الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بأحدهما ممّا يندرج تحت قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها [البقرة: 106] على قراءتي عبد الله بن كثير المكّيّ وأبي عمرو بن العلاء البصريّ من السّبعة، فقال الزّركشيّ: «ما أمر به لسبب ثمّ يزول السّبب، كالأمر حين الضّعف والقلّة بالصّبر وبالمغفرة للّذين لا يرجون لقاء الله، ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والجهاد ونحوها، ثمّ نسخه إيجاب ذلك، وهذا ليس بنسخ في الحقيقة، وإنّما هو نسء، كما
قال تعالى: أَوْ نُنْسِها، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضّعف يكون الحكم وجوب الصّبر على الأذى، وبهذا التّحقيق تبيّن ضعف ما لهج به كثير من المفسّرين في الآيات الآمرة بالتّخفيف أنّها منسوخة بآية السّيف، وليست كذلك، بل هي من المنسأ، بمعنى أنّ كلّ أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلّة توجب ذلك الحكم، ثمّ ينتقل بانتقال تلك العلّة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنّما النّسخ الإزالة حتّى لا يجوز امتثاله أبدا» (1).
5 - نقل حكم الإباحة الأصليّة:
والمراد به ما كان مسكوتا عنه من الأشياء، كالمآكل والمشارب والملابس، وشبه ذلك، فكان حكمه قبل ورود النّاقل على الإباحة، وهي حكم مستفاد من مجرّد سكوت الشّارع عن ذلك.
فوقع في كلام بعض السّلف إطلاق اسم النّسخ على تغيير تلك الإباحة
(1) البرهان في علوم القرآن، للزّركشيّ (2/ 42).
إلى حكم جديد بالنّصّ.
مثاله: ما وقع منهم في شأن تحريم الخمر، فإنّ النّصوص جاءت فيه على النّحو الّذي ورد في حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، أنّه قال:
اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت الّتي في البقرة:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: 219]، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت الّتي في النّساء:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النّساء: 43]، فدعي
عمر فقرئت عليه، ثمّ قال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت الّتي في المائدة: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 19]، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: انتهينا، انتهينا (1).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 442 رقم: 378) وأبو عبيد في «النّاسخ والمنسوخ» (رقم: 254) وأبو داود (رقم: 3670) والتّرمذيّ (رقم: 3049) والنّسائيّ (رقم: 5540) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 388 - 389 و 3/ 958 و 4/ 1200) وابن جرير في «تفسيره» (7/ 33) والنّحّاس في «النّاسخ والمنسوخ» (ص: 148 - 149) والجصّاص في «أحكام القرآن» (1/ 323) والبيهقيّ (8/ 285) والواحديّ في «الوسيط» (2/ 223) والضّياء في «الأحاديث المختارة» (رقم:
256) من طرق عن أبي إسحاق السّبيعيّ، عن أبي ميسرة، عن عمرو بن شرحبيل، عن عمر، به.
قلت: وإسناده صحيح، وإدراك أبي ميسرة لعمر ثابت، وجمهور من رواه عن إسرائيل وصله، فلا يضرّه إرسال من أرسله، كما لا يضرّه خطأ من أخطأ فيه عن أبي إسحاق فجعله عنه عن حارثة بن مضرّب، عن عمر، كما رواه كذلك الحاكم (4/ 143 رقم: 7224)، كذلك قال حمزة الزّيّات، وقول أصحاب أبي إسحاق عنه كما ذكرته أوّلا.
وكان ابن عبّاس يطلق اسم (النّسخ) على ما أفادت الآيتان الأوليان من الإباحة المضيّقة للخمر، فكان يقول:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى، ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، نسختهما الّتي في المائدة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ الآية (1).
فهذا الّذي جاءت به هذه الآيات لم يكن نسخا لشيء، إنّما كانت الخمر قبل نزول هذه الآيات مباحة، لكونها ممّا كان النّاس يتعاطونه كسائر مشاربهم المباحة بأصلها، إذ لم يرد المانع، فلمّا نزلت آية البقرة دلّت النّاس على ما فيها من الضّرر وأخرجتها من دائرة الإباحة المطلقة إلى إباحة مضيّقة، فلمّا نزلت آية النّساء زادت في التّضييق ولم تحرّم تحريما مطلقا، فلمّا
(1) أثر حسن. أخرجه أبو داود (رقم: 3672) والبيهقيّ في «الكبرى» (8/ 285) وابن الجوزيّ في «نواسخ القرآن» (ص: 279) من طريق عليّ بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النّحويّ، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، به.
قلت: وهذا إسناد حسن.
نزلت آية المائدة أتت على ما بقي من الإباحة الّتي لم تتناولها الآيتان السّابقتان، فهي آيات مصدّقة لبعضها، وليس بينها تناسخ، إذ من شرط صحّة النّسخ- كما سيأتي- ثبوت التّعارض بين النّاسخ والمنسوخ، وهذا معدوم هاهنا فيما بين هذه الآيات، ثمّ إنّ ما دلّت عليه من الحكم لم يسبق إلّا بالإباحة الثّابتة بسكوت الشّارع، لا بنصّه.
ولو صحّ إطلاق النّسخ على نقل حكم الإباحة الأصليّة إلى حكم آخر بدليل الشّرع، لساغ أن نقول في كلّ آية تحريم: هي ناسخة لما كان عليه الحال قبل نزولها، وهذا مخالف لما دلّ عليه القرآن من معنى النّسخ، كما ستعلمه من المباحث التّالية (1).
إذا فهذه الوجوه الخمسة الّتي وقع إطلاق (النّسخ) عليها في كلام السّلف، ليست في التّحقيق من باب النّسخ الّذي استقرّ معناه عند أهل العلم من بعد، وجميعها ممّا يجب التّنبّه له؛ وذلك خشية إبطال العمل بنصّ من نصوص القرآن بالظنّ والوهم، فإنّ أكثر ما ادّعي فيه النّسخ يرجع إلى هذه الوجوه.
فإن قلت: فلم سمّوا ذلك نسخا؟
قلت: يجيب عن ذلك العلّامة الشّاطبيّ بقوله: «لأنّ جميع ذلك
مشترك في معنى واحد، وهو أنّ النّسخ في الاصطلاح المتأخّر اقتضى أنّ الأمر
(1) وانظر: الموافقات، للشّاطبيّ (3/ 107)، والتّلخيص، للجوينيّ (2/ 460).