الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: كيفية نزول القرآن
المبحث الأول: كيف أنزل القرآن
؟
المقطوع به من دين الإسلام أنّ القرآن لم ينزل على نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم جملة واحدة كما هو الشّأن في الكتب السّالفة كالتّوراة والإنجيل، إنّما نزل بحسب الوقائع منذ البعثة حتّى آخر حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كما يثبّت هذه الحقيقة قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32]، وقوله: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا 106 [الإسراء: 106](1).
(1) والاستدلال بهذه الآية إنّما هو في قوله: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، قال ابن عطيّة:«هذا كان بما أراد الله تعالى من نزوله بأسباب تقع في الأرض من أقوال وأفعال في أزمان محدودة معيّنة» (المحرّر الوجيز 9/ 216).
واستدلّ ابن عبّاس رضي الله عنهما بهذه الآية بقوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ على قراءتها بالتّشديد: (فرّقناه).
فأخرج أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 367) وابن جرير في «تفسيره» (15/ 178) بإسناد صحيح عنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، ثمّ نزل بعد ذلك في عشرين سنة، وقرأ: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا 106.
قال أبو عبيد: «لا ينبغي أن تكون على هذا التّفسير إلّا بالتّشديد (فرّقناه» ). =
ولكن ما معنى الإنزال في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185]، وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان: 3]، وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 1 [القدر: 1]؟
فهذه آيات متوافقة فيما بينها، أنبأت بأنّ الله تعالى أنزل القرآن في ليلة مباركة من شهر رمضان هي ليلة القدر.
وهي خبر قد يدلّ ظاهره على نزول جميع القرآن في تلك اللّيلة.
فكيف التّوفيق بين هذا الظّاهر والحقيقة المقطوع بها في نزوله مفرّقا؟ من علماء السّلف من ذهب إلى أنّ ابتداء النّزول كان في ليلة القدر لا جميع القرآن، وهذا القول لا يوجد ما يردّه، وهو وجه في تفسير الآيات الثّلاث المذكورة.
لكن صحّ عن إمام المفسّرين عبد الله بن عبّاس- رضي الله عنهما ما أفادنا أنّ للقرآن تنزّلين:
الأوّل: من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، وكان جملة واحدة.
والثّاني: من السّماء الدّنيا إلى الأرض على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مفرّقا على الوقائع.
فعنه قال: أنزل الله القرآن إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر، فكان الله إذا
= قلت: والقراءة بالتّشديد مذكورة عن عليّ وابن عبّاس وابن مسعود وأبيّ بن كعب، وجماعة من التّابعين، (انظر: زاد المسير لابن الجوزي 5/ 96 والمحرّر الوجيز 9/ 215).
أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه، فهو قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 1.
وفي لفظ: أنزل القرآن كلّه جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السّماء الدّنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئا أنزله منه، حتّى جمعه (1).
وهذا خبر تلقّاه أكثر العلماء بالقبول، وهو مرويّ من وجوه متعدّدة عن ابن عبّاس، ومثله إخبار عن أمر غيبيّ لا يصار إلى مثله إلّا بتوقيف، فله حكم الحديث المرفوع، والقول به أولى من القول بمجرّد النّظر.
ومن العلماء من يرى أنّ الحكمة من إنزاله جملة واحدة إلى السّماء الدّنيا وهو كتاب الله تعالى إلى أهل الأرض، هي: إعلام الملإ الأعلى بالرّسالة الجديدة إلى أهل الأرض،
وبيان فضيلة من يوحى إليه هذا الدّستور وفضيلة أتباعه، خاصّة مع حدوث ذلك في أعظم ليلة، ليلة قال الله فيها: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ 4 [الدخان: 4]، وقال فيها: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر: 3]، فهو تمجيد للقرآن نفسه، وللرّسول الموحى إليه به صلى الله عليه وسلم، وللأمّة الّتي ستسعد بالاهتداء به.
ولعلّ من وراء ذلك حكما هي في علم الله أكبر ممّا ذكر وأجلّ وأعظم، والله أعلم.
(1) أثران صحيحان. أخرجهما ابن جرير الطّبريّ في «تفسيره» (2/ 145) بسند صحيح.