الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - نظم الدّرر في تناسب الآيات والسّور
.
تأليف: الإمام برهان الدّين أبي الحسن إبراهيم بن عمر بن الحسن البقاعيّ الشّافعيّ، المتوفّى سنة (885 هـ).
نحا في تفسيره هذا طريقة مبتكرة، بناها على اعتبار المناسبة بين الآيات والسّور، فأوقف على أسرار كثيرة، ومعان جليلة، استفادها بالتّدبّر، تجري على مقتضى اللّغة وإفادة السّياق، مع مراعاة النّقل والحديث في المواضع المختلفة.
والحقّ أنّه كتاب جمّ الفائدة، كثير النّفع، غير أنّ مراعاة المناسبة
بين السّور بنيت على القول: إنّ ترتيب السّور توقيفيّ، وقد تقدّم أنّ راجح القولين أنّ ترتيب السّور دخله الاجتهاد من قبل الصّحابة، وإن كان لا يمتنع أن تكون أكثر السّور استفيد ترتيبها في المصحف كما سمعت من النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويؤخذ كذلك على مسلك اعتبار المناسبة عدم السّلامة من التّكلّف في كثير من المواضع، حتّى فيما بين الآيات في السّورة الواحدة إذا كانت السّورة تتحدّث عن أمور مختلفة، وسأنبّه على ذلك في الفصل التّالي.
نقد هذه الكتب:
هذه الكتب تعدّ من أفضل المؤلّفات الجوامع في التّفسير، ممّا يتيسّر الوقوف عليه، إضافة إلى ما تقدّم ذكره من كتب التّفسير بالمأثور، وعلى ما وصفت من حسنها وما يعرف من جلالة مؤلّفيها، إلّا أنّها قد اشتملت على
ما لا بدّ من التّنبيه عليه وأخذ الاحتياط فيه، فلها نصيب ممّا تقدّم ذكره من المآخذ على كتب التّفسير بالمأثور، وإن تفاوتت فيها قلّة وكثرة، وذلك بالاستشهاد بما لا يثبت وذكر الإسرائيليّات وإن قلّت أو ندرت في بعضها، وزادت على ذلك مأخذين:
المأخذ الأوّل: القصور في ذكر مذاهب السّلف وأقوالهم في التّفسير، مع الاعتناء بذكر أقوال غيرهم، ممّا يقع به أحيانا تفويت للمعرفة بذلك القول، وقد يكون أصوب الأقوال، بينما قول من بعدهم ربّما كان ستره خيرا من كشفه، كالأقوال الّتي تذكر في مسائل العقائد.
المأخذ الثّاني- وقد يكون نتيجة للّذي تقدّمه-: سلوك طريقة الخلف في تفسير آيات صفات الله عز وجل، ومن ينبّه منهم على طريقة
السّلف لا يقتصر عليها أو لا يختارها، كالشّأن في تفسير الاستواء على العرش، وتكليم الله لموسى، ويد الله، ووجه الله، وأفعاله تعالى كرضاه وحبّه وسخطه وانتقامه، ممّا أضافه عز وجل لنفسه، فمذهب السّلف فيها إمرارها كما جاءت دون خوض في تفسيرها، فكلّها مثبتة كما أخبر الله بها عن نفسه، على ما يليق به، دون تشبيه له بخلقه.
والمنتسبون للسّنّة في هذه القضيّة ثلاثة أصناف، كلّهم قالوا:
نثبت لله ما أثبته لنفسه، لكنّهم افترقوا في معنى الإثبات:
[1]
فصنف قالوا: لا معنى لليد والوجه والكلام إلّا ما نفهم، فاليد
والوجه عضوان في البدن معلومان، والكلام لا يكون إلّا بفم ولسان وفكّين، فتخيّل هؤلاء من هذه الصّفات لربّهم صورة هي حاصل قياس الغائب على الشّاهد، حتّى قال بعضهم: لله جسم، فشبّهه بخلقه، تعالى الله عن ذلك، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشّورى: 11].
واعلم أنّه ليس المراد بأصحاب هذا الاعتقاد طائفة اعتقدوا لله جسما كجسم الإنسان، فإنّ هذا لا يكاد يوجد فيمن ينتسب إلى الإسلام، وإنّما هو ممّا يشنّع به المخالفون على بعضهم، بل لو جزمت بنفي وجوده في الواقع في المسلمين لم تلم إن شاء الله؛ لأنّ متعلّق النّاس ظواهر النّصوص، وليس فيها ما يسوّل لنفس أن تبني لله عز وجل صورة في الأذهان.
وحين يقولون: «فلان كان مجسّما» فإن كان نعت بذلك من صاحب سنّة واتّباع، فمراده ما تقدّم ذكره من أنّ فلانا هذا أثبت لله الصّفات مع اعتقاد صورة تلك الصّفة على ما عهد في عالم الشّهادة،
وإن كان نعت بذلك من قبل الصّنف التّالي، فربّما قصد به من يعتقد مذهب السّلف، ممّن يمرّها كما جاءت دون تفسير.
ولم يزل لهذا الصّنف الّذي يجري الصّفات على الظّاهر المعلوم في عالم الشّهادة بقيّة إلى يومنا، فرأينا من يقول:(لله عينان اثنتان) ثمّ يستدلّ لذلك بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نفى عن الله العور (1)، قال: (والعور في اللّغة: ذهاب حاسّة
(1) كما في الحديث الوارد في ذكر المسيح الدّجّال، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه:«إنّه أعور، وإنّ الله ليس بأعور» أخرجه البخاريّ (رقم: 3159) ومسلم (رقم: 169).
إحدى العينين، فدلّ على أنّ لله عينين)، وهذا تجوّز ظاهر، فإنّ اللّغة إنّما عرّفت ذلك في المخلوق، وتفسير صفة الخالق بصفة المخلوق تشبيه، والله تعالى لا مثل له يقاس به.
[2]
وصنف خافوا من إثبات الظّاهر؛ لأنّهم ظنّوا بينه وبين التّشبيه تلازما، فهرعوا إلى تفسير الصّفة بشيء من لازمها، ففسّروا مثلا اليد بالنّعمة والقدرة، وقالوا: تعبير القرآن مجاز لا حقيقة، وخاضوا في ذلك خوضا عجيبا واضطربوا، وما استقرّوا فيه على قدم، وآفة ذلك دخلت عليهم من جهة ما حسبوه تشبيها بإثبات الظّاهر، ومن جهة
التّأثّر بإلزامات الطّوائف الخارجة عن السّنّة كالمعتزلة، مع أنّهم بطريقتهم لم ينفكّوا عن تلك الإلزامات على أيّ حال، ومن جهة ثالثة: ما تركوا به منهج الأئمّة الأوّلين، والّذين كانوا أعلم بالله ممّن بعدهم.
[3]
والصّنف الثّالث، طائفة قالوا: نثبت ما أثبته الله تعالى لنفسه على الوجه الّذي أراد، لا نفسّره ولا نزيد، مع اعتقاد التّنزيه عن مشابهة الخلق، وظاهر الألفاظ عندهم مراد لكن على ما يعلم الله منها،
قالوا: ولا فرق بين أن نؤمن أنّ الله تعالى حيّ سميع بصير، وأنّ له يدين، وأنّه استوى على العرش، وأنّه يحيي ويميت ويرضى ويغضب ويتكلّم، فهذه وغيرها ممّا نسبه الله لنفسه ونسبه إليه رسوله صلى الله عليه وسلم ممّا حجب الله عنّا كيف يكون.
وليس بين هذا وبين إدراك معاني هذه الألفاظ ودلالاتها في اللّسان إشكال، فنحن نجأر إلى الله بالدّعاء والتّسبيح والذّكر، ونعلم بلا ريبة أنّ
الله يرانا ويسمعنا ويعلم حالنا، وما ذلك إلّا بما نفهمه من معنى السّمع والبصر والعلم ممّا أخبرنا به عن نفسه، لكن لا ندري كيف.
وهذا الاعتقاد قد جمع بين الإثبات والتّنزيه.
وهو الحقّ من هذه المسالك، فإنّ أصحابه لم يزيدوا في تفسير النّصوص بآرائهم، وهذا هو الموافق للسّنّة، والصّنفان الأوّلان ليسا على السّنّة ولا طريق الجماعة الأولى أئمّة الإسلام: كأبي حنيفة ومالك وسفيان الثّوريّ والشّافعيّ وعبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، والحميديّ، والبخاريّ، وإخوانهم، فإنّهم أدركوا البدع في هذا الباب وردّوها بالوقوف عند الخبر، وترك مجاوزته بالنّظر، وطريقهم هو الأسلم والأعلم والأحكم.
وعليه: فأكثر المفسّرين ممّن وقعوا في التّأويل للصّفات من الأمثلة الأربعة المذكورة، ومن سواهم ممّن سلك هذا السّبيل، سلكوا منهج المتكلّمين من الأشعريّة، إذ كان هو المنهج السّائد في مدارس التّلقّي في أزمنتهم، ولم يزل إلى يومنا هذا في كثير من المدارس الإسلاميّة، ومع قصد أتباعه إلى نصر السّنّة، لكنّهم وقعوا في موافقة
المعتزلة وغيرهم من أهل البدع في كثير من الأصول، فطريقهم في هذا ليس السّنّة، ولا منهج الجماعة، وهم يقرّون بالتّفريق بين منهج السّلف ومنهج الخلف في هذا، فالله يغفر لهم، فقد قصدوا الإحسان، والله تعالى يقول: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التّوبة: 91].