الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال: "يفعل أمير المؤمنين ذلك؛ لأن أمير المؤمنين يجد عندك من حسن الإفهام إذا حَدَّثْتَ، وحسن الفهم إذا حُدِّثَتَ، ما لم يجده عند أحد ممن مضى، ولا يظن أنه يجد عند أحد مِمَّن بَقِي، فإنك لتستقصى حديثي، وتقف عند مقاطع كلامي، وتخبر بما كنت أغفلتُهُ منه".
"زهر الآداب 1: 173".
130-
أبو زهمان يعظ سعيد بن مسلم
وقال سعيد بن مسلم: كنت واليا بأرمينيِّة، فَغَبَر1 أبو زَهْمَان العَلَانيّ على بابي أياما، فلما وصل إليَّ مَثَل بين يديَّ قائما بين السِّماطَينِ2 وقال:
"والله إني لأعرف أقواما لو علموا أن سَفَّ التراب يقيم من أَوَد3 أصلابهم لجعلوه مُسْكَةً4 لازما فيهم، وإيثارًا للتنزه عن عيش رقيق الحواشي، أما والله إني لبعيد الوثبة، بطيء العَطْفة، إنه والله ما يثنيني عليك إلا مثلُ ما يَصْرِفني عنك ولأن أكون مقلًا مقرِّبا، أحب إليَّ من أن أكون مكثرًا مبعدا، والله ما نسأل عملًا لا نضبطه، ولا مألا إلا نحن أكثر منه، وهذا الأمر الذي صار إليك في يديك، كان في يد غيرك، فأمسوا والله حديثا، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فتحبَّبَ إلى عباد الله بحسن البشر، ولين الجانب، فإن حُبَّ عباد الله موصول بُحِّب الله، وبغضهم موصول ببغض الله؛ لأنهم شهداء الله على خلقه، ورقباؤه على من اعوجَّ عن سبيله".
"البيان والتبيين 2: 105".
1 مكث.
2 السماطان من الناس: الجانبان؛ يقال: مشى بين السماطين.
3 اعوجاج.
4 المسكة: ما يمسك الأبدان من الغداء والشراب أو ما يتبلغ به منهما.
131-
وصية طاهر بن الحسين
لابنه عبد لله لما ولَّاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما1 سنة 206هـ.
"بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فعليك بتقوى الله وحد لا شريك له"
1 أثبتنا هذا الكتاب هنا لأنه في عداد الوصايا.
وخشيته ومراقبته ومزايلة سخطه وحفظ رعيتك، والزَم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسئول عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله، وينجيك يوم القيامة من عذابه، وأليم عقابه، فإن الله قد أحسن إليك، وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم، والذبَّ1 عنهم، والدفع عن حريمهم وبَيْضَتِهِم2، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم3، وإدخال الراحة عليهم في معايشهم، ومؤاخِذك بما فرض عليك من ذلك، وموقِّفك عليه، ومسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت، ففرِّغ لذلك فكرك وعقلك وبصرك ورؤيتك، ولا يذْهَلك4 عنه ذاهل، ولا يشغلك5 عنه شاغل، فإنه رأس أمرك وملاك شأنك، وأول ما يوفقك الله به لرشدك، وليكن أول ما تُلْزِم به نفسك، وتنسب إليه فعالك، والمواظبة على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس قِبَلَك في مواقيتها على سننها، في إسباغ6 الوضوء لها، وافتتاح ذكر الله فيها، وتَرَتَّل7 في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، ولتصدق فيها لربك نيتك، واحضض عليه جماعة من معك وتحت يدك وادأْب عليها فإنها كما قال الله: تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ثم أتبع ذلك الأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثابرة على خلائقه، واقتفاء آثار الصالح من بعده، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة8 الله وتقواه، ولزوم ما أنزل الله في كتابه من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قم فيه بما يحق الله عليك،
1الدفع.
2 البيضة: حوزة كل شيء.
3 وفي مقدمة ابن خلدون: لسربهم؛ والسرب: النفس.
4 ذهلت عن الشيء "كفتح" غفلت وقد يتعدى بنفسه. فيقال ذهلته، والأكثر أن يتعدى بالهمزة؛ فيقال: أذهلني فلان عن الشيء.
5 شغله من باب فتح وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة.
6 أسبغ الوضوء: وفي كل عضو حقه.
7 تمهل ولا تعجل.
8 استخار الله: طلب منه الخيرة.
ولا تَمِل عند العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد، وآثر الفقه وأهله، والدين وحملته، وكتاب الله والعاملين به، فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في دين الله، والطلب له، والحثّ عليه، والمعرفة بما يتقرب به إلى الله، فإنه الدليل على الخير كله، والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها، وبها مع توفيق الله تزداد العباد معرفة بالله عز وجل، وإجلالًا له، ودَرْكًًًًا للدرجات العلا في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأَنَسَة بك، والثقة بعدلك، وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فليس شيء أبين نفعا، ولا أحضر أمنا، ولا أجمع فضلًا من القصد، والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق والتوفيق قائد إلى السعادة، وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، فآثره في دنياك كلها، ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة، والسنن المعروفة، ومعالم الرشد، فلا غاية للاستكثار من البرِّ والسعي له، إذا كان يطلب به وجه الله ومرضاته ومرافقة أوليائه في دار كرامته، واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ويحصن من الذنوب، وإنك لن تَحُُوط1 نفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فَأْتِه واهتد به تتمّ أمورك، وتزِدْ مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك، وأحسن الظن بالله عز وجل تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها، تَسْتَدِم به النعمة عليك، ولا تتهمن أحدا من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشِفَ أمره، فإن إيقاع التهم بالبُرَآء، والظنون السيئة بهم مَأْثم، واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عند سوء الظن بهم، وارفضه فيهم، يعينك ذلك على اصطناعهم2 ورياضتهم، ولا يجدنَّ عدو الله الشيطان في أمرك مَفْخَرا، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وَهَنِكَ3، فيدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لَذَاذَةَ عيشك، واعلم أنك
1تصون.
2 اصطنعتك لنفسي: اخترتك لخاصة أمر أستكفيك إياه.
3 الوهن بسكون الهاء وفتحها، والضعف.
تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتُكْفَى به ما أحببتَ كفايتَه من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك، والاستقامة في الأمور كلها لك، ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء، والحِيْاطَة للرعيَّة، والنظر في حوائجهم وحمل مئوناتهم، آثَرَ عندك مما سوى ذلك، فإنه أقوم للدين، وأحيا للسنة، وأخلص نيتك في جميع هذا، وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع، ومجزيّ بما أحسن، ومأخوذ بما أساء، فإن الله جعل الدين حرزا وعزا، ورفع من اتبعه وعززه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى، وأقمْ حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه، ولا تعطِّل ذلك ولا تَهَاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تفريطك في ذلك لما يفسد عليك حسن ظنك، واعزِم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب الشُّبَه والبدعات، يَسْلَم لك دينك، وتقم لك مروءتك، وإذا عاهدت عهدا فَفِ به، وإذا وعدت الخير فأَنْجزه، واقبل الحسنة وادفع بها، وأغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وأَبْغِضْ أهله، وأَقْصِ أهل النميمة، فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها تقريب الكذوب والجرأة على الكذب؛ لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها، لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر، وأحبَّ أهل الصدق والصلاح وأعِزَّ الأشراف بالحق، وواصل الضعفاء، وصل الرحم، وابتغ بذلك وجه الله وعزة أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة، واجتنب سوء الأهواء والجَوْر، واصرف عنهما رأيك وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك، وأنعم بالعدل في سياستهم، وقم بالحق فيهم، وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى، وامْلِك نفسك عند الغضب، وآثِر
والوقار والحلم، وإياك والحدة والطيش والغرور فيما أنت بسبيله، وإياك أن تقول: إني مُسَلَّطٌ أفعل ما شاء، فإن ذلك سريع بك إلى نقص الرأي، وقلة اليقين بالله وحده لا شريك له، وأخلص الله النية فيه واليقين به، واعلم أن الملك لله، يعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد، وأسرع منه إلى حَمَلَةِ النعمة من أصحاب السلطان، والمبسوط لهم في الدولة، إذا كفروا بنعم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله من فضله، ودع عنك شره نفسك، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدَّخر وتكنز البرَّ والتقوى والمعِدَلة، واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم، والتفقُّد لأمورهم والحفظ لِدَهْمَائِهم1 والإغاثة لملهوفهم، واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن لا تُثْمِر، إذا كانت في إصلاح الرعية وإعطاء حقوقهم، وكف المئونة عنهم، نمت وربت وصلحت به العامة، وتزينت به الولاة، وطاب به الزمان، واعتقد فيه العزة والمنعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفِّر منهُ على أولياء أمير المؤمنين قِبَلك حقوقهم، وأَوْفِ رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك، وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر، وكان الجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أساس لطاعتهم، وأطيب نفسا لكل ما أردت، فاجْهَد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب، ولتعظم حِسْبتك فيه فإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل حقه، واعرف للشاكرين شكرهم وأثِبْهم عليه، وإياك أن تُنْسِيك الدنيا وغرورها هَوْل الآخرة، فتتهاون بما يحق عليك، فإن التهاون يوجب التفريط، والتفريط يورث البَوَار، وليكن عملك لله وفيه تبارك وتعالى وارج الثواب، فإن الله قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا، وأظهر لديك فضله، فاعتصم بالشكر وعليه فاعتمد، يَزِدْك الله خيرًا وإحسانا، فإن الله يثبت بقدر شكر الشاكرين،
1الدهماء: جماعة الناس "وفي المقدمة: والحفظ لدمائهم".
وسيرة المحسنين، وقضى الحقَّ فيما حمل من النعم، وألبس من العافية والكرامة، ولا تحقرنَّ ذنبا، ولا تمالئَنَّ حاسدا، ولا ترحمنَّ فاجرا، ولا تصلَنَّ كفورا، ولا تداهِنَنَّ عدوا، ولا تصدقَنَّ نمَّاما، ولا تأمننَّ غدَّارا، ولا توالينَّ فاسقا، ولا تتبعنَّ غاويا، ولا تحمدنَّ مرائيا، ولا تحقرنَّ إنسانا، ولا تردنَّ سائلًا فقيرا، ولا تجيبنَّ1 باطلا، ولا تلاحظنَّ مضحكا، ولا تخلفنَّ وعدا، ولا تزهونَّ فخرا، ولا تظهرنَّ غضبا، ولا تأتينَّ بَذَخا2، ولا تمشينَّ مرحا، ولا تركبنَّ سفهًا3، ولا تفرِّطنَّ في طلب الآخرة، ولا ترفع للنمام عينا، ولا تُغْمِضَنَّ عن الظالم رهبة منه أو مخافة، ولا تطلبنَّ ثواب الآخرة بالدنيا، وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب، وذوي العقل والرأي والحكمة، ولا تُدْخِلَنَّ في مشورتك أهل الدقة4، والبخل، ولا تسمعنَّ لهم قولا، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت في أمر رعيتك من الشُّح، واعلم أنك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ قليل العطيَّة، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا، فإن رعيتك إنما تعتقد على محبتك، بالكفِّ عن أموالهم وترك الجور عنهم، ويدوم صفاء أوليائك لك، بالإفضال عليهم وحسن العطيَّة لهم، فاجتنب الشُّح، واعلم أنه أول ما عصى به الإنسان ربه، وأن العاصي بمنزلةِ خزيٍ، وهو قول الله عز وجل:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، فسِّهل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظا ونصيبا، وأيقنْ أن الجود من أفضل أعمال العباد، فأعْدِدْه لنفسك خلقا، وارضَ به عملًا ومذهبا، وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسِّع عليهم في معايشهم؛ ليذهب بذلك الله فاقتهم، ويقوِّم لك أمرهم، ويزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا، وحسب ذي سلطان
1 وفي المقدمة: "ولا تحسنن باطلا".
2 البذخ: الكبر.
3 وفي المقدمة: "ولا تزكين سفيها".
4 وفي المقدمة: "أهل الرأفة".
من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمة في عدله، وحِيَطته1 وإنصافه، وعنايته وشفقته، وبره وتوسعته، فزايل مكروه أحد البابين باستشعار تكملة الباب الآخر، ولزوم العمل به، تلقَ إن شاء الله نجاحًا وصلاحًا وفلاحا، واعلم أن القضاء من الله بالمكان الذي ليس به شيء من الأمور؛ لأنه ميزان الله الذي يعتدل عليه الأحوال في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدَّي حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع، وعلى مجاريها يتنجَّز الحق والعدل في القضاء، واشتد في أمر الله، وتورع عن النَّطَف2، وامض لإقامة الحدود وأَقْلِل العجلة، وابعد من الضجر والقلق، واقنع بالقسم، ولتسكن ريحك، ويقر جدك وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدد3 في منطقك، وأنصف الخصم، وقف عند الشُّبة، وأبلغ في الحجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا محاماة4 ولا لوم لائم، وتثبت وتأنَّ وراقب، وانظر وتدبر، وتفكر واعتبر، وتواضع لربك وارأَف5 بجميع الرعية، وسلِّط الحق على نفسك، ولا تُسرعنَّ إلى سفك دم "فإن الدماء من الله بمكان عظيم" انتهاكا لها بغير حقها، وانظر هذا الخراج الذي قد استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزا ورفعة، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوه عدوهم كَبْتًا6، وغيظا، ولأهل الكفر من مُعاديهم ذلًا وَصَغارا، فوزَّعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعنَّ منه شيئا عن شريف لشرفه، ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا أحد من خاصتك، ولا تأخذنَّ منه فوق الاحتمال له، ولا تكَلَّفَنَّ أمرًا فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مرِّ الحق، فإن ذلك أجمع لألفتهم،
1 في المقدمة: "وعطيته".
2 النطف: العيب والشر والفساد.
3 سد يسد كضرب: صار سديدا.
4 في المقدمة: "ولا محاملة".
5 من باب كرم وقطع وطرب.
6 كبته: صرعه وأخزاه؛ ورد العدو بغيظه وأذله.
وألزم لرضا العامة، واعلم أنك جُعِلَت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا، وإنما سمي أهل عملك رعيتك؛ لأنك راعيهم وقيِّمهم، تأخذ منها ما أعطَوك من عفوهم ومقدرتهم وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أوَدهم، فاستعمل عليهم في كُور عملك ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل، والعلم بالسياسة والعفاف، ووسِّع عليهم في الرزق، فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلَّدت وأسند إليك، ولا يشغلَنَّك عنه شاغل، ولا يصرفَنَّك عنه صارف، فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب، واستدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة في عملك، واحترزت النَّصْحَة من رعيتك، وأُعْنِتَ على الصلاح، فدَّرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخِصْب في كُورك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مَرْضِيّ العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل وقوة وآله وعُدَّة، فنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئًا، تحمد مغبَّة أمرك إن شاء الله، واجعل في كل كُورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عملك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معَاين لأمره كله، وإن أردت أن تأمره بأمر، فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع فأَمْضِه، وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البَصَر والعلم، ثم خذ فيه عُدته، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أمره قد واتاه على ما يهوى فقوَّاه1 ذلك وأعجبه، وإن لم ينظر في عواقبه أهلكه نقض عليه أمره، فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشِره بعد عون الله بالقوة، وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك، وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أمورًا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت، واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، فإذا أخرت عمله
1 في المقدمة: "وقد أتاه على ما يهوى فأغواه ذلك".
اجتمع عليك أمر يومين، فشغلك ذلك حتى تُعْرِض عنه، فإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك، وانظر أحرار الناس وذوي الشرف منهم، ثم استيقن صفاء طَوِيتهم، وتهذيب مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالطة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم، وتعاهد أهل البيوتات ممن دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مَئُونتهم، وأصلح حالهم، حتى لا يجدوا لخلتهم1 مسًّا، وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فاسأل عنه أحفى مسألة، ووكلّ بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك؛ لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم، وتعاهد ذوي البأساء وأيتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقًا من بيت المال، اقتداء بأمير المؤمنين -أعزه الله- في العطف عليهم والصلة لهم؛ ليصلح الله بذلك عيشهم، ويرزقك به بركة وزيادة، وأَجْر للأضِرَّاء من بيت المال، وقدِّم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية2 على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورًا تؤْويهم، وقوَّاما يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفْهم بشهواتهم، ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال، واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيِّهم؛ لم يرضهم ذلك، ولم تطلب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم، طمعًا في نيل الزيادة وفضل الرفق منهم، وربما بَرِم3 المتصفح لأمور الناس، لكثرة ما يرد عليه، ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به مؤنة ومشقة، وليس من يرغب في العدل، ويعرف محاسن أموره في العاجل، وفضل ثواب الآجل، كالذي يستقبل ما يقرِّبه إلى الله، ويلتمس رحمته به وأكثر الإذن للناس عليك، وأبرز لهم وجهك، وسكن لهم أحراسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك ولِنْْْ لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر غير مكدِّر ولا منَّان
1 الخلة: الحاجة.
2 في المقدمة: "في الجرائد".
3 ضجر ومل.
فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله، واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومَن مضى من قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية والأمم البائدة، ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته، والعمل بشريعته وسنته، وإقامة دينه وكتابه، واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله، واعرف ما تجمع عمَّالك من الأموال، وما ينفقون منها، ولا تجمع حراما، ولا تنفق إسرافا، وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها، وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك، مَن إذا رأى عيبًا فيك لم يمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك، ومظاهريك لك، وانظر عمَّالك الذين بحضرتك وكتَّابك، فوقِّت لكل رجل منهم في كل يوم وقتًا يدخل عليك فيه بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمَّالك، وأمر كُورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهملك وعقلك، وكرر النظر إليه التدبير له، فما كان موافقا للحزم والحق فَأَمْضه، واستخِر الله فيه، وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه، ولا تمنُن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تأتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعَن المعروف إلا على ذلك وتفهَّم كتابي إليك، وأكثر النظر في العمل به، واستعن بالله على جميع أمورك، واستخره فإن الله مع الصلاح وأهله، وليكن أعظم سيرتك وأفضل رعيتك، ما كان لله رضا، ولدينه نظاما، ولأهله عزًّا وتمكينا، وللذمة والملة عدلًا وصلاحا، وأنا أسأل الله أن يصلح عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك، وأن ينزل عليك فضله ورحمته بتمام فضله عليك وكرامته لك، حتى يجعلك أفضل أمثالك نصيبًا، وأوفرهم حظًّا، وأسناهم ذكرًا وأمرًا، وأن يُهْلك عدوك ومن ناوأك وبَغَى عليك، ويرزقك من