الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمر له بجائزة حسنة، وخرج الناس يتعجبون من حسن منطقه، وبراعة أدبه وكفّ فيما بعدُ ذوو الحاجات عن مقابلته بها شِفَاهًا في مجلسه.
"نفح الطيب 2: 68".
3-
عبد الرحمن الداخل ورجل من جنده يهنئه بفتح سرقسطة
ولما فتح عبد الرحمن الداخل سَرَقُسْطَة1، وحصل في يده ثائِرُها الحسين الأنصاري، وانتهى نصره فيها إلى غاية أمله، وأقبل خوَّاصُه يهنئونه، فجرى بينهم أحد من لا يُؤْبَه به من الجند، فهنَّأَه بصوت عالٍ، فقال له عبد الرحمن:
"والله لولا أن هذا اليوم يوم أَسْبَغَ عليَّ فيه النعمة من هو فوقي، فأوجب عليَّ ذلك أن أُنعم فيه على من هو دوني، لأصْلَيْتك ما تعرَّضت له من سوء النَّكال، مَنْ تكون؟ حتى تقبل مهنئًا رافعًا صوتك، غير متلجلج ولا مهيب لمكان الإمارة، ولا عارف بقيمتها، حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك! وإن جهلك ليحملك على العَوْد لمثلها، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة".
فقال: "ولعل فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفعَ لي متى أتيت بمثل هذه الزَّلة، لا أعدمنيه الله تعالى".
فتهلل وجه الأمير، وقال: ليس هذا باعتذار جاهل، ثم قال: نبِّهونا على أنفسكم إذا لم تجدوا من ينبهنا عليها، ورفع مرتبته وزاد في عطائه.
"نفح الطيب 2: 70".
1 مدينة على نهر إبره.
4-
تأديب عبد الرحمن الأوسط لابنه المنذر:
كان المنذر ابن الأمير عبد الرحمن الأوسط1 سيئ الخلق في أول أمره، كثير الإصغاء إلى أقوال الوشاة، مُفْرِط القَلَق مما يقال في جانبه، معاقبًا على ذلك من يقدر على معاقبته،
1 هو عبد الرحمن الأوسط -الثاني- ابن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، حكم الأندلس من سنة 206 إلى سنة 238هـ.
مكثر التشكي ممن لا يقدر عليه لوالده الأمير عبد الرحمن، فطال ذلك على الأمير، فأمر ثِقَةً من ثقاته أن يبني بجبل منقطع عن العمران بناء يُسْكِن فيه ابنه، وألا يدع أحدًا من أصحابه يزوره، فلما استقر المنذر في ذلك المكان، وبقي وحده، ونظر إلى ما سُلِبَه من الملك، ضَجِر وقال للثقة: عسى أن يصلني غِلماني وأصحابي آنَسُ بهم! فقال له: إن الأمير أمر ألا يصلك أحد، وأن تبقى وحدك، لتستريح مما يرفع لك أصحابك من الوشاية، فعلم أن الأمير قصد بذلك محْنَته وتأديبه، فكتب إليه يشكو استيحاشه1 بمكانه، فلما وقف الأمير على رقعته، وعلم أن الأدب بلغ به حَقَّه استدعاه، فقال له:
"وصلت رقعتك، تشكو ما أصابك من توحُّش الانفراد، في الموضع، وترغب أن تأْنَسَ بخَوَلك2 وعبيدك وأصحابك، وإن كان لك ذنب يترتب عليه أن تطول سكنك في ذلك المكان، وما فعلت ذلك عقابًا لك، وإنما رأيناك تُكثر الضَجَر والتشكِّي من القال والقِيل، فأردنا راحتك بأن نَحْجُب عنك سماع كلام من يرفع لك ويَنِمُّ، حتى تستريح منهم".
فقال له: "سماع ما كنت أضجَرُ منه، وأخفُّ عليَّ من التوحُّد والتوحُّش، والتخلِّي مما أنا فيه من الرفاهية والأمر والنهي".
فقال له: "فَإِذْ قد عرفت وتأدَّبت، فارجع إلى ما اعتدته، وعَوِّل على أن تسمع كأنك لم تسمع، وترى كأنك لم تر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تكاشفتم ما تدافنتم"، واعلم أنك أقرب الناس إليَّ، وأحبهم فيَّ، وبعد هذا فما يخلو صدرك في وقت من الأوقات عن إنكارٍ عليّ، وسُخْط لما أفعله في جانبك، أو جانب غيرك،
1 ونص الكتاب: "إني قد توحشت في هذا الموضع توحشًا ما عليه من مزيد، وعدمت فيه من كنت آنس إليه، وأصبحت مسلوب العز، فقيد الأمر والنهي، فإن كان ذلك عقابًا لذنب كبير ارتكبته، وعلمه مولاي ولم أعلمه، فإني صابر على تأديبه، ضارع إليه في عفوه وصفحه.
وإن أمير المؤمنين وفعله
…
لكالدهر، لا عار بما فعل الدهر
2 الخول: مثل الخدم والحشم وزنا ومعنى.