الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المأخذ الثاني: إيراد الإسرائيليات:
الإسرائيليّات: هي الأخبار المنقولة عن أهل الكتاب من غير طريق القرآن والسّنن الثّابتة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كالّذي يحكى عن كعب الأحبار وكان من أحبار اليهود فأسلم، ووهب بن منبّه، وقد اعتنى بأخبارهم، وغيرهما.
ولم يكد يوجد كتاب في التّفسير بالمأثور يخلو من إيراد الإسرائيليّات، حتّى زعم بعضهم أنّها مصدر من مصادر التّفسير، وذلك لما رأوا من تسهّل بعض الصّحابة فيها، مثل عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، ثمّ ما وقع من اعتناء النّقلة من التّابعين فمن بعدهم بروايتها والتّحديث بها.
فما أصل ذلك؟ وما معناه؟ وما حكمه
؟
أصل هذه المسألة يرجع إلى الحديث الصّحيح عن عبد الله بن عمرو، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«بلّغوا عنّي ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار» (1).
وفي هذا ما يشعر أنّ نهيا كان قبل ذلك، أو ظنّوا أنّه لا يحلّ لهم، كما يدلّ عليه قوله:«ولا حرج» ، فجاء هذا بالرّخصة.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 6486، 6888) والبخاريّ (رقم: 3274) والدّارميّ (رقم: 548) والتّرمذيّ (رقم: 2669) وقال: «حديث حسن صحيح» .
وصحّ نحوه من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدريّ، وجابر بن عبد الله، فهو حديث مشهور.
وجائز أن يكون مورد الحرج عليهم، ممّا فهموه من قوله تعالى:
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 51 [العنكبوت: 51]، كما استدلّت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية حين أهدي لها شيء من كتب أهل الكتاب (1).
وكان عبد الله بن عبّاس يقول: يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الّذي أنزل الله على نبيّكم صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله، محضا لم يشب (2)، وقد حدّثكم الله أنّ أهل الكتاب بدّلوا من كتب الله وغيّروا، فكتبوا بأيديهم، قالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا بذلك ثمنا قليلا؟ أولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟
فلا والله، ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الّذي أنزل إليكم (3).
وعن مرّة الهمدانيّ، قال: جاء أبو قرّة الكنديّ بكتاب من الشّام، فحمله فدفعه إلى عبد الله بن مسعود، فنظر فيه، فدعا بطست، ثمّ دعا بماء فمرسه فيه، وقال: إنّما هلك من كان قبلكم باتّباعهم الكتب وتركهم كتابهم (4).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (رقم: 17381) بإسناد حسن.
(2)
أي: لم يخلط بغيره.
(3)
أثر صحيح. أخرجه الشّافعيّ في «الأم» (12/ 538) والبخاريّ (رقم: 2539، 6929، 7085) والبيهقيّ في «الكبرى» (10/ 162 - 163) وغيرهم من طرق عن الزّهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عبّاس، به.
(4)
أثر صحيح. أخرجه الدّارميّ (رقم: 483) والهرويّ في «ذمّ الكلام» (ص: 147) وإسناده صحيح.
أو يكون مورد الحرج جاء من نهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما ورد به حديث جابر بن عبد الله، قال:
نسخ عمر، رضي الله عنه، كتابا من التّوراة بالعربيّة، فجاء به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعل يقرأ ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغيّر، فقال رجل من الأنصار: ويحك يا ابن الخطّاب، ألا ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنّهم لن يهدوكم وقد
ضلّوا، وإنّكم إمّا أن تكذّبوا بحقّ، أو تصدّقوا بباطل، والله لو كان موسى بين أظهركم، ما حلّ له إلّا أن يتّبعني» (1).
فهذا الحديث نهي صريح عن سؤال أهل الكتاب، لعلّتين:
الأولى: أنّ الله أغنى هذه الأمّة بما أوحى إلى نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم من العلم والهدى، وأنّ شريعته نسخت ما تقدّمها، فهو المتبوع الأوّل لأمّته.
والثّانية: أنّ ما عند اليهود والنّصارى لا يعرف حقّه من باطله، وذلك
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (رقم: 14631، 15156) والدّارميّ (رقم: 441) وأبو يعلى (رقم: 2135) والبزّار (رقم: 124 - كشف الأستار) والبيهقيّ في «الكبرى» (2/ 10) و «الشّعب» (رقم: 176، 179) وغيرهم من طرق عن مجالد بن سعيد، عن عامر الشّعبيّ، عن جابر، به.
وإسناده حسن لغيره، فإنّ له شواهد صالحة من حديث أبي الدّرداء، والحسن البصريّ وأبي قلابة الجرميّ ويحيى بن جعدة مرسلا، وعلّق البخاريّ في «الصّحيح» (6/ 2679) طرفا منه جازما به، وقوّاه ابن حجر في «الفتح» (13/ 334، 525).
لما وقع فيه من قبلهم من التّحريف والتّبديل.
وهذا المعنى لم ينفكّ الصّحابة عن مراعاته، مع ما فهموه من الإذن في الحديث عن أهل الكتاب، كما تقدّم من صنيع عائشة وابن
مسعود وقول ابن عبّاس، فأحاديث الإذن أزاحت عنهم شبهة المنع المطلق، لكنّهم بقوا على ملاحظة المعنى الّذي لأجله جاء النّهي.
فترخّص الصّحابة في الحديث عن بني إسرائيل كان في حدود ضيّقة، وبالاستقراء ثبت أنّ القدر الّذي ترخّصوا فيه من ذلك يتّسم بأمور ثلاثة:
أوّلها: القلّة، فإذا استبعدت ما لا تثبت أسانيده إليهم، فإنّه يخلص منه قدر قليل جدّا.
ثانيها: أنّه أخذ عن مسلمة أهل الكتاب، مثل عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وليس هذا كمن يتلقّى عن الأحبار والرّهبان وهم على دينهم؛ لأنّ الأصل في هؤلاء الّذين أسلموا منهم أنّهم يتحرّون، فلا يحدّثون بما ظهر كذبه، أو عارض القرآن وأصول الإسلام، إنّما يخبرون بما يأتي على التّصديق لما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم.
واليهود والنّصارى أوتوا العلم، وعلموا الحقّ فزاغوا عنه وضلّوا، وليسوا كسائر الكفّار، والقرآن نبّه على هذا في مواضع، كما قال تعالى:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146]، وقال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ
وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ [المائدة: 43]، بل قال الله لنبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94](1)، واعتدّ
بشهادتهم على صدقه وصدق ما بعثه به، كما قال: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرّعد: 43]، وقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف: 10].
فما جاء به المسلمون منهم وحدّثوا به فالأصل أنّه مصدّق لما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم، وذلك ما أفادته نماذجه الثّابتة الأسانيد ممّا وصلنا.
ثالثها: لم يكن الصّحابة يتلقّون ما يسمعونه من ذلك بالتّسليم دون نقد وتثبّت، حتّى مع أخذه عمّن أسلم من أهل الكتاب، كما تدلّ على ذلك الآثار، ومنها:
عن السّائب بن يزيد، قال: سمعت عمر بن الخطّاب قال لكعب: «لتتركنّ الأحاديث، أو لألحقنّك بأرض القردة» (2).
(1) أخرج ابن أبي حاتم في «تفسيره» (رقم: 10583) بإسناده صحيح عن ابن عبّاس في هذه الآية، قال:«لم يشكّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسأل» .
كما جاء مثله عن سعيد بن جبير من قوله.
(2)
أخرجه أبو زرعة الدّمشقيّ في «تاريخه» (1/ 544) بإسناد صحيح.
ومقصود عمر الزّجر عن الإكثار من ذلك؛ لأنّ كعبا ثبت تحديثه بالشّيء من ذلك بمحضر عمر، كما سيأتي مثاله.
وعن حميد بن عبد الرّحمن بن عوف: سمع معاوية بن أبي سفيان يحدّث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدّثين الّذين يحدّثون عن أهل الكتاب، وإن كنّا مع ذلك لنبلو عليه الكذب (1).
وعن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عبّاس: إنّ نوفا البكاليّ يزعم أنّ موسى صاحب بني إسرائيل، ليس هو موسى صاحب الخضر، فقال: كذب عدوّ الله، سمعت أبيّ بن كعب
يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قام موسى عليه السلام خطيبا في بني إسرائيل» وذكر الحديث (2).
فهذا وشبهه دليل على منهاج الصّحابة فيما كانوا يسمعونه من الأخبار الإسرائيليّة، فالأصل أنّها معروضة على ما جاء به القرآن والسّنّة، فما وافق منها فهو شاهد حقّ، وما خالف ردّوه.
فهذان قسمان، ويبقى قسم ثالث، وهو: ما لا يوجد له في الكتاب
(1) أثر صحيح. علّقه البخاريّ في «صحيحه» (6/ 2679)، ووصله في «التّاريخ الأوسط» (رقم: 201) بإسناد صحيح.
وانظر: الفتح، لابن حجر (13/ 334)، وتغليق التّعليق، له (5/ 328).
وأمّا المراد بقوله: «لنبلو عليه الكذب» فقال ابن الجوزيّ: «المعنى: أنّ بعض الّذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبا، لا أنّه يتعمّد الكذب» .
وانظر: فتح الباري (13/ 335) وتفسير ابن كثير (5/ 330).
(2)
حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 122 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم: 2380). ونوف هو ابن امرأة كعب، وكان يحدّث بالإسرائيليّات.
والسّنّة تصديق أو تكذيب، فهذا وجدنا الصّحابة تسهّلوا فيه لمعنى صحيح اشتمل عليه، وإن كان لا يمكن القطع بصحّته أو كذبه من كلّ وجه.
مثاله: ما حدّث به عبد الرّحمن بن حاطب، قال:
جلسنا إلى كعب الأحبار في المسجد وهو يحدّث، فجاء عمر فجلس في ناحية القوم، فناداه، فقال: ويحك يا كعب، خوّفنا، فقال:
والّذي نفسي بيده، إنّ النّار لتقرب يوم القيامة، لها زفير وشهيق، حتّى إذا أدنيت وقرّبت زفرت زفرة، ما خلق الله من نبيّ ولا صدّيق ولا شهيد إلّا وجثا لركبتيه ساقطا، حتّى يقول كلّ نبيّ وكلّ صدّيق وكلّ شهيد: اللهمّ لا أكلفك (1) اليوم إلّا نفسي، ولو كان لك يا ابن
الخطّاب عمل سبعين نبيّا لظننت أن لا تنجو، قال عمر: إنّ الأمر لشديد (2).
فهذا يدلّ على معنى صحيح من حيث الجملة، وإن كان الإيمان بما فيه من التّفصيل يتوقّف على تصديق القرآن أو السّنّة له، فمثل هذا لا يصدّق ولا يكذّب، إذ ربّما كذّب وهو حقّ، أو صدّق وهو باطل.
والتّوجيه النّبويّ في هذا النّوع كان معلوما للصّحابة، فقد ثبت فيه غير ما حديث، منها: حديث أبي هريرة، قال:
كان أهل الكتاب يقرءون التّوراة بالعبرانيّة، ويفسّرونها بالعربيّة لأهل
(1) أي: لا أتحمّل عندك.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (13/ 154 - 155) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (رقم:
7539) بإسناد حسن.