الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: الحكمة من النسخ
النّسخ جار مع مقاصد الشّرع لتحقيق مصلحة المكلّف:
1 -
فتارة ينزل الوحي بالحكم الشّاقّ على المكلّفين؛ لأجل اختبارهم وامتحان صدق إيمانهم.
كما في نزول قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [البقرة: 284]، فقد نال المسلمين منه حرج شديد، فلمّا وقع منهم التّسليم والانقياد أنزل الله عز وجل تصديق ما في قلوبهم: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285]، ونزلت الآية بعدها بالتّخفيف (1). هذا الوجه على قول من يعدّ هذه الصّورة نسخا.
2 -
وتارة من أجل التّدرّج في التّشريع لحداثة النّاس بالجاهلية، ولا يخفى ما فيه من تأليف قلوبهم على الإسلام، وتهيئتهم لما أريدوا له من نصر دين الله، إذ كانوا الجيل الّذي اصطفاه الله عز وجل لنصرة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا بالأخفّ فالأثقل تحقيقا لهذه الغاية.
مثاله: التّدرّج في الصّلاة في قلّة الرّكعات، ثمّ نسخ ذلك بفرض الصّلاة بركعاتها المعلومة.
(1) تقدّم ذكر الحديث فيه (ص: 210 - 211).
فعن أمّ المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، قالت: فرض الله الصّلاة حين فرضها ركعتين ركعتين، في الحضر والسّفر، فأقرّت صلاة السّفر، وزيد في صلاة الحضر.
وفي رواية، قالت: فرضت الصّلاة ركعتين، ثمّ هاجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا، وتركت صلاة السّفر على الأوّل (1).
وكالتّدرّج في الصّيام بفرض صوم يوم واحد أوّلا هو يوم عاشوراء، ثمّ نسخ بصوم شهر رمضان أو بدفع الفدية لمن شاء بدلا من صومه، ثمّ نسخ بفرض صومه لمن شهده صحيحا مقيما.
والدّليل على صحّة ذلك حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، قال:
صام النّبيّ صلى الله عليه وسلم عاشوراء، وأمر بصيامه، فلمّا فرض رمضان ترك (2).
وحديث عبد الرّحمن بن أبي ليلى، قال: حدّثنا أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم: نزل رمضان، فشقّ عليهم، فكان من أطعم كلّ يوم مسكينا ترك الصّوم
(1) حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 343، 1040، 3720) ومسلم (رقم: 685)، والرّواية الأخرى للبخاريّ.
(2)
حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 1793) ومسلم (رقم:
1126) بمعناه.
وبمعناه كذلك عن عائشة وابن مسعود وجابر بن سمرة، وغيرهم.
ممّن يطيقه، ورخّص لهم في ذلك، فنسختها: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 184]، فأمروا بالصّوم (1).
وحديث سلمة بن الأكوع، رضي الله عنه، قال: لمّا نزلت هذه الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ [البقرة: 184]، كان من أراد منّا أن يفطر ويفتدي فعل، حتّى نزلت هذه الآية الّتي بعدها فنسختها (2).
3 -
كما في النّسخ إظهار نعمة الله عز وجل بما يرفع به من الحرج والضّيق بنوع سابق من أنواع التّكليف، وخذ مثاله غير ما تقدّم في عدّة المتوفّى عنها زوجها، حيث فرض الله عليها أن تعتدّ عاما كاملا أوّل الأمر، وهذه المدّة على وفاق ما كانت تعتدّه إحداهنّ في الجاهليّة، فخفّف الله عن النّساء بأن جعلها أربعة أشهر وعشرا.
فأمّا اعتدادها عاما، فكما في قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة:
(1) حديث صحيح. علّقه البخاريّ (رقم: 1847) بصيغة الجزم، ووصله البيهقيّ في «سننه» (4/ 200) بإسناد صحيح.
وأخرجه كذلك أبو داود (رقم: 506، 507) بإسناد صحيح.
(2)
حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4237) ومسلم (رقم: 1145).
240]، فنسخ الله ذلك بقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234].
وإظهار الفضل فيه يتبيّن بما حدّث به حميد بن نافع أحد التّابعين، عن زينب بنت أمّ سلمة، قالت: سمعت أمّ سلمة تقول:
جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إنّ ابنتي توفّي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا» ، مرّتين أو ثلاثا، كلّ ذلك يقول:«لا» ، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنّما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكنّ في الجاهليّة ترمي بالبعرة على رأس الحول» .
قال حميد: فقلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟
فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها دخلت حفشا (1)، ولبست شرّ ثيابها، ولم تمسّ طيبا حتّى تمرّ بها سنة، ثمّ تؤتى بدابّة:
حمار أو شاة أو طائر، فتفتضّ به (2)، فقلّما تفتضّ بشيء إلّا مات، ثمّ تخرج فتعطى بعرة، فترمي، ثمّ تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره (3).
(1) الحفش: البيت الصّغير الضّيّق الذّليل.
(2)
فسّره الإمام مالك في نفس الحديث عند البخاريّ حيث سئل: ما تفتضّ به؟ قال:
تمسح به جلدها.
(3)
حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 5024) ومسلم (رقم:
1488، 1489).
وبقي النّاسخ والمنسوخ يتلى في كتاب الله تذكيرا بفضل الله، بما جاء به دينه من التّيسير.
4 -
كما يقع في النّسخ تطييب نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفوس أصحابه بتمييز هذه الأمّة على الأمم وإظهار فضلها.
ومثاله قصّة نسخ استقبال القبلة، حيث كانت حين فرضت الصّلاة إلى بيت المقدس، ثمّ حوّلت إلى الكعبة.
وفي ذلك يقول الله عز وجل: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الآيات [البقرة: 142 - 144].
وسوى ذلك حكم ومقاصد للنّسخ، تندرج سعتها في عموم قول الله عز وجل: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ 102 [النّحل: 102]، حيث جاءت هذه الآية ردّا على المشركين في جحدهم النّسخ بقولهم للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ.
وفي الجملة فإنّ حقيقة النّسخ تغيير للأحكام بتغيّر الأحوال والظّروف، وإنزال فرفع للآيات لمقتض، وذلك ممّن يعلم مصالح خلقه تبارك وتعالى، وهو على كلّ شيء قدير، كما قال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ [النّحل: 101]، وكما قال: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ 107 [البقرة: 106 - 107].
ومن هذا يتبيّن فساد مذهب الغالطين على ربّهم، الجاهلين به ممّن ضلّ في أمر النّسخ، من المشركين واليهود وغلاة الرّافضة ومن شايعهم من أهل زماننا، وما شأنهم إلّا كما قال الله عن المشركين من قبل: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النّحل: 102].
…
(1) الرّسالة (ص: 106).