الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الّذين جمعوا القرآن في عهد عثمان وبين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نزاع عند هؤلاء في التّواتر بعد عثمان وإلى اليوم.
وتعلّقوا بشبهات، يرجع حاصلها إلى ما يأتي:
الشّبهة الأولى: موقف ابن مسعود من الجمع العثمانيّ عامّة، وذكر المعوّذتين فيه خاصّة.
وهذا تقدّم ذكره وإبطال التّعلّق به في المقدّمة السّابقة.
الشّبهة الثّانية: ما كان مذكورا في مصحف أبيّ بن كعب وليس هو في مصاحف المسلمين.
وهذا كذلك سبق ذكره مع بعض مثاله، وأنّ مرجعه إلى أنّ أبيّا ربّما قرأ بالمنسوخ من القرآن، وما كان من ذلك فهو من هذا القبيل على أقصى تقدير، أو يكون أبيّ كتبه في مصحفه لنفسه ليحفظه أو يتعاهده، وذلك أنّ مصحفه كان يخصّه، فجائز أن يكون ذلك بمنزلة تعليقة يزيدها الكاتب في هامش كتاب، وممّا قد يؤكّده أنّه لم يؤثر عن أبيّ إنكار لصنيع عثمان ومن
= ليقدر أن يفعله في جميع تلك المصاحف، وإن كان أرهب كثيرا من النّاس يومئذ بظلمه وطغيانه، فما كان ليقدر أن يصمّت جميع أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم فيحرّف القرآن على مرأى من جميع المسلمين، ثمّ هب أنّ ذلك قد وقع من الحجّاج؛ فأين النّقلة لم يجتمعوا على نقله، ولماذا لم يأت إلّا من طريق عبّاد بن صهيب رجل من المتروكين الهلكى؟
كيف وقد ثبتت الأسانيد الدّالّة على بطلان هذه الحكاية بخصوص كتابة تلك الأحرف؟ ومثل هذا لا يستحقّ الإطالة بأكثر ممّا ذكرت لظهور فساده.
معه من الصّحابة حين كتبوا المصحف، مع أنّهم كانوا يستشيرونه فيما كانوا يصنعون.
فعن هانئ البربريّ مولى عثمان، قال:
كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب، فيها:(لم يتسنّ)، وفيها:(لا تبديل للخلق)، وفيها:(فأمهل الكافرين)، قال: فدعا بالدّواة، فمحا إحدى اللّامين، وكتب: لِخَلْقِ اللَّهِ [الرّوم: 30]، ومحا (فأمهل) وكتب: فَمَهِّلِ [الطّارق: 17]، وكتب: لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة: 259] ألحق فيها الهاء (1).
الشّبهة الثّالثة: أخبار وردت في قرآن منسوخ التّلاوة.
وسيأتي مثاله في (المقدّمة الرّابعة).
وبطلان الاعتراض بهذا ظاهر، فإنّ الله تعالى أنزل قرآنا نسخت تلاوته، وبقي منه شيء محفوظ في السّنن، ومنه ما أنساه الله النّاس في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ
(1) أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 286) - ومن طريقه: ابن جرير في «تفسيره» (3/ 38) - قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديّ، عن عبد الله بن المبارك، قال: حدّثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن، عن هانئ البربريّ، به.
قلت: وهذا إسناد جيّد، ورجاله ثقات، أبو وائل اسمه عبد الله بن بحير بن ريسان، ثقة، وهانئ لا بأس به صدوق.
مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106].
الشّبهة الرّابعة: أخبار وردت بزيادات في بعض آيات الكتاب.
وذلك مثل: حديث أسماء بنت يزيد، رضي الله عنها، قالت:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ولا يبالي
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزّمر: 53](1).
وعن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: إنّ أكبر آية في القرآن فرجا آية في سورة الغرف (2): قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
إن شاء (3).
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (6/ 454، 459، 460، 461) وعبد بن حميد (رقم: 1577) والتّرمذيّ (رقم: 3235) والطّبرانيّ في «الكبير» (24/ 161) والحاكم (رقم: 2982) من طرق عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن شهر بن حوشب، عن أسماء، به.
قلت: وإسناده حسن، شهر بن حوشب صدوق لا بأس به، وبقيّة الإسناد ثقات.
قال التّرمذيّ: «حديث حسن غريب» .
(2)
يعني سورة الزّمر، وسمّاها بذلك لقوله تعالى فيها: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ [الآية: 20].
(3)
أثر صحيح. أخرجه الطّبرانيّ في «الكبير» (9/ 142) من طريق معتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورا، عن عامر، عن مسروق، عنه به. وإسناده صحيح.
وعن سعد بن أبي وقّاص، رضي الله عنه:
أنّه كان يقرأ هذه الآية: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [النّساء: 12] لأمّ (1).
فهذا وشبهه لا يجوز الاعتراض به على نقل الجماعة لكتاب الله، إذ لا يخرج عن احتمال أحد أمرين:
الأوّل: أنّها زيادة تفسيريّة أدرجت في السّياق، يكون بعضها من قبيل الحديث المرفوع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن، كزيادة (ولا يبالي) في حديث أسماء بنت يزيد، ويكون بعضها من قبيل الرّأي والاجتهاد لأحد الصّحابة في تفسير الآية، كما في زيادة ابن مسعود في آية الزّمر:(إن شاء)، وكما في زيادة سعد بن أبي وقّاص في آية المواريث:(لأمّ)(2).
(1) أثر صالح الإسناد. أخرجه الدّارميّ في «مسنده» (رقم: 2863) وأبو عبيد (ص: 297) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (رقم: 4936) وابن جرير (4/ 287) والبيهقيّ في «الكبرى» (6/ 231) من طرق عن يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة بن عبد الله بن قانف الثّقفيّ، عن سعد.
رواه عنه سفيان الثّوريّ وشعبة بن الحجّاج وهشيم، ويعلى ثقة، والقاسم شيخ ليس بالمشهور، وثّقه ابن حبّان.
(2)
في رواية شعبة ما يؤيّد القول بأنّها كانت تفسيرا من قبل سعد، قال شعبة: عن يعلى بن عطاء، قال: سمعت القاسم بن ربيعة يقول: قرأت على سعد: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ قال سعد: لأمّه.
وفي هذا ما يشعر بأنّ المصاحف الخاصّة ببعض الصّحابة، كابن مسعود، ربّما تضمّنت بعض العبارات التّفسيريّة، ولم تجرّد للقرآن.
قال الإمام أبو جعفر النّحّاس بعد ذكر حديث أسماء وابن مسعود في الزّيادة في آية الزّمر: «هاتان القراءتان على التّفسير» (1).
والثّاني: أن تكون تلك الزّيادة قرآنا منسوخا، لم يعلم بنسخه بعض الصّحابة، فقرءوا بالمنسوخ، أو كتبوه في مصاحفهم.
وذلك مثل ما ورد عن أبي يونس مولى عائشة أمّ المؤمنين، أنّه قال:
أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا، ثمّ قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ 238 [البقرة: 238]، فلمّا بلغتها آذنتها، فأملت عليّ: (حافظوا على الصّلوات
والصّلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين)، ثمّ قالت: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
(1) إعراب القرآن، لأبي جعفر النّحّاس (4/ 16).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مالك (رقم: 367) قال: عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس، به.
ومن طريق مالك أخرجه: أحمد (6/ 73، 178) ومسلم (رقم: 629) وأبو داود (رقم: 410) والتّرمذيّ (رقم: 2986) والنّسائيّ (رقم: 472). قال التّرمذيّ:
فهذا من عائشة رضي الله عنها لعدم علمها بالنّسخ، وحفظ ذلك غيرها، فعن البراء بن عازب، رضي الله عنه، قال:
نزلت هذه الآية: (حافظوا على الصّلوات وصلاة العصر)، فقرأناها ما شاء الله، ثمّ نسخها الله، فنزلت: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى (1).
فهذان احتمالان كلاهما أو أحدهما وارد على جميع أنماط هذه الزّيادات، ولا يصحّ أن يستدرك على القرآن المحكم بما ورد عليه الشّكّ، بل رجح أنّه إمّا ليس بقرآن أو هو قرآن منسوخ.
والعجيب أنّ المعترض بمثل هذا على القرآن ممّن ينتسب إلى الإسلام هم الرّافضة الّذين يطعنون أصلا على جميع الصّحابة الّذين نقل عنهم مثل
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 301) ومسلم (رقم: 630) وأبو داود في «النّاسخ والمنسوخ» (كما في «تهذيب الكمال» 12/ 557) وأبو عوانة في «مستخرجه» (1/ 354) وأبو نعيم الأصبهانيّ في «مستخرجه» (رقم: 1407) من طرق عن فضيل بن مرزوق، عن شقيق بن عقبة، عن البراء، به.
زاد: فقال له رجل كان مع شقيق يقال له أزهر: وهي صلاة العصر، قال: قد أخبرتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله تعالى، والله أعلم.
قلت: فضيل بن مرزوق فيه كلام من قبل حفظه، وهو لا بأس به، وفي هذا الحديث ثقة، فقد تابعه الأسود بن قيس العبديّ على معناه.
علّقه مسلم بعد رواية فضيل، ووصله أبو عوانة (1/ 354) وأبو نعيم في «مستخرجه» (رقم: 1408) وإسناده صحيح.
هذا النّمط من الزّيادات، فليسوا عندهم موضع الثّقة، لكن حين ظنّوا هذه الآثار تخدم أهواءهم تشبّثوا بها!! نعوذ بالله من الهوى.
الشّبهة الخامسة: ما قيل: كان عند القرّاء الّذين قتلوا في حرب الرّدّة قرآن لم يكن عند غيرهم، ولم يعلمه أحد بعدهم، فهذا يعني ذهاب جزء من القرآن.
وأقول: إنّما تعلّق هؤلاء بما نقل عن ابن شهاب الزّهريّ، قال:
بلغنا أنّه كان أنزل قرآن كثير، فقتل علماؤه يوم اليمامة الّذين كانوا قد وعوه، فلم يعلم بعدهم ولم يكتب، وذلك فيما بلغنا حملهم على أن يتبعوا القرآن، فجمعوه في الصّحف في خلافة أبي بكر خشية أن يقتل رجال من المسلمين في المواطن معهم كثير من القرآن، فيذهبوا بما معهم من القرآن ولا يوجد عند أحد بعدهم، فوفّق الله عثمان فنسخ تلك الصّحف في المصاحف، فبعث بها إلى الأمصار، وبثّها في المسلمين (1).
والاعتراض بهذا غلط من جهة الرّواية والدّراية جميعا:
(1) أثر لا يصحّ. أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» (ص: 23) قال: حدّثنا أبو الرّبيع، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، به.
قلت: إسناده إلى الزّهريّ صحيح، لكنّه مرسل كما سأذكر، وأبو الرّبيع اسمه سليمان بن داود المهريّ، وابن وهب عبد الله، ويونس هو ابن يزيد الأيليّ صاحب الزّهريّ، والجميع ثقات.
فأمّا الرّواية؛ فهذا بلاغ مرسل، الزّهريّ لم يشهد زمان اليمامة،
بل لم يكن ولد يومئذ، فحرب المرتدّين كانت سنة (12) للهجرة، والزّهريّ ولد سنة (50) أو بعدها، فبينه وبين الحدث نحو أربعين عاما أو أكثر، ولم يذكر هذا الخبر عن أحد.
ولا يثبت أهل الإنصاف شيئا بمثل هذا النّمط من الأسانيد.
كان الإمام يحيى بن سعيد القطّان لا يرى إرسال الزّهريّ وقتادة شيئا، ويقول:«هو بمنزلة الرّيح» ويقول: «هؤلاء قوم حفّاظ؛ كانوا إذا سمعوا الشّيء علقوه» (1).
يعني بذلك أنّ أحدهم ربّما سمع الإشاعة فثبتت في قلبه، فحدّث بها، فلا يدرى كيف جاءت، ولا من أين مخرجها، وهذا هو الّذي أسقط الاعتبار بمراسيله، وإنّما يقبل من الزّهريّ من الأخبار ما ذكر إسناده به وسلم ذلك الإسناد من الخلل.
فإذا كان لا يقبل منه المرسل في الأمر السّالم من المعارض، فأولى أن لا يقبل منه خبر كهذا يشكّك في ضياع بعض القرآن الّذي تعهّد ربّ العالمين بحفظه.
ثمّ إنّ هذا المرسل جاء على خلاف الموصول المحفوظ عن الزّهريّ، وذلك أنّه قال:
(1) تقدمة الجرح والتّعديل، لابن أبي حاتم الرّازيّ (ص: 246).
عن عبيد بن السّبّاق، عن زيد بن ثابت، قال:
أرسل إليّ أبو بكر الصّدّيق، رضوان الله عليه، مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر، رضوان الله عليه، جالس عنده، فقال أبو بكر: إنّ
عمر جاءني فقال: إنّ القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإنّي أخشى أن يستحرّ القتل في المواطن كلّها فيذهب من القرآن كثير، وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن، الحديث (1).
(1) حديث صحيح، تقدّم ذكره بطوله عن «صحيح البخاريّ» (ص: 91 - 92).
أخرجه الطّيالسيّ (رقم: 3) وأحمد (رقم: 57، و 5/ 188 - 189) وأبو عبيد في «الفضائل» (ص: 281) والبخاريّ (رقم: 4701، 6768، 6989) والتّرمذيّ (رقم: 3103) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 7995) وأبو يعلى في «مسنده» (رقم: 63، 64، 65، 91) والبزّار (رقم: 31) وأبو بكر المروزيّ في «مسند أبي بكر» (رقم: 45) والطّبرانيّ في «الكبير» (5/ 164 - 165) وابن حبّان (رقم:
4506) والبيهقيّ في «الكبرى» (2/ 41) من طرق عن إبراهيم بن سعد.
وأخرجه أبو عبيد (ص: 283) والبخاريّ (رقم: 4402) من طريق شعيب بن أبي حمزة.
والطّبرانيّ (5/ 162) من طريق عبد الرّحمن بن خالد بن مسافر.
وأحمد (رقم: 76) وأبو عبيد (ص: 284) والبخاريّ (رقم: 4703) وأبو يعلى (رقم: 71) وأبو بكر المروزيّ (رقم: 46) والطّحاويّ في «شرح المشكل» (5/ 305) والطّبرانيّ (5/ 163 - 164) وابن حبّان
(رقم: 4507) من طرق عن يونس بن يزيد الأيليّ. جميعهم عن ابن شهاب، عن عبيد بن السّبّاق، عن زيد بن ثابت.
يذكره بعض من أخرجه مختصرا.
هؤلاء الأربعة عن الزّهريّ يذكرون اللّفظ الّذي أوردت في الأصل بهذا الإسناد المتّصل الّذي ذكر الزّهريّ سماعه فيه من ابن السّبّاق، وابن السّبّاق من زيد.
وكأنّ الرّواية المنكرة المرسلة عن الزّهريّ وقع فيها اختصار وحذف أفسدها، فإنّ مخرج القصّة من هذا الوجه الّذي لا يختلف على الزّهريّ فيه من قبل حفّاظ أصحابه المذكورين هنا، ومنهم يونس الّذي روى عن الزّهريّ تلك الرّواية المرسلة.
فهذا أصل رواية الزّهريّ لهذه القصّة، ليس فيها ما تضمّنه ذلك البلاغ المبتور من التّشكيك.
وأمّا الدّراية؛ فمن وجوه، أهمّها:
أوّلا: في الرّواية الصّحيحة لجمع القرآن على عهد أبي بكر أنّه أمر زيد بن ثابت بذلك، وجرى بينهما مراجعات حتّى اقتنع زيد، فلو كان شيء من القرآن ذهب حقيقة، لكان ذكر ذلك أقوى في حجّة أبي بكر لإقناع زيد، وإنّما دفع أبا بكر لذلك الخوف على مستقبل القرآن من عوارض الزّمن كما يستفاد بوضوح من الرّواية.
ثانيا: أكثر الصّحابة الّذين أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنهم أو عرفوا بحفظه في عهده، كأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وأبي الدّرداء وعبد الله بن عمرو بن العاص؛ كانوا أحياء عند الجمع الأوّل للقرآن، بل أكثرهم بقي إلى زمان الجمع الثّاني في عهد عثمان.
فقد كان جميع القرآن عند هؤلاء، فلم يكن لمقتل من قتل في حرب الرّدّة من أثر على شيء من القرآن.
ثالثا: لم يكن مستند الصّحابة عند جمع القرآن في عهد الصّدّيق حفظ الحفّاظ، إنّما كان الحفظ شاهدا مصدّقا، وكان الاعتماد على ما كتب بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ما كان الله تعالى ليدع حجّته الباقية على خلقه لا تحملها إلّا قلوب غير معصومة من نسيان أو سهو أو غلط؛ ولذا قام رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم بترتيب أمر بقاء هذا القرآن، فاتّخذ له الكتبة العارفين الأمناء، ولم يتركه لمجرّد حفظهم له في صدورهم؛ لذا لم يرد نصّ واحد يوجب على أفراد الصّحابة أو بعضهم استظهار القرآن، وإنّما ندبهم الشّرع إلى ذلك وحثّهم عليه، ولو تعيّن الاستظهار طريقا لحفظ القرآن لفرضه ولو على طائفة.
فكيف يظنّ بعدئذ أنّ شيئا من القرآن قد فات بموت بعض حفّاظه؟
رابعا: إن كان لهذه الرّواية أصل، فيكون القرآن الّذي لم يعلم ولم يكتب هو ممّا نسخت تلاوته، فإنّ بعض الصّحابة بقي يحفظ الشّيء من المنسوخ حتّى بعد جمع القرآن، ممّا يدلّ على إمكان حمل بعض من قتل في حرب الرّدّة لشيء من ذلك، ولذلك نقول: كان مستند الجمع المكتوب الّذي خلّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، معضّدا بحفظ من شهد العرضة الأخيرة زيد بن ثابت، وإقرار عامّة الصّحابة عليه.
الشّبهة السّادسة: ما روي عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:
لقد نزلت آية الرّجم، ورضاعة الكبير عشرا، ولقد كان في صحيفة تحت
سريري، فلمّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته؛ دخل داجن (1) فأكلها.
وهذا حديث لا يصحّ، فأمّا ذكر الرّضاع فيه فغلط (2).
(1) الدّاجن: هي الشّاة الّتي تعلف في البيوت.
(2)
أخرجه ابن ماجة (رقم: 1944) وأبو يعلى (رقم: 4587، 4588) من طريق محمّد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة.
وعن عبد الرّحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، به.
قلت: ابن إسحاق صدوق، ومن كانت هذه صفته فإنّ حديثه يكون في درجة الحسن بعد السّبر والنّظر الّذي يخلص منه إلى نقائه من الخلل، كذلك هو رجل مشهور بالتّدليس مكثر منه، يدلّس عن المجروحين، وشرط قبول رواية من هذا حاله أن يذكر سماعه ممّن فوقه، فإذا قال (عن) لم يقبل منه.
وابن إسحاق له في هذا الخبر إسنادان كما ترى، وجمعه الأسانيد بعضها إلى بعض وحمل المتن على جميعها ممّا عيب عليه، فربّما كان اللّفظ عنده بأحد الإسنادين فيحمل الآخر عليه؛ لأنّه حسبه بمعناه، وقد لا يكون كذلك.
- قيل لأحمد بن حنبل: ابن إسحاق إذا تفرّد بحديث تقبله؟ قال: «لا، والله إنّي رأيته يحدّث عن جماعة بالحديث الواحد، ولا يفصل كلام ذا من ذا» (تهذيب الكمال 24/ 422).
نعم؛ ربّما كان يرويه تارة فيذكر أحد إسناديه، كذلك أخرجه أحمد (6/ 269) وابن الجوزيّ في «نواسخ القرآن» (ص: 118 - 119) من طريق إبراهيم بن سعد، عنه، قال: حدّثني عبد الله بن أبي بكر، فذكره بإسناده دون إسناد ابن القاسم.
وحين رأى بعض النّاس تصريح ابن إسحاق بالتّحديث في هذه الرّواية صحّحوها، قالوا: اندفعت شبهة تدليسه، ونقول: فماذا عن شبهة تخليطه؟
ولنجر الكلام في ظاهر الإسناد الآن، فنقول: اندفعت مظنّة التّدليس في روايته عن عبد الله بن أبي بكر، وبقيت قائمة في روايته عن ابن القاسم، هذا على جواز أن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يكون ابن إسحاق حفظه بإسناد ابن أبي بكر.
والتّحقيق أنّه لم يحفظه، وذلك أنّ الإمام الحجّة مالك بن أنس قال: عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرّحمن، عن عائشة، قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن، ثمّ
نسخن بخمس معلومات، فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنّ فيما يقرأ من القرآن.
أخرجه في «الموطّأ» (رقم: 1780) ومن طريقه: الشّافعيّ (2/ 21 - مسنده) وإسحاق بن راهويه (رقم: 1007) ومسلم (رقم: 1452) وأبو داود (رقم:
2062) والتّرمذيّ (بعد رقم: 1150) والنّسائيّ (رقم: 3307) والدّارميّ (رقم:
2170) والطّحاويّ في «شرح المشكل» (رقم: 2063، 4566) وابن حبّان (رقم: 4221، 4222) والبيهقيّ في «الكبرى» (7/ 454).
فهذا أصل قصّة الرّضعات العشر، ولم يرد ذكر رضاع الكبير أصلا في هذا الحديث في غير رواية ابن إسحاق المختلّة.
واللّفظة الأخيرة في رواية مالك: (فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنّ فيما يقرأ من القرآن) غير محفوظة، وسأبيّن علّتها بعد الفراغ من رواية ابن إسحاق.
وهذا الحديث ممّا رواه عبد الرّحمن بن القاسم كذلك عن أبيه عن عمرة عن عائشة، كما رواه مالك عن ابن أبي بكر دون الجملة الأخيرة، كما سيأتي.
وقصّة رضاعة الكبير كذلك ممّا رواه عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، قالت: جاءت سهلة بنت سهيل، فقالت: يا رسول الله، إنّي أرى في وجه أبي حذيفة شيئا من دخول سالم عليّ، فقال:«أرضعيه» فقالت: كيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«ألست أعلم أنّه رجل كبير؟» ثمّ جاءت فقالت: ما رأيت في وجه أبي حذيفة شيئا أكرهه.
أخرجه أحمد (6/ 38 - 39) ومسلم (رقم: 1453) والنّسائيّ (رقم: 3320) وابن ماجة (رقم: 1943) من طريق سفيان بن عيينة، عن عبد الرّحمن بن القاسم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فهذا أصل رضاع الكبير من حديث عائشة.
فكأنّ ابن إسحاق دخل عليه حديث في حديث، وحمل شيئا على شيء، فهو بلغه رواية عبد الله بن أبي بكر لقصّة نزول عشر رضعات، وبلغه رواية عبد الرّحمن بن القاسم لرضاع الكبير، كما بلغه قصّة الرّجم أنّها ممّا كان أنزل من القرآن، فدخل عليه بعض ذلك في بعض، وأخاف أن تكون قصّة الدّاجن كذلك ممّا علق في ذهنه من ذكرها في قصّة الإفك عن عائشة وما لها بهذا الموضع من صلة.
ويزيد في تأكيد غلطه وتخليطه في الرّواية المذكورة ما أخرجه مسلم (2/ 1077) وغيره من طريق زينب بنت أبي سلمة، قالت:
سمعت أمّ سلمة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم تقول لعائشة: والله، ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرّضاعة، فقالت: لم؟ قد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، والله إنّي لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه» فقالت: إنّه ذو لحية، فقال:«أرضعيه؛ يذهب ما في وجه أبي حذيفة» فقالت: والله، ما عرفته في وجه أبي حذيفة.
قلت: فهذه عائشة تحتجّ على أمّ سلمة بقصّة رخصة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حقّ سالم، فلو كان عندها في ذلك قرآن؛ أتراها تعدل عنه للاستدلال لمذهبها بمجرّد هذه القصّة؟ ثمّ لو كان لديها فيه قرآن فكيف صحّ أن يخالفها في حكمه سائر نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم، جميعهنّ يطبقن على ذلك؟ فهذه أمّ سلمة رضي الله عنها كانت تقول:
أبى سائر أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهنّ أحدا بتلك الرّضاعة، وقلن لعائشة:
والله ما نرى هذا إلّا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصّة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرّضاعة ولا رائينا. (أخرجه مسلم، رقم: 1454).
وببعض ما ذكرت تبطل رواية ابن إسحاق، وإذا كان جماعة من العلماء الكبار كأحمد بن حنبل والنّسائيّ نصّوا على أنّ ابن إسحاق ليس بحجّة في الأحكام، فهو أحرى أن لا يكون حجّة تستعمل للتّشكيك في نقل القرآن. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أعود لبيان الجملة الأخيرة الّتي وقعت في رواية مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة: فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنّ فيما يقرأ من القرآن.
روى هذا الحديث عن عمرة ثقتان ضابطان كبيران، كلاهما من التّابعين، الواحد منهما فوق عبد الله بن أبي بكر بدرجات، لم يذكرا في حديثهما هذه اللّفظة:
الأوّل: القاسم بن محمّد بن أبي بكر.
أخرجه ابن ماجة (رقم: 1942) والطّحاويّ في «شرح المشكل» (رقم: 2064، 4561 م) من طريق حمّاد بن سلمة، عن عبد الرّحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة، قالت: كان ممّا نزل من القرآن ثمّ سقط: أن لا يحرّم من الرّضاع إلّا عشر رضاعات، ثمّ نزل بعد: أو خمس رضاعات.
والثّاني: يحيى بن سعيد الأنصاريّ.
أخرجه الشّافعيّ (1/ 21 - مسنده) ومسلم (2/ 1075) والطّحاويّ (رقم: 2065، 2066، 4567، 4568) والبيهقيّ (7/ 454) من طرق عنه، عن عمرة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: أنزل في القرآن: عشر رضاعات معلومات، ثمّ أنزل: خمس رضاعات.
فهذان الحافظان لم يذكرا ما ذكره عبد الله بن أبي بكر، قال الإمام الطّحاويّ:
«القاسم بن محمّد في الحفظ والإتقان فوق عبد الله بن أبي بكر، لا سيّما وقد وافقه على ما روى من ذلك يحيى بن سعيد، وهو فوق عبد الله بن أبي بكر أيضا» (شرح المشكل: 11/ 490). وقال: «والقاسم ويحيى أولى بالحفظ من عبد الله بن أبي بكر؛ لعلوّ مرتبتهما في العلم؛ ولأنّ اثنين أولى بالحفظ من واحد لو كان يكافئ واحدا منهما، فكيف وهو يقصر عن كلّ واحد منهما، مع أنّ حديثه محال؛ لأنّه لو كان ما روى كما روى؛ لوجب أن يلحق بالقرآن، وأن يقرأ به في الصّلوات كما يقرأ فيها سائر القرآن، وأن يكون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تركوا بعض القرآن فلم يكتبوه في مصاحفهم،
وحاش لله أن يكون كذلك، أو يكون قد بقي من القرآن غير ما جمعه الرّاشدون =
وأمّا قضيّة الرّجم؛ فقد كان شأنها معلوما عند أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أنّها كانت قرآنا أنزل، فنسخه الله من القرآن وأحكمت السّنّة حكمه، فذهبت التّلاوة، وبقي الحكم، وعليه أدلّة عديدة، منها:
1 -
عن عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، قال:
إنّ الله بعث محمّدا صلى الله عليه وسلم بالحقّ، وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل الله آية الرّجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها (وفي رواية: وقد قرأتها: الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة)، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، (وفي رواية: ولولا أن يقولوا: أثبت في كتاب الله ما ليس فيه لأثبتّها كما أنزلت)، فأخشى إن طال بالنّاس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرّجم في كتاب الله، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله، والرّجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرّجال والنّساء؛ إذا قامت البيّنة، أو كان الحبل، أو
= المهديّون، ولأنّه لو كان ذلك كذلك؛ جاز أن يكون ما كتبوه منسوخا، وما قصّروا عنه ناسخا، فيرتفع فرض العمل،
- ونعوذ بالله من هذا القول ومن قائليه» (شرح المشكل: 11/ 491 ونحوه في 5/ 312 - 313).
وكان مالك قال بعد رواية الحديث في «الموطّأ» : «ليس على هذا العمل» .
الاعتراف (1).
فهذا صريح في أنّ آية الرّجم ممّا نسخ الله تعالى تلاوته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان بقي محكما إلى موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما تردّد عمر ولا من معه من الصّحابة في إضافته إلى المصحف، ثمّ لا يبقى المحذور الّذي خافه عمر أن يأتي أحد ينكر الرّجم يقول: ليس في كتاب الله.
2 -
عن زرّ بن حبيش، قال:
قال لي أبيّ بن كعب: كأيّن تقرأ سورة الأحزاب؟ أو كأيّن تعدّها؟ قال: قلت له: ثلاثا وسبعين آية، فقال: قطّ؟ لقد رأيتها وإنّها لتعادل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها:(الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة، نكالا من الله، والله عليم حكيم)(2).
(1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 6441، 6442، 6892) ومسلم (رقم: 1691) من طريق الزّهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عبّاس، عن عمر.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الطّيالسيّ في «مسنده» (رقم: 540) وعبد الرّزّاق في «مصنّفه» (رقم: 5990) =
3 -
عن كثير بن الصّلت، قال:
كان سعيد بن العاص وزيد بن ثابت يكتبان المصاحف، فمرّوا على هذه الآية، فقال زيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة» ، فقال عمر: لمّا نزلت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أكتبنيها، (قال شعبة: فكأنّه كره ذلك)، فقال عمر: ألا ترى أنّ الشّيخ إذا لم يحصن جلد، وأنّ الشّابّ إذا زنى وقد أحصن رجم؟ (1).
هذه القصّة في زمن الجمع في عهد عثمان، وذلك بقرينة ذكر سعيد، وقد حدّث زيد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ عن عمر في شأن هذه الآية، وفي هذا الحديث
= والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 7150) وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (5/ 132) وابن حبّان (رقم: 4428) والحاكم (رقم: 3554، 8068) وابن الجوزيّ في «نواسخ القرآن» (ص: 113، 116) والضّياء المقدسيّ في «المختارة» (رقم: 1164، 1165) من طرق عديدة عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، به.
قلت: وإسناده جيّد، وقال الحاكم:«صحيح الإسناد» .
وأخرجه عبد الله بن أحمد (5/ 132) من طريق يزيد بن أبي زياد، عن زرّ.
قلت: وهي متابعة صالحة، يزيد هذا لا بأس بحديثه في المتابعات، والإسناد إليه صحيح.
- والرّواية الأخرى لابن ماجة (رقم: 2553) من طريق الزّهريّ بإسناد صحيح.
والرّواية الثّانية لأحمد (رقم: 352) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 7151، 7154) من طريق شعبة بن الحجّاج، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عبّاس، عن عبد الرّحمن بن عوف، عن عمر، بها.
قلت: إسنادها صحيح.
(1)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 183) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 7145) والحاكم (رقم: 8071) والمزّيّ في «تهذيب الكمال» (24/ 130) من طريق محمّد بن جعفر، حدّثنا شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن كثير بن الصّلت، به. قال الحاكم:«صحيح الإسناد» ، قلت: وهو كما قال.
وحديث أبيّ بن كعب قبله أنّ آية الرّجم حقّ، أنزلها الله تعالى وحفظها الصّحابة، والمذكورون هاهنا هم الّذين تولّوا شأن المصاحف، وإنّما لم يكتبوها في المصحف لأنّ
النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بكتابتها أصلا، كما يدلّ عليه حديث كثير، وكأنّهم حيث لم يؤمروا بكتابتها علموا أنّها ليست من المصحف، وهذا يؤيّد ما ذكرناه قبل من أنّ مستند الصّحابة في كتابة المصحف هو نفس المكتوب الّذي كتبوه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره، وحفظ الصّدور إنّما كان شاهدا ومصدّقا.
4 -
عن إسماعيل بن أبي خالد، قال:
سمعت الشّعبيّ وسئل: هل رأيت أمير المؤمنين عليّ بن أبي
طالب، رضي الله عنه؟ قال: رأيته أبيض الرّأس واللّحية، قيل: فهل تذكر عنه شيئا؟ قال: نعم، أذكر أنّه جلد شراحة يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، فقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
فهذا إثبات لكون الرّجم ثبت حكمه بالسّنّة، وهذا مصدّق لما تقدّم من الأخبار أنّ الرّجم نسخت تلاوته وبقي حكمه، ولو مات النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو
(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (رقم: 8087) من طريق أحمد بن يونس الضّبّيّ، حدّثنا جعفر بن عون، حدّثنا إسماعيل، به. قال الحاكم:«هذا إسناد صحيح» ، قلت: وهو كما قال. وأصله عند البخاريّ (رقم: 6427) من طريق ثانية عن الشّعبيّ.
وله طرق عن أمير المؤمنين عليّ، اخترت الّتي عند الحاكم لبيان الشّعبيّ أنّه شهد ذلك، وفيه ردّ على من زعم أنّ الشّعبيّ لم يسمع من عليّ شيئا.
من جملة كتاب الله؛ لما فات مثله عليّ بن أبي طالب ليقول: (رجمتها بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه الأخبار الصّحيحة كافية لإبطال ما جاء في تلك الرّواية عن عائشة أنّ آية الرّجم كانت مكتوبة في صحيفة أكلتها الدّابّة.
ولو جاءتنا رواية ظاهر إسنادها الصّحّة تخالف نقل الجماعة لكانت تلك الرّواية شاذّة مردودة، فكيف وهي دون ذلك، وخالفت منقول الصّحابة جميعا لأمر خطير تتوافر همم جميعهم على نقله؟
فكيف إذا كان ذلك هو القرآن الّذي أراد الله ربّ العالمين أن يكون حجّته على النّاس أجمعين، يمكّن الله تعالى عنزة من الذّهاب ببعضه؟
فيا للعجب من تفاهات العقول عند مدّعيها من هؤلاء الطّاعنين في القرآن!
الشّبهة السّابعة: نصوص لا يملك صاحبها غير مجرّد الدعوى أنّها من القرآن، ولا يقدر أن يذكر ذلك بإسناد واحد ولو كان ضعيفا، وإنّما افتراها مفتر فنسبها إلى أنّها ممّا أسقطه الصّحابة من القرآن، فتبعه أصحاب الضّلالة من بعده من أشياعه على إفكه؛ لأنّهم حسبوا فيه نصر ما ينتمون إليه، كذاك الّذي سمّته الرّافضة (سورة الولاية).
هذه جملة ما يشبّه به أصحاب الأهواء من الرّافضة أعداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أشكالهم، ومن اليهود والنّصارى؛ حسدا من عند أنفسهم لما حرموه من الهدى بتحريفهم لكتابهم.
فتأمّل كيف اجتمع الرّافضة وإيّاهم في هذا! تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ.
وإنّي أحسب من خلال تتبّعي لأباطيلهم أن ليس لهم ما يشبّهون به يخرج عمّا ذكرت، إلّا أن يكون دون ما ذكرت في البطلان والسّقوط.
ومنذ سنين طويلة وأنا أتساءل عن سبب حرص المستشرقين على الكتب الّتي صنّفها بعض علماء الإسلام فيما يتّصل بنقل القرآن، ولا أجد الجواب يرجع إليّ إلّا أنّ هؤلاء حاقدون على دين الإسلام، لهم مقاصد سوء، يبحثون عن طريق للطّعن على القرآن، فتراهم أوّل من اعتنى مثلا بنشر كتاب «المصاحف» لأبي بكر بن أبي داود السّجستانيّ، وهو كتاب مفيد للمشتغلين بالعلم، مصنّفه إمام ابن إمام، فقصد هؤلاء إلى نشره وترجموه إلى بعض لغاتهم ظنّا منهم أنّهم وجدوا فيه بعض مرادهم، لما تضمّنه من حكاية قصّة جمع القرآن، والمصاحف الّتي كانت عند بعض الصّحابة ممّا فيه اختلاف حرف أو ترتيب عن
مصاحف المسلمين، وقد شرحت أنّه ليس من ذلك شيء فيه مطعن على القرآن العظيم.
وهؤلاء المستشرقون مساكين كإخوانهم من أهل البدع، لا يدرون ما الأسانيد، ولا يميّزون صحيح نقل من سقيمه، فجميع الأخبار المحكيّة عندهم مسلّمات، وإنّي لأعذرهم في ذلك، فإنّ اليهود والنّصارى قد حرموا الإسناد، واختصّت به هذه الأمّة الوسط، فأنّى لهم أن يفهموه؟!
***