الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للسّعة في الإطلاق لا إلغاء معناه، فأنت ترى أنّ الأمر بالتّقوى حاصل بالآيتين، لكن أزيح عن الآية الأولى ما قد يفهم من لفظها الواسع، فيقع للنّاس من الحرج ما لا طاقة لهم به، ففسّرت الآية الثّانية المراد وحدّدته.
فسمّوا تقييد المطلق نسخا مع أنّ العمل بالآية الأولى محكم لم يترك، إنّما بيّن وجهه بالآية الثّانية.
3 - تبيين المجمل وتفسيره:
كما وقع عند نزول قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284].
فعن أبي هريرة، قال:
لمّا نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قال: فاشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ بركوا على الرّكب فقالوا: أي رسول الله، كلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصّلاة والصّيام والجهاد والصّدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم:
سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا وإليك المصير»، قالوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا وإليك المصير، فلمّا
اقترأها القوم ذلّت بها ألسنتهم، فأنزل الله
في إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ 285، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال: نعم، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قال: نعم، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ قال: نعم، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ قال: نعم (1).
فهذا الّذي نزل من القرآن من بعد من وعد الله تعالى لعباده المؤمنين بالمغفرة غير مناف للمحاسبة لهم عمّا أسرّوا؛ لأنّ المحاسبة لا تعني العذاب، كما قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً 9 [الانشقاق: 7 - 9]، وأمّا إضمار الكفر والنّفاق وبغض المؤمنين وموالاة الكافرين، فتلك من أعمال القلوب الّتي يحاسب عليها صاحبها ويؤاخذ بها.
كما يدلّ أنّ هذه الآية محكمة: امتناع النّسخ في الأخبار أصلا، وسيأتي.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (رقم: 125) وأبو عوانة (1/ 76 - 77) والطّحاوي في «شرح المشكل» (رقم: 1629) وابن حبّان (رقم: 139) من طريق روح بن القاسم، عن العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، به.