الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: حكم القراءة بالتجويد
أمر الله عز وجل بتدبّر القرآن وفهم معانيه، وحثّ نبيّه صلى الله عليه وسلم على الإكثار من تلاوته لتحقيق هذا الغرض، كما سيأتي بيان ذلك في الفصل الثّاني، وهذا الأخذ للقرآن تلاوة أو حفظا أو تدبّرا لا يتهيّأ على الوجه المأمور به لمن قرأ قراءة ملحونة مختلّة، وفاعل هذا خارج بالقرآن عن سننه.
فضبط التّلاوة سبب للتّدبّر وفهم القرآن، كما أنّه سبب للخشوع عند تلاوته وانتفاع القلب به، وكلّ هذا مأمور به مطلوب إمّا وجوبا وإمّا ندبا، فضبط التّلاوة يأخذ حكم ما كان سببا فيه.
وإذا كان اللّحن منفيّا في الأصل عن القرآن، فإضافته إليه من باب تحريف الكلم عن مواضعه.
ولأهل العلم وجوه من الاستدلال لوجوب القراءة بأحكام التّجويد والعربيّة على وفق المنقول عن القرّاء.
ومن أحسن ذلك ما ذكرته في المبحث السّابق، وهو تلقّي القراءة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الصّفة الّتي أنزل عليها القرآن، وعربيّة القرآن الّتي جاءت بأفصح ما في لسانهم وأبينه.
قال الله عز وجل: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195 [الشّعراء: 193 - 195]، فهذا القرآن مسند إلى الله تعالى بهذه الصّيغة العربيّة
الفصيحة، الّتي لم يدخلها تصرّف النّاقل، بل تلقّاها الأمين جبريل، وعنه الأمين محمّد صلى الله عليه وسلم،
وعنه الأمناء من أصحابه، وهكذا من بعدهم، يتبع اللّاحق منهم السّابق، على الصّفة الّتي أنزله الله عليها، قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 9 [الحجر: 9]، فهو محفوظ في نفسه من أن يبدّل منه شيء حتّى في النّطق بحرف منه.
فكيف إذا انضمّ إلى ذلك أنّ القراءة على تلك الصّفة لازمة بعربيّته؛ لكونه بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195؟
فقراءة القرآن بغير التّجويد أو بغير النّحو عدول به عن المسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخروج به عن عربيّته، وهذا لا يحلّ.
قال الإمام أبو محمّد البغويّ: «إنّ النّاس كما أنّهم متعبّدون باتّباع أحكام القرآن وحفظ حدوده، فهم متعبّدون بتلاوته وحفظ حروفه، على سنن خطّ المصحف الإمام الّذي اتّفقت عليه الصّحابة، وأن لا يجاوزوا فيما يوافق الخطّ عمّا قرأ به القرّاء المعروفون الّذين خلفوا الصّحابة والتّابعين واتّفقت الأمّة على اختيارهم» (1).
واستدلّ بعض أهل العلم لوجوب القراءة بالتّجويد، بقوله تعالى:
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزّمل: 4].
قال أبو جعفر النّحّاس: «والقراءة بالتّرتيل والمكث واجبة بنصّ
(1) تفسير البغويّ المسمّى ب «معالم التنزيل» (1/ 37).
القرآن (1)، والتّرتيل: التّبيين»، قال:«فمن التّبيين: تفصيل الحروف، والوقف على ما تمّ معناه منها» (2).
وثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه حثّ أن يقرأ القرآن كما أنزل، كما في الحديث الصّحيح في فضل عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ، فقال:«من أحبّ أن يقرأ القرآن غضّا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد» (3).
فهذا دليل على أنّ قراءة القرآن على وجهه إنّما هو بقراءته كما أنزل، وهو قد أنزل مرتّلا بلسان عربيّ مبين، وابن مسعود من أئمّة القراءة الّذين على قراءتهم بنيت أحكام التّجويد.
وكان ابن مسعود يقول: «أعربوا القرآن، فإنّه عربيّ» (4).
(1) يشير إلى آيتين: المذكورة، والثّانية: قوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106].
(2)
القطع والائتناف، للنّحّاس (ص: 73، 74).
(3)
حديث صحيح.
أخرجه أحمد (رقم: 35، 4255، 4340، 4341) وابن ماجة (رقم: 138) من طريق عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، عن عبد الله، به.
قلت: وإسناده جيّد، وله طرق عدّة.
(4)
أثر حسن. أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 29908) وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص: 348) من طريق سفيان الثّوريّ، عن عقبة الأسديّ، عن أبي العلاء، عن عبد الله بن مسعود، به.
قلت: وهذا إسناد صالح، عقبة وثّقه ابن حبّان (الثّقات: 7/ 245)، ورواية الثّوريّ عنه ترفع من أمره، وأبو العلاء هو ابن الشّخّير ولد في حياة الصّدّيق، وكان بالكوفة، فإدراكه وسماعه من ابن مسعود متّجه قويّ.
تابعه علقمة بن قيس عن ابن مسعود، قال:«أعربوا القرآن» .
أخرجه ابن أبي شيبة (رقم: 29904) وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف يعتبر به.
وروي مرفوعا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود، وفي إسناده كذّاب، ومن حديث أبي هريرة، وإسناده واه، فيه متروك.
وهذا لا يكون إلّا بأن تعطى الحروف حقّها ومستحقّها.
وجرى من بعض العلماء في هذا المقام الاستدلال لوجوب القراءة بالتّجويد بحديث يروى عن عبد الله بن مسعود:
أنّه كان يقرئ القرآن رجلا، فقرأ الرّجل: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ مرسلة، فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كيف أقرأكها يا أبا عبد الرّحمن؟ قال: أقرأنيها إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ فمدّها.
ذكره ابن الجزريّ في (باب المدّ) واحتجّ به، ولا يثبت إسناده (1).
(1) أخرجه الطّبرانيّ في «المعجم الكبير» (رقم: 8677) قال: حدّثنا محمّد بن عليّ الصّائغ، حدّثنا سعيد بن منصور، حدّثنا شهاب بن خراش، حدّثني موسى بن يزيد الكنديّ، قال: كان ابن مسعود، فذكره.
وأخرجه ابن الجزريّ في «النّشر» (1/ 315 - 316) من طريق الطّبرانيّ بإسناده، وفيه:(مسعود بن يزيد). وقال ابن الجزريّ: «هذا حديث جليل حجّة ونصّ في هذا الباب، رجال إسناده ثقات» .
قلت: إن كان الصّواب في اسم الرّاوي عن ابن مسعود (موسى) فإنّه لا ذكر له في الكتب، وإن كان (مسعودا) فقد جاء في «الثّقات» لابن حبّان (5/ 441):
«مسعود بن يزيد، يروي عن عمر بن الخطّاب، روى عنه محمّد بن الفضل» ، وهذا توثيق ليس بمقنع، فابن حبّان لا يعتمد على توثيقه منفردا عند أئمّة النّقد، خاصّة لمن كان من هذه الطّبقة، ولم يتابع على تعديل هذا الرّجل، هذا لو سلّمنا أنّه نفسه المذكور في حديث ابن مسعود، فهذه علّة.
وله علّة أخرى، الكنديّ هذا سمع منه شهاب بن خراش هذا الحديث، وأقدم من روى عنه شهاب من الشّيوخ بعض أصحاب أنس بن مالك من صغار التّابعين كقتادة وشبهه، فلو نزّلنا الكنديّ منزلة صغار التّابعين من أصحاب أنس في القدم جزمنا بكون روايته منقطعة؛ لأنّ ابن مسعود قديم الموت، وأمّا مظنّة الانقطاع فهي حاصلة، خاصّة مع عدم ذكره السّماع في هذه الرّواية.