات الصّوفيّة وعباراتهم، وفيها ما لا يحتمل، بل ينبو عنه الظّاهر، وفي الاعتذار عنه تكلّف شديد.
وشدّد كثير من العلماء النّكير على هذا الكتاب، وعابوه على السّلميّ، حتّى بالغ الواحديّ المفسّر فقال:«صنّف أبو عبد الرّحمن السّلميّ (حقائق التّفسير)، فإن كان قد اعتقد أنّ ذلك تفسير، فقد كفر» (1).
وقال الذّهبيّ: «في حقائق تفسيره أشياء لا تسوغ أصلا، عدّها بعض الأئمّة من زندقة الباطنيّة، وعدّها بعضهم عرفانا وحقيقة» (2).
وانتقده شيخ الإسلام ابن تيميّة، ولكن بعبارة أخفّ (3).
وظاهر الأمر أنّ السّلميّ كان ناقلا، وإن عيب فبحكايته ما لا يحتمل حتّى مع التّكلّف في تأويله، لا أنّه يؤاخذ بشيء قاله من جهة نفسه.
والثّاني: الشّيخ محيي الدّين محمّد بن عليّ بن محمّد الطّائيّ الحاتميّ، المعروف ب «ابن عربيّ» ، المتوفّى سنة (638 هـ).
وهو متّهم في دينه عند جمهور أئمّة المسلمين، ومنهم من كفّره، وهو رأس القائلين بفكرة وحدة الوجود، وزعم لنفسه أنّه خاتم الأولياء،
(1) فتاوى ابن الصّلاح (1/ 197).
(2)
سير أعلام النّبلاء، للذّهبيّ (17/ 252).
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (13/ 130).
وتكلّم بالألفاظ الكفريّة، وله تفسير على طريقته، لكن ما حمل النّاس عليه في شيء من كتبه كالّذي حملوه عليه في كتابه «فصوص الحكم» ، ذلك لما رأوا فيه من شنيع العبارة، وفي كلامه ما يشقّ على المسلم حكايته، نسأل الله العفو والعافية، وأمره إلى الله، وقد أغنى الله المسلمين عنه وعن كتبه، فإن كان عنده حقّ فإنّه لم يقصر عليه، والحمد لله (1).
فتفسير هذه الطّائفة للقرآن تفسير على غير مقتضى الظّاهر، وربّما
سمّاه بعض العلماء «تفسيرا باطنيّا» ، وجعل أصحابه كالقرامطة (2)، وهم طائفة «يدّعون أنّ للقرآن والإسلام باطنا يخالف الظّاهر» ، وحقيقة أمرهم أنّ «ظاهرهم الرّفض، وباطنهم الكفر المحض» (3).
لكن التّحقيق أنّ مسلكهم في التّفسير وإن أشبهوا فيه الباطنيّة القرامطة، إلّا أنّه لا يبلغ مبلغهم، فأولئك ملاحدة زنادقة، ولشيخ الإسلام ابن تيميّة
(1) انظر ترجمته في: «سير أعلام النّبلاء» للذّهبيّ (23/ 48)، «تاريخ الإسلام» له (وفيات سنة 631 - 640، ص: 374)، «الوافي بالوفيات» للصّفديّ (4/ 173)، «البداية والنّهاية» لابن كثير (13/ 184)، «لسان الميزان» لابن حجر (5/ 307).
(2)
هم طائفة من المارقة، ظهر أمرهم في خلافة المعتضد العبّاسيّ في سنة (278 هـ)، وكان منهم بعد ذلك شرّ عظيم، أظهروا الكفر، واستباحوا المحرّمات، ووقعت منهم أعاجيب، وقيل في نسبتهم: إنّ (قرمط) لقب لرجل من أهل الكوفة اسمه (حمدان)، أوّل من أظهر هذه الدّعوة، وقيل غير ذلك، وانظر خبرهم في «الكامل» لابن الأثير (6/ 69) و «الأنساب» للسّمعانيّ (10/ 387).
(3)
مجموع الفتاوى، لابن تيميّة (13/ 127).
كلام محرّر يفصل في سبيل هذين الفريقين، ويبيّن الحكم في هذا النّمط من التّفسير، قال رحمه الله: «وجماع القول في ذلك أنّ هذا الباب نوعان:
أحدهما: أن يكون المعنى المذكور باطلا؛ لكونه مخالفا لما علم، فهذا هو في نفسه باطل، فلا يكون الدّليل عليه إلّا باطلا؛ لأنّ الباطل لا يكون عليه دليل يقتضي أنّه حقّ.
والثّاني: ما كان في نفسه حقّا، لكن يستدلّون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك، فهذا الّذي يسمّونه (إشارات)، و (حقائق التّفسير) لأبي عبد الرّحمن فيه من هذا الباب شيء كثير.
وأمّا النّوع الأوّل فيوجد كثيرا في كلام القرامطة والفلاسفة المخالفين للمسلمين في أصول دينهم».
قال: «وأمّا النّوع الثّاني، فهو الّذي يشتبه كثيرا على بعض النّاس، فإنّ المعنى يكون صحيحا لدلالة الكتاب والسّنّة عليه، ولكنّ الشّأن في كون اللّفظ الّذي يذكرونه دلّ عليه، وهذا قسمان:
أحدهما: أن يقال: إنّ ذلك المعنى مراد باللّفظ، فهذا افتراء على الله، فمن قال: المراد بقوله: تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: 67] هي النّفس، وبقوله: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ* [طه: 24] هو القلب، وَالَّذِينَ مَعَهُ* أبو بكر، أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ عمر، رُحَماءُ بَيْنَهُمْ عثمان، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً [الفتح: 29] عليّ، فقد كذب على الله، إمّا متعمّدا، وإمّا مخطئا.
والثّاني: أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس، لا من باب دلالة اللّفظ، فهذا من نوع القياس، فالّذي تسمّيه الفقهاء (قياسا) هو الّذي تسمّيه الصّوفيّة (إشارة)، وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل، كانقسام القياس إلى ذلك.
فمن سمع قول الله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ 79 [الواقعة: 79]، وقال: إنّه اللّوح المحفوظ أو المصحف، فقال: كما أنّ اللّوح المحفوظ الّذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسّه إلّا بدن طاهر، فمعاني القرآن لا يذوقها إلّا القلوب الطّاهرة، وهي قلوب المتّقين، كان هذا معنى صحيحا واعتبارا صحيحا، ولهذا يروى هذا عن طائفة من السّلف» (1).
قلت: فهذا يبيّن أنّ التّفسير الإشاريّ ليس جميعه مرفوضا، بل
منه ما هو صحيح مقبول، وقرّب هذا العلّامة ابن القيّم فذكر لقبوله أربعة شروط، هي:
1 -
أن لا يناقض معنى الآية.
2 -
أن يكون معنى صحيحا في نفسه.
3 -
أن يكون في اللّفظ إشعار به.
4 -
أن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم (2).
(1) مجموع الفتاوى، لابن تيميّة (13/ 129 - 130).
(2)
التّبيان في أقسام القرآن، لابن القيّم (ص: 50).