الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه منازل الحفّاظ في الآخرة.
هذا الّذي أوردت هنا هو أحسن ما يستدلّ به للحثّ على حفظ القرآن واستظهاره، وهو مبين عن درجات رفيعة ومنازل عليّة يغني في هذا الباب عن أحاديث ذوات عدد تحثّ على حفظ القرآن واستظهاره، هي ضعيفة أو موضوعة، إذ لست أحلّ لنفسي الاستدلال بضعيف الحديث، فضلا عن الواهي والموضوع.
هدي الصحابة في حفظ القرآن:
كان سلف الأمّة من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحرص النّاس على الاعتصام بهذا الكتاب، وأعلم النّاس به، وأعرفهم بما يجب في حقّه
من العناية، فحريّ بمن بعدهم أن يسلك هداهم في ذلك، وأن يعرف عنهم كيف كانوا يأخذون هذا القرآن، فإنّهم القوم الّذين كانوا يغذّون به في اللّيل والنّهار، يصبّحهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويمسّيهم بجديده، ولم تكن الكتابة شائعة، ولا المصاحف موجودة مهيّأة كما صارت لمن بعدهم، فهم إلى حفظه في الصّدور يومئذ كانوا أحوج ممّن بعدهم، فكيف كانوا يحفظون؟ هذا ما نتبيّنه فيما يأتي من صحيح الأخبار:
1 -
عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال:«كان الرّجل منّا إذا تعلّم عشر آيات لم يجاوزهنّ حتّى يعرف معانيهنّ والعمل بهنّ» (1).
(1) أثر صحيح. أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (1/ 35) وتقدّم (ص: 91).
2 -
وعن أبي عبد الرّحمن السّلميّ، قال: حدّثنا من كان يقرئنا من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهم «كانوا يقترءون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتّى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل» (1).
ففي هذا أنّ الحفظ عندهم كان مقترنا بالعلم بالمحفوظ، وامتثال ما فيه من الأمر والنّهي والاعتبار وغير ذلك، فكانوا لذلك يأخذونه عشر آيات عشر آيات ليكون أيسر عليهم.
فلم يكن همّهم كثرة الحفظ كما صار إليه حال من بعدهم، وإنّما علموا أنّ هذا القرآن إنّما أنزل للعمل، ولا عمل دون علم وفهم.
وكانوا لا يقدمون على أخذ القرآن حتّى تستعدّ له نفوسهم بالإيمان والتّصديق وتتهيّأ للامتثال، فنفعهم الله بذلك ورفع أقدارهم.
3 -
وعن جندب بن عبد الله، رضي الله عنه، قال:«كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة (2)، فتعلّمنا الإيمان قبل أن نتعلّم القرآن، ثمّ تعلّمنا القرآن فازددنا به إيمانا» (3).
(1) أثر صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 29920) وأحمد (5/ 410) عن محمّد بن فضيل، والفريابيّ في «فضائل القرآن» (رقم: 169) من طريق حمّاد بن زيد، كلاهما عن عطاء بن السّائب، عن أبي عبد الرّحمن، به. قلت: وإسناده صحيح.
(2)
حزاورة: جمع حزور وحزوّر، وهو الّذي قارب البلوغ (النّهاية: 1/ 380).
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (رقم: 61) والطّبرانيّ في «الكبير» (رقم:
1678) وابن منده في «الإيمان» (رقم: 208) والبيهقيّ (3/ 120) والمزّيّ في «تهذيب الكمال» (7/ 288) من طريق وكيع بن الجرّاح، قال: حدّثنا حمّاد بن نجيح، عن أبي عمران الجونيّ، عن جندب، به. وإسناده صحيح.
4 -
وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال:
وكانوا يراعون الأيسر في الأخذ والحفظ، وعليه يربّون أبناءهم، شبيه بما جرت عليه عادة القرّاء في الكتاتيب مع الصّبيان في البدء بتعليمهم
(1) حديث صحيح. أخرجه النّحّاس في «القطع والائتناف» (ص: 87) وابن منده في «الإيمان» (رقم: 207) والحاكم (رقم: 101) والبيهقيّ (3/ 120) من طرق عن عبيد الله بن عمرو الرّقّي، عن زيد بن أبي أنيسة، عن القاسم بن عوف قال: سمعت عبد الله بن عمر، به.
قلت: وهذا إسناد حسن، القاسم هو الشّيبانيّ صدوق حسن الحديث.
قال ابن منده: «إسناد صحيح على رسم مسلم والجماعة إلّا البخاريّ» ، وقال الحاكم:«حديث صحيح على شرط الشّيخين، ولا أعرف له علّة» .
قلت: القاسم ليس من شرط البخاريّ.
وقوله: (وينثره نثر الدّقل) الدّقل: رديء التّمر أو يابسه، يكون لرداءته ويبسه منثورا لا يجتمع بعضه إلى بعض. (معناه عن «النّهاية»: 2/ 127).