الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: مسائل في النسخ
والمقصود بهذا الفصل ذكر قضايا متمّمة لهذه المقدّمة، غير ما تقدّم:
المسألة الأولى: لا مانع من وقوع نسخ الحكم مرّتين، وذلك بنفس الدّليل الّذي صحّ لنا به وقوع النّسخ مرّة، ولنفس المقاصد والحكم الّتي نبّهنا عليها.
ومثاله ما تقدّم ذكره في شأن الصّوم، حيث فرض أوّلا صوم يوم عاشوراء، ثمّ نسخ بفرض صوم رمضان أو الفدية، ثمّ نسخ خيار الفدية، فهذه ثلاث شرائع توالت على هذه الفريضة (1).
المسألة الثّانية: ما يأتي من شرائع الله تعالى مذكورا في كتابه أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم عمّن قبلنا من الأمم، فهو شرع لنا غير منسوخ، إنّما المنسوخ منه ما قام في شرعنا دليل على خلافه.
على هذا قول كثير من الفقهاء، كالإمام مالك وجمهور أصحابه،
وبعض الحنفيّة والشّافعيّة، وهو الأصحّ عن الإمام أحمد بن حنبل (2).
والدّليل عليه قوله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الأنبياء قبله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90].
(1) انظر ما تقدّم (ص: 228 - 229).
(2)
الإحكام، للباجي (ص: 327 - 328)، المسوّدة، لآل تيميّة (ص: 174).
وبهذا استدلّ ابن عبّاس لسجود النّبيّ صلى الله عليه وسلم في سورة ص:
فعن العوّام بن حوشب، قال: سألت مجاهدا عن السّجدة الّتي في ص؟ فقال: نعم، سألت عنها ابن عبّاس؟ فقال: أتقرأ هذه الآية: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ، وفي آخرها: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ؟ قال: أمر نبيّكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بداود (1).
واعلم أنّ الّذي يكون شرعا لنا من ذلك فليس هو ما ورد في كتب أهل الكتاب الّتي بين أيديهم وأخبارهم الّتي يروونها، وإنّما الّذي جاءنا عنهم في القرآن وصحيح السّنّة (2)، وذلك لما طرأ على ما عندهم من التّبديل.
المسألة الثّالثة: معرفة النّاسخ والمنسوخ شرط للكلام في الحلال والحرام وشرائع الإسلام.
قال الشّافعيّ رحمه الله: «ولا ينبغي للمفتي أن يفتي أحدا إلّا متى يجمع أن يكون عالما علم الكتاب، وعلم ناسخه ومنسوخه، وخاصّه
وعامّه، وأدبه، وعالما بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاويل أهل العلم قديما وحديثا، وعالما بلسان العرب، عاقلا، يميّز بين المشتبه، ويعقل القياس، فإن عدم
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 3239، 4528، 4529) وآخرون، كما بيّنت ذلك في كتابي «تحرير البيان في سجود القرآن» (رقم: 46).
(2)
إحكام الفصول، للباجيّ (ص: 330 - 331)، كشف الأسرار، لعلاء الدّين البخاريّ (3/ 213).
واحدا من هذه الخصال لم يحلّ له أن يقول قياسا» (1).
وذكر عن القاضي يحيى بن أكثم قال: «ليس من العلوم كلّها علم هو أوجب على العلماء وعلى المتعلّمين وكافّة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه؛ لأنّ الأخذ بناسخه واجب فرضا، والعلم به لازم ديانة، والمنسوخ لا يعمل به ولا ينتهى إليه، فالواجب على كلّ عالم علم ذلك؛ لئلّا يوجب على نفسه أو على عباد الله أمرا لم يوجبه الله عز وجل، أو يضع عنه فرضا أوجبه الله عز وجل» (2).
وصحّ عن أبي عبد الرّحمن السّلميّ: أنّ عليّ بن أبي طالب مرّ بقاصّ يقصّ (3)، فقال: هل علمت النّاسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال:
هلكت وأهلكت (4).
وعن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، قال: إنّما يفتي النّاس أحد ثلاثة: رجل علم ناسخ القرآن من منسوخه. قالوا: ومن ذاك؟
قال: عمر بن
(1) الأم، للشّافعيّ (15/ 129).
(2)
جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البرّ (رقم: 1416).
(3)
أي: واعظ يعظ.
(4)
أثر صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 746) وأبو عبيد في «النّاسخ والمنسوخ» (رقم: 1) والنّحّاس في «النّاسخ والمنسوخ» (ص: 48 - 49) والبيهقيّ (10/ 117) من طريق أبي حصين عثمان بن عاصم الأسديّ، عن أبي عبد الرّحمن، به.
قلت: وإسناده صحيح.
الخطّاب، قال: وأمير لا يجد بدّا، أو أحمق متكلّف.
وقد حدّث محمّد بن سيرين بهذا، ثمّ قال: فلست بواحد من هذين، وأرجو أن لا أكون الثّالث (1).
المسألة الرّابعة: مع ضرورة معرفة النّاسخ والمنسوخ للفقيه، إلّا أنّه لا يظنّ كثرة وجود ذلك في أدلّة التّشريع (2).
وقد حرّرت في جمعه كتب، من أحسنها كتاب الحافظ أبي الفرج ابن الجوزيّ المسمّى (نواسخ القرآن)، فقد أتى فيه على ما قيل هو منسوخ، وشرحه وبيّنه، وميّز ما ثبت فيه النّسخ منه وهو قليل جدّا، وأظهر فساد دعوى النّسخ في أكثر ذلك.
وكانت طائفة من المفسّرين قد سلكت مسلكا في غاية الفساد في هذا الباب، فصاروا إلى ادّعاء النّسخ في آيات كثيرة تجاوزت عند بعضهم المائتين، أكثرها ممّا تسلّطوا عليه بسيف النّسخ ما زعموا نسخه بآية السّيف، وهو جرأة منهم مذمومة.
(1) أثر حسن. أخرجه الدّارميّ في «مسنده» (رقم: 176) وابن الجوزيّ في «نواسخ القرآن» (ص: 108 - 109) من طريق أبي أسامة حمّاد بن أسامة، عن هشام بن حسّان، عن محمّد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة، عن حذيفة، به.
قلت: وإسناده حسن.
(2)
انظر: «الموافقات» للشّاطبي (3/ 105).
فأتوا على كلّ آية فيها الأمر أو معناه بالإعراض عن المشركين والجاهلين والصّبر والعفو فقالوا: هذه منسوخة بآية السّيف، يعنون آية الأمر بالقتال للمشركين أو أهل الكتاب، وذلك قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الآية [التّوبة: 5]، أو قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية [التّوبة: 29].
وتوسّعوا حتّى ادّعوا النّسخ على الأخبار الّتي لا ينسخ مثلها، مثل قول بعضهم: قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] منسوخ بفرض الزّكاة. وهذا من أفسد شيء يكون، فهذه صفة مدح ذكرها الله للمؤمنين وأخبر بها عنهم، وهم ينفقون قبل فرض الزّكاة وبعد فرضها، والزّكاة المفروضة من ذلك وليست ضدّه ليقال: هاهنا نسخ.
ومن تلك الكتب الّتي هي أجدر بالإتلاف والإزالة منها بالتّداول والنّشر: كتاب «النّاسخ والمنسوخ» لمحمّد بن حزم، ومثله لهبة الله بن سلامة، وكتاب مرعيّ الكرميّ، فهذه وشبهها كتب بالخطإ والقول على الله بغير علم ألصق منها بالعلم والهدى.
وبمثلها اغترّت طائفة من المتأخّرين فاستعظموا ما ذكر هؤلاء لما رأوا فيه من إبطال المحكمات، فأنكروا النّسخ أصلا بقصد حسن، هو الذّبّ عن القرآن العظيم، كما تسلّط بصنيع هؤلاء المستشرقون الحاقدون على الإسلام، فطعنوا على القرآن بذلك.
فكن على حذر من التّقليد في هذا الباب دون تحقيق، ولاحظ انطباق شروط النّسخ قبل القول به توق بذلك الزّلل فيه.
المسألة الخامسة: الأمّة متعبّدة بجميع نصوص الكتاب والسّنّة الثّابتة، إلّا ما ثبت نسخه، ولا يجوز التّوقّف عن العمل بنصّ خوفا أن يكون منسوخا؛ فإنّ الأصل فرض العمل بجميع ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 3]، وهذا يقين لا يحلّ تركه إلّا بيقين مثله.
ومن عمل بالمنسوخ وترك النّاسخ وهو لا يعلم فلا حرج عليه، إذ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها (1)، وإنّما يلزمه التّحوّل إلى العمل بالنّاسخ ساعة علمه به، كما وقع لأهل قباء حين نسخت القبلة (2).
…
(1) الإحكام، لابن حزم (4/ 116)، التّلخيص، للجويني (2/ 538 - 540).
(2)
أخرج ذلك البخاريّ (رقم: 395 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 526) من حديث عبد الله بن عمر.