الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمعنى في هذه الأحاديث: أنّ سرعة تفلّت القرآن من صدور الحفّاظ أشدّ من سرعة انطلاق البعير حين يفكّ من قيده، ومن طبعه شدّة النّفور، فإذا انطلق شقّ إمساكه، وربّما ذهب فلا يقدر عليه؛ لذا أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الحفّاظ على المواظبة على مراجعة حفظهم للقرآن، وإلّا ذهب عليهم.
وهذا الأمر بالمعاهدة إنّما هو على سبيل النّدب المؤكّد لا الوجوب، كما سأبيّنه في المبحث التّالي.
المبحث السادس: التحذير من هجر القرآن
تقدّم في المبحث الأوّل ذكر تحذير الله تعالى عباده من الإعراض عن القرآن، وتوعّد على ذلك.
والإعراض عن القرآن صفة الكافرين، كما قال الله تعالى: حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصّلت: 1 - 5].
وقال عز وجل: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ 5 [الشّعراء: 5].
وإعراضهم إنّما كان بعدم الإيمان به، والتّسليم لما جاء به من الحقّ والهدى، فمن آمن به واتّبع هداه فليس من المعرضين عنه، لكن قد ينال
المسلم نصيب من ترك العمل بالقرآن بتقصيره في الطّاعات ومواقعته المعاصي، غير أنّ هذا لا يلحقه بالمعرضين، ما دام قلبه منطويا على حسن الاعتقاد في القرآن، وأنّ خروجه عن متابعته فيما خرج به عنه ليس استباحة لخلاف حكم الله، ولا رضا بذلك، إنّما مع الإقرار بالذّنب والتّقصير، كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32]، فهؤلاء الأصناف الثّلاثة كلّهم على خير وإن تفاوتت درجاتهم، وهذا الّذي هو ظالم لنفسه منهم تارك للعمل ببعض الكتاب، لكنّه غير معرض، إنّما هو مذنب معترف توّاب، يرجو رحمة ربّه ويخاف عقابه.
فالمؤمن لا يوصف بالإعراض عن القرآن.
أمّا هجر القرآن فهو تركه، فيدخل فيه: ترك الإيمان به، وترك العمل به، وترك قراءته وتدبّره.
فيندرج تحت هجره إعراض الكفّار عنه، كما قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ 26 [فصّلت: 26]، فهؤلاء هجروا القرآن هجرا تامّا، وهم القوم المرادون بقوله تعالى: وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً 30 [الفرقان: 30].
ومثل هؤلاء كما قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا
فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ 177 [الأعراف: 175 - 177].
أمّا حال المسلم، فإنّه قد يقع منه التّقصير بترك العمل ببعض الكتاب أو ترك التّلاوة والتّدبّر له، لكنّه لا يوصف معه بالهجر التّامّ للقرآن، إنّما يناله من ذلك الوصف بحسب ما وقع منه من التّقصير، كما وقعت الإشارة إليه في الكلام عن الإعراض عن القرآن، ففعل المعاصي وترك الواجبات من ترك العمل بالكتاب، ولصاحبه نصيب من الذّمّ بحسبه.
ومن هذا ما ورد من حديث سمرة بن جندب، رضي الله عنه، في رؤيا رآها النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقصّها عليهم، وفيها:
«رأيت اللّيلة رجلين أتياني فأخذا بيدي» فساق الحديث، وفيه:
«حتّى أتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهر (1) أو صخرة، فيشدخ (2) به رأسه، فإذا ضربه تدهده (3) الحجر، فانطلق إليه ليأخذه، فلا يرجع إلى هذا حتّى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه فضربه» ثمّ فسّرا ذلك له، فقالا: «والّذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علّمه
(1) فهر: حجر.
(2)
يشدخ: يكسر.
(3)
تدهده: تدحرج.
الله القرآن، فنام عنه باللّيل ولم يعمل فيه بالنّهار، يفعل به إلى يوم القيامة».
وفي لفظ: «أمّا الرّجل الأوّل الّذي أتيت عليه يثلغ (1) رأسه بالحجر، فإنّه الرّجل يأخذ القرآن فيرفضه (2)، وينام عن الصّلاة المكتوبة» (3).
ففي هذا دليل على أنّ من أنعم الله عليه بالعلم بالقرآن فقد قام عليه من الحجّة بمعرفة الأحكام والشّرائع ما لا تسعه مخالفته أو تركه، فإن فعل استحقّ العقوبة على ذلك، وناله نصيب من صفة الهجر للقرآن.
أمّا مجرّد ترك التّلاوة فهل يسمّى (هجرا)؟ فيه تفصيل يرجع إلى معرفة ما ينقسم عليه حكم التّلاوة.
(1) يثلغ: يضرب حتّى يكسر.
(2)
يرفضه: يتركه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاريّ (رقم: 1320) من طريق أبي رجاء العطارديّ عن سمرة بن جندب، به. واللّفظ الثّاني له كذلك (رقم: 1092، 6640).
وورد الحديث بلفظ: «رجل تعلّم القرآن، فنام عنه حتّى نسيه لا يقرأ منه شيئا» .
أخرجه ابن نصر في «قيام اللّيل» (ص: 161 - 162) من طريق أبي خلدة خالد بن دينار، عن أبي رجاء.
قلت: ولفظ البخاريّ أولى وأصحّ، فإنّه ربط ذلك بترك العمل بالقرآن في اللّيل والنّهار، فأمّا تركه في اللّيل فبالنّوم عن المكتوبة، وهذا كما ترشد الأدلّة إذا كان بإهمال وترك الاجتهاد للاستيقاظ للصّلاة، وتركه بالنّهار ظاهر، وذلك بفعل المعصية وترك الواجب.
نبّهت على هذا لئلّا يظنّ أنّ تلك العقوبة في الرّؤيا النّبويّة كانت للنّوم عن قيام اللّيل، لليقين في كونه ليس فريضة، ولا تقع العقوبة على ترك ما سوى الفريضة.