الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بن أبي طالب يعلم في صنيع عثمان نقصا أو عيبا ويقرّه في مصاحف المسلمين وذلك وعثمان حيّ، فضلا عن حاله من بعد حين ولي الخلافة، فسحقا لأهل البدع، كم تجني عليهم بدعهم من الضّلال؟!
أمّا عامّة أهل الإسلام من بعد، فإنّهم رأوا ما صنع عثمان رضي الله عنه منقبة له، كيف لا؛ وقد وقى الله به الأمّة من الاختلاف في القرآن، وحفظه به! ويكفي أن تكون الأمّة كلّها باختلاف طوائفها لا يوجد عندها قرآن غير هذا الّذي جمع عثمان رضي الله عنه، وإذا كان الله تعالى قد تعهّد بوقاية هذا الكتاب وحفظه والنّاس لا يعرفون إلّا ما جمعه عثمان، فذلك من أعظم البراهين على أنّ الله تعالى أبقاه محفوظا في الأمّة بصنيع عثمان، فرضي الله عن عثمان.
عبد الله بن مسعود والجمع العثمانيّ:
لا يخفى قدر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ومكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنزلته في الصّحابة، بل ومكانته في القرآن خاصّة، وكان معارضا لصنيع عثمان في أمور ثلاثة:
الأوّل: تولية زيد بن ثابت دونه.
كان ابن مسعود في الكوفة حين شرع عثمان في جمع المصحف، وكان عثمان قد اقتدى بالشّيخين قبله أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في اختيار زيد بن ثابت لهذه المهمّة، لكن أغضب ذلك عبد الله بن مسعود، حتّى قال:
على قراءة من تأمرونّي أقرأ؟ لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة وإنّ زيدا لصاحب ذؤابتين يلعب مع الصّبيان.
وفي رواية عن أبي وائل شقيق بن سلمة الأسديّ، قال:
لمّا أمر عثمان رضي الله عنه في المصاحف بما أمر به، قام عبد الله بن مسعود خطيبا، فقال: أتأمروني أن أقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت؟ فو الّذي نفسي بيده، لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة وزيد بن ثابت عند ذلك يلعب مع الغلمان، ثمّ استحيا ممّا قال، فقال: وما أنا بخيرهم، ثمّ نزل.
قال شقيق: فقعدت في الحلق فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، فما سمعت أحدا ردّ ما قال (1).
فهذا الخبر واضح في غضب ابن مسعود من تقديم زيد بن ثابت عليه
(1) حديث صحيح. أخرج الرّواية الأولى منه: النّسائيّ (رقم: 5063) من طريق هبيرة بن يريم، عن ابن مسعود.
قلت: وإسناده صحيح.
وأخرج الرّواية الثّانية: الطّحاويّ في «شرح المشكل» (رقم: 5595) من طريق عبد الواحد بن زياد، حدّثنا سليمان الأعمش، عن شقيق، به.
قلت: وإسناده صحيح.
وأصله في «الصّحيحين» : رواه البخاريّ (رقم: 4714) ومسلم (رقم: 2462) من طريقين آخرين عن الأعمش، نحوه.
في هذه الوظيفة، وأنا أحيل غضب ابن مسعود على أمرين مهمّين:
أوّلهما: ما يعلمه من نفسه من العناية بالقرآن كما يدلّ عليه قوله المذكور، مع التّزكية النّبويّة له في ذلك.
فتقدّم ذكره في الحديث فيمن أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ عنهم القرآن من أصحابه، وكذلك ما ثبت عن علقمة بن قيس النّخعيّ، قال:
جاء رجل إلى عمر، رضي الله عنه وهو بعرفات، فقال: جئتك من الكوفة، وتركت بها رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلبه، قال:
فغضب عمر وانتفخ حتّى كاد يملأ ما بين شعبتي الرّحل، وقال:
ويحك، من هو؟ قال: عبد الله بن مسعود، قال: فو الله ما زال يطفأ ويذهب عنه الغضب حتّى عاد إلى حاله الّتي كان عليها، ثمّ قال: والله ما أعلم من النّاس أحدا هو أحقّ بذلك منه، وسأخبركم عن ذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر اللّيلة كذلك في الأمر من أمور المسلمين، وأنّه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه، فلمّا دخل المسجد إذا رجل قائم يصلّي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع قراءته، فما كدنا نعرف
الرّجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من سرّه أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد» وذكر بقيّة الحديث (1).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 175) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم:
8257) وابن خزيمة في «صحيحه» (رقم: 1156) ويعقوب بن سفيان في «المعرفة» (2/ 538 - 539) والطّحاويّ في «المشكل» (رقم: 5592، 5593) والطّبراني في «الكبير» (9/ 64، 65) =
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يزكّي قراءته، وهذا عمر من بعده يعدّه أولى النّاس بإقراء القرآن يومئذ.
وقال أبو وائل شقيق بن سلمة: خطبنا عبد الله بن مسعود، فقال:
والله، لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّي من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم (1).
فهذه التّزكية والقبول عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعامّة أصحابه أعطى ابن مسعود الحقّ في الاعتراض: أن يختار زيد بن ثابت ويقدّم عليه، وقد أسلم ابن مسعود وحفظ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم الكثير من القرآن وزيد يومئذ صبيّ لم يعرف الإسلام بعد فضلا عن القرآن.
وثانيهما: شهوده العرضة الأخيرة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
فعن ابن عبّاس، رضي الله عنهما، قال: أيّ القراءتين تعدّون أوّل؟ قالوا: قراءة عبد الله، قال: لا، بل هي الآخرة (وفي رواية:
قراءتنا القراءة
= والحاكم (رقم: 2893) وأبو نعيم في «الحلية» (رقم: 376) والبيهقيّ في «الكبرى» (1/ 452 - 453) من طرق عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة.
يزيد بعضهم ذكر طريق أخرى عن عمر.
وإسناده صحيح، جاء عن عمر من غير وجه، وعن النّبيّ من طريق جماعة من الصّحابة، بعضهم يذكر القصّة، وبعضهم يكتفي بالمرفوع منها.
(1)
حديث صحيح. متّفق عليه: أخرجه البخاريّ (رقم: 4714) ومسلم (رقم:
2462)، واللّفظ للبخاريّ.
الأولى، وقراءة عبد الله قراءة الأخيرة)، كان يعرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلّ عام مرّة، فلمّا كان العام الّذي قبض فيه عرض عليه مرّتين، فشهده عبد الله، فعلم ما نسخ منه وما بدّل (1).
والثّاني: موقفه من إثبات المعوّذتين في المصحف.
وهذا الاعتراض من أشدّ ما يذكر عن عبد الله بن مسعود على الجمع العثمانيّ.
فعن عبد الرّحمن بن يزيد، قال: رأيت عبد الله يحكّ المعوّذتين، ويقول: لم تزيدون ما ليس فيه؟
وفي رواية قال: لا تخلطوا فيه ما ليس منه.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (رقم: 3422) وابن أبي شيبة (رقم: 30279) وابن سعد في «الطّبقات» (2/ 342) والبخاريّ في «خلق أفعال العباد» (رقم:
382) والنّسائيّ في «الكبرى» (رقم: 7994، 8258) وأبو يعلى (رقم: 2562) والطّحاويّ في «شرح المعاني» (1/ 356) و «شرح المشكل» (رقم: 286، 5590) وابن عساكر في «تاريخه» (33/ 140) من طرق عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عبّاس، به.
والرّواية الأخرى لأبي يعلى.
قلت: وإسناده صحيح.
وأخرجه أحمد (رقم: 2494، 2999) والطّحاويّ في «المشكل» (رقم: 287) من طرق عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عبّاس، بنحوه.
قلت: وهذه متابعة صالحة.
وفي رواية عنه: أنّه كان يحكّ المعوّذتين من المصحف، يقول:
ليستا من كتاب الله (1).
والثّالث: إنكاره تحريق المصاحف الّتي لا توافق المصحف العثمانيّ.
إنّ النّاس قبل المصحف الإمام كانت عندهم المصاحف الّتي انتسخوها لأنفسهم، وربّما كان مرجع النّاس في ذلك إلى من سمعوا منه من القرّاء من الصّحابة أو غيرهم،
فجائز عليها الاختلاف، سواء بسبب اختلاف الحروف الّتي بلغهم القرآن عليها، أم بسبب النّسخ، وصنيع عثمان إنّما قصد إلى توحيد المسلمين على مصحف واحد.
فحين كتبت المصاحف العثمانيّة جعلها أمير المؤمنين عثمان المرجع للمسلمين في مصاحفهم، وأمر بإزالة ما سواها ممّا كتب عن غيرها، فساء ذلك ابن مسعود، وأبى أن يسلّم مصحفه، وأفتى النّاس بالاحتفاظ بمصاحفهم، كما تدلّ على ذلك الأخبار عنه، ومنها:
(1) أثر صحيح برواياته الثّلاث. أخرجه الطّبرانيّ في «الكبير» (9/ 268) بالرّواية الأولى، وابن أبي شيبة (رقم: 30196) والطّبرانيّ كذلك، بالرّواية الثّانية، وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (129 - 130) والطّبرانيّ، بالرواية الثّالثة، قلت: وأسانيدهم صحاح.
وأخرجه عمر بن شبّة في «تاريخ المدينة» (3/ 1010 - 1011) من طريق عبد الرّحمن بن يزيد، قال: رأيت ابن مسعود، رضي الله عنه، يحكّ المعوّذتين من المصحف، ويقول:«لا يحلّ قراءة ما ليس منه» .
قلت: وإسناده صحيح.
عن خمير بن مالك الهمدانيّ، قال: أمر بالمصاحف أن تغيّر، قال: قال ابن مسعود: من استطاع منكم أن يغلّ مصحفه فليغلّه، فإنّه من غلّ شيئا جاء به يوم القيامة، قال: ثمّ قال: قرأت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (1).
وعن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، قال: أتى عليّ رجل وأنا أصلّي، فقال: ثكلتك أمّك، ألا أراك تصلّي وقد أمر بكتاب الله أن يمزّق كلّ ممزّق، قال: فتجوّزت في صلاتي، وكنت أحبس، فدخلت الدّار ولم أحبس، ورقيت فلم أحبس، فإذا أنا بالأشعريّ، وحذيفة وابن مسعود يتقاولان، وحذيفة يقول لابن مسعود: ادفع إليهم هذا المصحف، قال: والله لا أدفعه إليهم، أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة ثمّ أدفعه إليهم؟ والله لا أدفعه إليهم (2).
(1) حديث صالح الإسناد. أخرجه أحمد (رقم: 3929) وعمر بن شبّة في «تاريخ المدينة» (3/ 1006) والطّبرانيّ في «الكبير» (9/ 70) وابن أبي داود (ص: 15) وابن عساكر (33/ 139) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن خمير، به.
وقوله: (تغيّر) أي تزال.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 285) والطّبرانيّ (9/ 71) والحاكم (رقم: 2896) من طريق عبد الله بن عون، حدّثني عمر بن قيس، عن أبي ميسرة، به.
قال الحاكم: «صحيح الإسناد» ، قلت: وهو كما قال، وعمر بن قيس هو الماصر.
هذا الحصر يعود إليه جميع ما يذكر عن ابن مسعود من أسباب الاعتراض على الجمع العثمانيّ، وجوابه باختصار:
1 -
قدّم زيد عليه لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ائتمنه على كتابة الوحي، وهذه
خصلة تكفي وحدها لتقديم زيد، كيف وقد جمع القرآن والنّبيّ صلى الله عليه وسلم حيّ، وائتمنه أبو بكر الصّدّيق وعمر الفاروق على الجمع الأوّل وما اعترض ابن مسعود عليهما في ذلك.
وما ضرّ زيدا أن يسبقه ابن مسعود بالسّنّ أو الإسلام أو التّلقّي لبعض سور القرآن تلقّاها زيد من بعد مشافهة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطّها بيده!
2 -
ما قصد أحد من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا عثمان ولا غيره الغضّ من منزلة ابن مسعود في الإسلام، بل فضله عندهم مجمع عليه، وإن اختاروا غيره لهذه الوظيفة.
3 -
شهوده العرضة الأخيرة لا ريب أنّه من أسباب تفضيله وتقديمه في القرآن، لكنّه نفسه لم يجعل شهوده لما ممّا يرجّحه على زيد، كذلك ابن عبّاس لم يعدل عن قراءة زيد مع قوله المذكور، وإنّما الفائدة في قول ابن عبّاس أنّ ما جاء في حرف ابن مسعود فهو غير منسوخ التّلاوة.
على أنّ قول ابن عبّاس مقابل بما هو مشهور من كون قراءة النّاس الّتي في هذه المصاحف هي العرضة الأخيرة.
ومن الدّليل عليه حديث سمرة بن جندب، رضي الله عنه، قال:
عرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضات، فيقولون: إنّ قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة (1).
وعن محمّد بن سيرين، قال: يرون أو يرجون أن تكون قراءتنا هذه أحدث القراءتين عهدا بالعرضة الأخيرة (2).
(1) حديث صحيح. أخرجه الرّوياني (رقم: 817، 826) والبزّار (رقم: 2315 - كشف) والحاكم (رقم: 2904) من طريق حجّاج بن منهال، قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة،
عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، به. قال الحاكم:«حديث صحيح، على شرط البخاريّ بعضه، وبعضه على شرط مسلم» .
قلت: إسناده صحيح، الحسن هو البصريّ، لا يصحّ وصمه بالتّدليس بالمعنى الاصطلاحيّ، إنّما كان كثير الإرسال، وثبت لقاؤه سمرة وسماعه منه، وغاية ما قيل: كان حديثه عن سمرة صحيفة، وأقول: هذا لا يضرّ وقد ثبت سماعه، وأشدّ النّاس في اشتراط السّماع ابن المدينيّ والبخاريّ؛ وقد صحّحا سماعه من سمرة.
(2)
أثر صحيح. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» من طريق أيّوب السّختيانيّ، (ص: 357) وابن شبّة في «تاريخه» (3/ 994) من طريق هشام بن حسّان، كلاهما عن محمّد بن سيرين، به، قلت: وإسناده صحيح.
وروي عن عبيدة السّلمانيّ، قال: القراءة الّتي عرضت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في العام الّذي قبض فيه هي القراءة الّتي يقرؤها النّاس اليوم.
أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 30282) والبيهقيّ في «الدّلائل» (7/ 155) وفيه ضعف يسير، وعبيدة من أصحاب عليّ وابن مسعود، ومن قرّاء القرآن.
ووجه الجمع بين الأخبار هنا أن نقول: حيث إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عرض عليه القرآن في عامه الّذي توفّي فيه مرّتين باعتبار وقوع ذلك منه مع جبريل عليه السلام، أو مرّات باعتبار وقوع العرض من الطّرفين النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام، فيكون زيد حضر إحداها وابن مسعود الأخرى.
4 -
مستند زيد في الجمع إنّما كان الصّحف الّتي جمعها في عهد الصّدّيق، ولم يعتمد حفظه أو حفظ غيره مجرّدا.
كذلك فإنّه لم ينفرد بشيء غير التّكليف بمسئوليّة وظيفة الجمع،
وقد وافقه عثمان حيث تمّ ذلك بإشرافه، وعليّ بن أبي طالب وأبيّ بن كعب وغيرهم من كبار الصّحابة ممّن تنتهي إليهم أسانيد قراءات القرّاء السّبعة وغيرهم من القراءات الّتي هي على وفاق المصحف في الرّسم، بل إجماع الصّحابة وعامّة التّابعين حاصل على ذلك، ما شذّ عنهم غير ابن مسعود.
5 -
وأمّا شأن المعوّذتين، فإنّ ابن مسعود لم يجحد أن تكونا ممّا أنزله الله، وإنّما حسب أنّهما دعاء أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن علقمة النخعيّ، عنه: أنّه كان يحكّ المعوّذتين من المصحف، ويقول: إنّما أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتعوّذ بهما، وكان عبد الله لا يقرأ بهما (1).
(1) حديث حسن. أخرجه البزّار في «مسنده» (رقم: 1586) والطّبرانيّ في «الكبير» (9/ 269) من طريق حسّان بن إبراهيم، عن الصّلت بن بهرام، عن إبراهيم، عن علقمة، به.
والسّياق المذكور للبزّار، وهو أجود من سياق الطّبرانيّ، إذ جاء نفي القراءة بهما عند الطّبرانيّ مدرجا في جملة الحديث، فأوهمت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ بهما.
قلت: وإسناده حسن، حسّان صدوق، وسائر الإسناد ثقات.
وعن أبي عبد الرّحمن السّلميّ، عنه أنّه كان يقول: لا تخلطوا بالقرآن ما ليس فيه، فإنّما هما معوّذتان تعوّذ بهما النّبيّ صلى الله عليه وسلم:(قل أعوذ بربّ الفلق) و (قل أعوذ بربّ النّاس)، وكان عبد الله يمحوها من المصحف (1).
فابن مسعود يعلم المعوّذتين، ويقرّ بكون النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالتّعوّذ بهما، لكنّه ينكر أن تكونا من القرآن، ولا ريب أنّ مثل هذا عظيم الخطر، لكنّه رضي الله عنه خفيه أن تكونا قرآنا، وغيره كان أعلم بهما وأنّهما كانتا من القرآن، بل اتّفاق الجميع، وكفى به برهانا على غلط ابن مسعود، فروايته للقرآن عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ناقصة، والفرد مهما بلغ في العلم والمعرفة؛ فإنّه يفوته الشّيء من ذلك، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
ولا يردنّ في خاطرك أن يكون ما ذكره ابن عبّاس من أنّ ابن مسعود شهد العرضة الأخيرة فعلم ما نسخ، فكان المعوّذتان ممّا نسخ، فإنّهما لو كانتا كذلك في نظر ابن مسعود لكان ذلك أقوى في حجّته على نفيهما من المصحف، ولما احتاج أن يعلّل نفيهما بكونهما دعاء أوحي إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليستا بقرآن، ثمّ إنّ المنسوخ قرآن أيضا لكنّه نسخ، وليس هكذا قول ابن
(1) حديث صالح الإسناد. أخرجه الطّبرانيّ في «الكبير» (9/ 268) من طريق عبد الحميد بن الحسن الهلاليّ، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرّحمن، به.
قلت: وإسناده صالح لا بأس به لموافقته الحديث الّذي قبله.
مسعود في المعوّذتين.
فحاصل هذا أنّ ابن مسعود لم يعلم، وغيره قد علم، ومن علم حجّة على من لم يعلم، وممّا يبطل مذهب ابن مسعود في المعوّذتين إضافة إلى مخالفته إجماع عامّة الصّحابة، أدلّة أخرى، منها:
ما ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث صراحة أنّهما قرآن، وأنّه كان يقرأ بهما في الصّلاة، كما جاء عن عقبة بن عامر الجهنيّ، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وعنه، قال: اتّبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه، فقلت: أقرئني يا رسول الله سورة هود وسورة يوسف، فقال:«لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ 1 وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 1» (2).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 144، 150، 151، 152) ومسلم (رقم: 814) والتّرمذيّ (رقم: 2904، 3364) والنّسائيّ (رقم: 954، 5440) والدّارميّ (رقم: 3316) من طريق قيس بن أبي حازم، عن عقبة به. وقال التّرمذيّ:«حديث حسن صحيح» .
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 149، 159) والنّسائيّ (رقم: 953، 5439) من طرق عن اللّيث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي عمران أسلم، عن عقبة بن عامر.
وأخرجه أحمد (4/ 155) والدّارميّ (رقم: 3314) كلاهما عن أبي عبد الرّحمن عبد الله بن يزيد المقري، حدّثنا حيوة، وابن لهيعة، قالا: سمعنا يزيد بن أبي حبيب، يقول: حدّثني أبو عمران، أنّه سمع عقبة بن عامر.
قلت: وهذان إسنادان صحيحان، وابن لهيعة إذا روى عنه أبو عبد الرّحمن المقري فهو ثبت، كيف وقد تابعه حافظان من حفّاظ المصريّين؟
وعنه، قال: كنت أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته في السّفر، فقال لي:«يا عقبة، ألا أعلّمك خير سورتين قرئتا؟» فعلّمني قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ 1 وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 1، قال: فلم يرني سررت بهما جدّا، فلمّا نزل لصلاة الصّبح صلّى بهما صلاة الصّبح للنّاس، فلمّا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصّلاة التفت إليّ فقال: «يا
عقبة، كيف رأيت؟» (1).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 149 - 150، 153) وأبو داود (رقم: 1462) والنّسائيّ (رقم: 5436) من طريق معاوية بن صالح، حدّثنا العلاء بن الحارث، عن القاسم بن عبد الرّحمن، عن عقبة.
وأخرجه أحمد (4/ 144) والنّسائيّ (رقم: 5437) من طريق الوليد بن مسلم، والطّحاويّ في «المشكل» (رقم: 125) من طريق بشر بن بكر، قالا: حدّثنا ابن جابر، عن القاسم، عن عقبة. وفي رواية بشر قول القاسم: حدّثني عقبة بن عامر.
قلت: وهذه أسانيد صحيحة إلى القاسم، وهو صدوق جيّد الحديث، وقد سمع هذا من عقبة، وابن جابر اسمه عبد الرّحمن بن يزيد بن جابر.
وهذا الحديث الّذي أوردت هاهنا بعض سياقاته حديث متواتر عن عقبة، له عنه طرق عدّة، لا يرتاب في صحّته عنه من يفهم الحديث.
وكان أبيّ بن كعب، رضي الله عنه، حدّث بموقف ابن مسعود من المعوّذتين، فردّه بما سمعوه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك:
فعن زرّ بن حبيش، قال: قلت لأبيّ بن كعب: إنّ ابن مسعود كان لا يكتب المعوّذتين في مصحفه، فقال: أشهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أنّ جبريل عليه السلام قال له: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ 1 فقلتها، فقال:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 1 فقلتها، فنحن نقول ما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم (1).
وأبيّ بن كعب أحد الّذين أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ عنهم القرآن، وكان من المقدّمين فيه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليه تنتهي بعض أسانيد
بعض القرّاء السّبعة، كنافع وابن كثير وعاصم وأبي عمرو، وهي على وفاق هذا المصحف، وفيه المعوّذتان.
(1) حديث صحيح. أخرجه الشّافعي في «السّنن» (رقم: 93) وأحمد (5/ 130) والحميديّ (رقم: 374) والبخاريّ (رقم: 4692، 4693) والطّحاويّ في «المشكل» (رقم: 119) والبيهقيّ في «الكبرى» (2/ 394) من طريق عاصم بن بهدلة، وعبدة بن أبي لبابة، سمعا زرّ بن حبيش، به.
وأخرجه عبد الرّزّاق (رقم: 6040) والشّافعيّ كذلك (رقم: 93) وأحمد (5/ 129) وابن أبي شيبة (رقم: 30193) وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (5/ 129 - 130) والطّحاويّ (رقم: 118، 120، 121) وابن حبّان (رقم: 797) من طريق عاصم، والبيهقيّ (2/ 393 - 394) من طريق عبدة، به.
كما أخرجه أحمد (5/ 129) من طريق الثّوريّ، عن الزّبير بن عديّ، عن أبي رزين، عن زرّ. قلت: وإسناده صحيح، واسم أبي رزين مسعود بن مالك الأسديّ.
كما أنّ المأثور أنّ المعوّذتين كانتا في مصحفه (1).
نعم؛ كان أبيّ ربّما قرأ ببعض المنسوخ من القرآن، وربّما كان ذلك في مصحفه (2)، إلّا أنّ المعوّذتين لم تكونا من المنسوخ، بدلالة
عدم ردّ ابن
(1) أخرج أبو عبيد في «الفضائل» (ص: 318) عن محمّد بن سيرين، قال:
كتب أبيّ في مصحفه فاتحة الكتاب، والمعوّذتين، واللهمّ إنّا نستعينك، واللهمّ إيّاك نعبد، وتركهنّ ابن مسعود، وكتب عثمان منهنّ فاتحة الكتاب والمعوّذتين.
قلت: وإسناده صحيح إلى ابن سيرين، وكذلك أخرج نحوه ابن شبّة في «تاريخه» (3/ 1009 - 1010) بإسناد آخر صحيح عنه.
والسّورتان اللّتان كانتا في مصحف أبيّ وليستا في مصاحف المسلمين من المنسوخ تلاوة، فإنّهما لو كانتا ضمن المكتوب من الوحي لكتبهما زيد ومن كان معه، ولكانتا في جملة ما أقرأه أبيّ لمن حمل عنه القراءة ممّن ترجع إليهم روايات بعض السّبعة.
(2)
مثاله ما تقدّم في التّعليق الماضي.
ويدلّ عليه حديث عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، قال: عليّ أقضانا، وأبيّ أقرؤنا، وإنّا لندع كثيرا من لحن أبيّ، وأبيّ يقول: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أدعه لشيء، والله تبارك وتعالى يقول: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [البقرة: 106]، وفي رواية: وقد نزل بعد أبيّ كتاب.
أخرجه أحمد (5/ 113) والبخاريّ (رقم: 4211، 4719) والنّسائيّ في «التّفسير» (رقم: 15) وابن أبي شيبة (رقم: 30120) وابن سعد (2/ 339) وابن شبّة (2/ 706) ويعقوب بن سفيان (1/ 481) وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (5/ 113) والحاكم (رقم: 5328) وأبو نعيم في «المعرفة» (رقم: 754) والبيهقيّ في «المدخل» (رقم: 77) و «الدّلائل» (7/ 155) وابن عساكر (7/ 325) من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: قال عمر، به.
والرّواية الأخرى لابن أبي شيبة وابن سعد وعبد الله بن أحمد بسند صحيح.