الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمّا الوجه الثّاني، وهو تدبّر القرآن، فإنّ الله تعالى أمر به جميع المكلّفين، كلّا بحسب ما آتاه الله، كما سبق ذكر بعض الأدلّة فيه.
وأمّا حكم تفسير ما استأثر الله بعلمه، فهو المنع والتّحريم، لاندراجه تحت قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36]، وقوله عز وجل: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 32]، وسائر النّصوص المانعة من الكلام في الدّين بغير علم، كذلك أصحابه موصوفون بالزّيغ، كما تقدّم.
حكم التفسير بالرأي:
الاجتهاد من قبل أهل العلم في تفسير القرآن واجب، كما تقدّم،
والاجتهاد إظهار للرّأي في تفسير الآية، لكن شتّان ما بين مجتهد بذل غاية وسعه، وهو أهل لذلك: قد ملك الآلة، وأتى الأمر من بابه، وبين متكلّف قد صرّفته الأهواء كيف شاءت، فاستنّ بسنّة من سبق من أهل الضّلالة في التّحريف والتّبديل، أو تكلّف متعجّلا فتكلّم في القرآن دون رويّة.
فهذان صنفان، كلاهما تكلّم بالرّأي، لكنّ الأوّل محمود مأجور، والثّاني مذموم موزور.
وعلى هذا الثّاني يتنزّل ما ورد من ذمّ التّفسير بالرّأي وتحريمه؛ لأنّ هواه أو عدم تثبّته وتحرّيه يوقعه في أن يقول على الله غير الحقّ.
وكان أئمّة الصّحابة والتّابعين على ما آتاهم الله من المكانة في العلم في غاية الاحتراز من الكلام في القرآن، إلّا ما بدا وجهه وظهرت حجّته، ومن الأثر فيه ما يلي:
1 -
عن أنس بن مالك:
أنّه سمع عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، يقول:«فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا 31 [عبس: 27 - 31]، قال: فكلّ هذا قد عرفناه، فما الأبّ؟ ثمّ نفض عصا كانت في يده، فقال: هذا لعمر الله التّكلّف، اتّبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب» (1).
2 -
وعن مسروق بن الأجدع، قال:
(1) أثر صحيح. أخرجه الحاكم (رقم: 3897) وعنه: البيهقيّ في «شعب الإيمان» (رقم: 2281) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدّثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، أنّ أنسا، به.
قلت: وإسناده صحيح، وصالح هو ابن كيسان. وقال الحاكم:«صحيح على شرط الشّيخين» .
وأخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 30096) وسعيد بن منصور في «تفسيره» (رقم:
43) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 375) والحاكم، والبيهقيّ، من طريق حميد الطّويل عن أنس، به ببعض الاختصار. وإسناده صحيح.
كذلك أخرجه ابن سعد في «الطّبقات» (3/ 327) والبخاريّ في «صحيحه» (رقم:
6863) من طريق ثابت البنانيّ، عن أنس، واقتصر البخاريّ منه على النّهي عن التّكلّف.
بينما رجل يحدّث في كندة (1)، فقال: يجيء دخان يوم القيامة، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم كهيئة الزّكام، ففزعنا، فأتيت ابن مسعود، وكان متّكئا (2)، فغضب فجلس، فقال:«من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإنّ من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم، فإنّ الله قال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86]» (3).
3 -
وعن عبد الله بن أبي مليكة، قال:
سأل رجل ابن عبّاس عن يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السّجدة: 5]؟
فقال ابن عبّاس: فما يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4]؟
قال الرّجل: إنّما سألتك لتحدّثني، فقال ابن عبّاس: هما يومان
ذكرهما الله في كتابه، الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم (4).
(1) كندة: قبيلة من أهل اليمن، تفرّقوا في البلاد، والمراد هنا: منازلهم بالكوفة.
(2)
قال مسروق في رواية صحيحة الإسناد: إنّي تركت في المسجد رجلا يفسّر القرآن برأيه. أخرجها أحمد (رقم: 3613).
(3)
حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4496، 4531، 4545) ومسلم (رقم: 2798).
(4)
أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 376) وابن جرير في «تفسيره» (29/ 72) والحاكم (رقم: 8803 وهو آخر حديث في: المستدرك) من طرق عن أيّوب السّختيانيّ، عن ابن أبي مليكة، به.
قلت: وإسناده صحيح. وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط البخاريّ» .
4 -
وعن عبيد الله بن عمر، قال:«لقد أدركت فقهاء المدينة وإنّهم ليعظّمون القول في التّفسير، منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمّد، وسعيد بن المسيّب، ونافع» (1).
5 -
وكان مسروق بن الأجدع يقول: «اتّقوا التّفسير، فإنّما هو الرّواية عن الله عز وجل» (2).
6 -
وكذلك قال عامر الشّعبيّ: «والله، ما من آية إلّا قد سألت عنها، ولكنّها الرّواية عن الله» (3).
وروي في تحريم تفسير القرآن بمجرّد الرّأي حديثان شائعان، لم أستدلّ بهما لضعفهما من جهة الرّواية، مستغنيا بما أوردت آنفا ممّا يحقّق المقصود، وإنّما أنبّه عليهما دفعا للتّعلّق بهما.
الأوّل: ما روي عن عبد الله بن عبّاس، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من
قال في القرآن بغير علم (وفي رواية: برأيه)؛ فليتبوّأ مقعده من النّار» (4).
(1) أثر صحيح الإسناد. أخرجه ابن جرير (1/ 37).
وهؤلاء المذكورون جميعا من فقهاء المدينة الّذين عليهم مدار الفتوى فيها بعد أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
(2)
أثر صحيح الإسناد. أخرجه أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 377).
(3)
أثر صحيح الإسناد. أخرجه ابن جرير (1/ 38).
(4)
أخرجه أحمد (رقم: 2069، 2429، 2974، 3024) والتّرمذيّ (رقم: 2950) والنّسائيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 109، 110) وأبو يعلى (رقم: 2338، 2585، 2721) وابن جرير (1/ 34) والطّبرانيّ في «الكبير» (12/ رقم: 12392) وغيرهم من طريق عبد الأعلى بن عامر الثّعلبيّ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس.
قلت: وعبد الأعلى هذا ضعيف الحديث، ليس بالقويّ، ولم يتابع على هذا الحديث، كما أنّه قد اختلف عليه فيه، فمرّة حدّث به مرفوعا، ومرّة موقوفا.
ولم يصب من حسّنه، وقد فصّلت القول فيه في «علل الحديث» .
والثّاني: ما روي عن جندب بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ» (1).
وبيّن كثير من أهل العلم الفصل بين التّفسير بالرّأي المحمود والرّأي المذموم، فمن ذلك:
وقال ابن عطيّة: «معنى هذا أن يسأل الرّجل عن معنى في
كتاب الله، فيتسوّر عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء واقتضته قوانين العلوم، كالنّحو
(1) أخرجه أبو داود (رقم: 3652) والتّرمذيّ (رقم: 2952) والنّسائيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 111) وأبو يعلى (رقم: 1520) وابن جرير (1/ 35) والطّبرانيّ (رقم: 1672) وابن عديّ في «الكامل» (4/ 527) وغيرهم من طرق عن سهيل بن عبد الله ابن أبي حزم القطعيّ، عن أبي عمران الجونيّ، عن جندب، به.
قلت: وإسناده ضعيف، سهيل ضعيف الحديث، وتفرّد بهذا عن أبي عمران.
(2)
شعب الإيمان (2/ 423).
والأصول، وليس يدخل في هذا
…
أن يفسّر اللّغويّون لغته، والنّحاة نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كلّ واحد باجتهاد المبنيّ على قوانين علم ونظر، فإنّ القائل على هذه الصّفة ليس قائلا بمجرّد رأيه» (1).
وقال القرطبيّ: «النّهي يحمل على أحد وجهين:
أحدهما: أن يكون له في الشّيء رأي، وإليه ميل من طبعه وهواه، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه وهواه؛ ليحتجّ على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرّأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى.
وهذا النّوع يكون تارة مع العلم، كالّذي يحتجّ ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته، وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك، ولكن مقصوده أن يلبس على خصمه.
وتارة يكون مع الجهل، وذلك إذا كانت الآية في ذلك محتملة، فيميل فهمه إلى الوجه الّذي يوافق غرضه، ويرجّح ذلك الجانب برأيه وهواه، فيكون قد فسّر برأيه، أي رأيه حمله على ذلك التّفسير، ولولا رأيه لما كان يترجّح عنده ذلك الوجه.
وتارة يكون له غرض صحيح، فيطلب له دليلا من القرآن، ويستدلّ عليه بما يعلم أنّه ما أريد به ..
والوجه الثّاني: أن يسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربيّة، من غير
(1) المحرّر الوجيز (1/ 29).
استظهار بالسّماع والنّقل فيما يتعلّق بغرائب القرآن، وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتّقديم والتّأخير، فمن لم يحكم ظاهر التّفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرّد فهم العربيّة كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسّر القرآن بالرّأي، والنّقل والسّماع لا بدّ له منه في ظاهر التّفسير أوّلا؛ ليتّقي به مواضع الغلط، ثمّ بعد ذلك يتّسع الفهم والاستنباط، والغرائب الّتي لا تفهم إلّا بالسّماع كثيرة، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظّاهر».
ثمّ قال: «وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرّق النّهي إليه» (1).
…
(1) الجامع لأحكام القرآن (1/ 33 - 34)، وانظر معناه للنّووي في «التّبيان في آداب حملة القرآن» (ص: 85 - 86)، وللمزيد:«البرهان في علوم القرآن» ، للزّركشيّ (2/ 161 - 164).