الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني في خطبة ووصايا مجهول عصرها أو قائلها
خطبة أبي بكر بن عبد الله بالمدينة
…
الباب الثاني في خطب ووصايا مجهول عصرها أو قائلها:
1-
خطبة أبي بكر بن عبد الله بالمدينة:
لما وَلِيَ أبو بكر بن عبد الله بالمدينة1 وطال مُكْثه عليها، كان يبلغه عن قوم من أهلها أنهم ينالون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسعافٌ من آخرين لهم على ذلك، فأمر أهل البيوتات ووجوه الناس في يوم جمعة أن يقربوا من المنبر، فلما فرغ من خطبة الجمعة قال:
"أيها الناس: إني قائل قولا، فمن وَعَاه وأدَّاه فعلى الله جزاؤُه، ومن لم يَعِهِ فلا
1 لا أعرف صاحب هذا الاسم واليًا على المدينة، وإنما الذي قرأته في تاريخ الطبري أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ولي المدينة من سنة 96 إلى سنة100 في خلافة سليمان بن عبد الله الملك وعمر بن عبد العزيز "انظر تاريخ الطبري، الجزء الثامن، حوادث السنين ص96 إلى 100" وذكر أيضا القلقشندي في صبح الأعشى "ج4: ص296" أن أبا بكر بن محمد هذا ولي المدينة أيام سليمان بن عبد الملك، والظاهر أنه صاحب هذه الخطبة، وإني لأستأنس في ذلك بقوله:"وطال مكثه عليها" فقد تولاها خمس سنين، وبالغرض الذي قيلت فيه الخطبة، وأنت تذكر ما كان في العهد الأموي من اتساع دائرة الاختلاف الحزبي، والنضال السياسي البعيد المدى، وربما كان "عبد الله" اسما آخر لأبيه محمد، تسمى به تواضعا، وكان ذلك من عادة السلف الصالح رضوان الله عليهم كثيرا، انظر مثلا كتاب عمر في صلح أهل إيليا "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان".
"الطبري 4: 159".
يَعْْدُ من ذمامها1 إن قَصَّرْتم عن تفضيله، فلن تَعْجِزوا عن تحصيله، فأَرْعوه أبصاركم، وأَوْعُوه أسماعكم، وأَشْعِروه2 قلوبكم، بالموعظة حياة، والمؤمنون إخوة {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ 3 السَّبِيلِ} ، {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فأتوا الهدى تهتدوا، واجتنبوا الغيّ ترشدوا، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، والله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، أمركم بالجماعة، ورضيها لكم، ونهاكم عن الفرقة، وسخطها منكم، فـ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ 4 وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا 5 حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} ، جعلنا الله وإياكم ممن تبع رضوانه، وتجنب سخطه، فإنما نحن به وله.
وإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالدين، واختاره على العالمين، واختار له أصحابه على الحق، ووُزراء دون الخلق اختصهم به، وانتخبهم له، فصدَّقوه ونَصَرُوه، وعزَّروه6 ووقَّروه، فلم يقدموا إلا بأمره، ولم يُحْجِمُوا إلا عن رأيه، وكانوا أعوانه بعهده، وخلفاءه من بعده، فوصفهم فأحسن صفتهم، وذكرهم فأثنى عليهم، فقال، وقوله الحق: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً، سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ 7، كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ
1 أي فلا يخرج عن حرمتها، وتأنيث الضمير في "ذمامها" باعتبار الموعظة أو المقولة.
2 أي الزقوة به.
3 القصد: استقامة الطريق، أي بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق.
4 التقاة: التقوى، وجمعها تقي كرطبة ورطب، وأصلها وقيه قلبت واوها المضمومة تاء كما في تؤدة وتخمة، والياء ألفا.
5 الشفا: حرف كل شيء.
6 التقرير: التفخيم والتعظيم "وهو أيضًا أشد الضرب. ضد".
7 أي ذلك مثلهم في الكتاب، والشط: فراخ الزرع، فآزره أي فقواه، فاستوى على سوقه: أي فاستقام على أصواله وسيقانه.
فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ، فمن غاظه كفر وخاب، وفَجَر وخَسِرَ، وقال الله عز وجل:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ 1 وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فمن خالف شريطة الله عليه لهم، وأمره إياه فيهم، فلا حق له في الفيء ولا سهم له في الإسلام، في آيٍ كثيرة من القرآن؟
فمَرَقت مارقة من الدين، وفارقوا المسلمين، وجعلوهم عِضِين2، وتشعَّبوا أحزابا، أُشَابَاتٍ وأُوْشَابًا3، فخالفوا كتاب الله فيهم، وثناءه عليهم، وآذَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فخابوا وخَسِروا الدنيا والآخرة {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} مالي أرى عيونا خُزْرًا4، ورقابا صُعْرًا5، وبطونا بُجْرًا6 شَجًا لا يسيغه الماء7، وداء لا يشرب فيه الدواء {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} كلا والله، بل هو الهناء8 والطِّلاء، حتى يظهر العُذر، ويبُوح السِّمرُّ، ويَضحَ الغيب،
1 يؤثرون: يفضلون ويقدمون والخصاصة: الحاجة والفقر.
2 جمع غصة كعدة: وهي الفرقة والقطعة.
3 أشابات جمع أشابة: وهي الأخلاط، وأشبه كضربه: خلطه، والأوشاب جمع وشب كحمل، والأوباش جمع وبش كسبب: الأخلاط والسفلة.
4 جمع خزراء مؤنث أخزر وصف من الخزر بالتحريك، وهو النظر في أحد الشقين.
5 الصعر بالتحريك: ميل في الوجه، أو في أحد الشقين، أو داء في البعير يلوي عنقه منه، صعر كفرح فهو أصعر.
6 بجر بطنه كفرح أيضًا فهو أبجر: عظم، والجمع بجر كحمر.
7 الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه، لا يسيغه: أي لا يجعله سائغًا سهل المدخل في الحلق.
8 الهناء: القطران، ويريد أنه يعالجهم كما تطلى الإبل الجربى بالقطران لمداواتها.
ويسَوَّس الجُنُب1، فإنكم لم تُخْلَقُوا عبثًا، ولم تتركوا سدىً، ويحكم! إني لست أتاوِيُّا2 أُعَلَّم، ولا بدويا أُفَهَّم، قد حلبتكم أَشْطُرًا3، قلَّبتكم أبطُنًا وأظهرا، فعرفت أنحاءكم وأهواءكم، وعلمت أن قوما أظهروا الإسلام بألسنتهم، وأسرُّوا الكفر في قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض، ووَلَّدُوا الروايات فيهم، وضربوا الأمثال، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أنبائهم أعوانا يأذنون لهم4، ويُصْغُون إليهم مهلًا مهلًا قبل وقوع القَوَارِع5، وطول الروائع، هذا لهذا ومع هذا6، فلست أعتنش7 آئبًا ولا تائبًا، {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} ، فأسِرُّوا خيرا وأظهروه، واجهروا به وأخلصوه، فطالما مَشَيْتُم القَهْقَري ناكصين، وليعلم من أدبر وأصَرَّ أنها موعظة بين يدي نقمة، ولست أدعوكم إلى أهواء تتَّبَع، ولا إلى رأي يبتَدَع، إنما أدعوكم إلى الطريقة المُثْلى، التي فيها خير الآخرة والأولى، فمن أجاب فإلى رشده، ومن عمي فعن قصده، فهلمَّ إلى الشرائع الجَدَائِع8، ولا تُوَلُّوا عن سبيل المؤمنين، ولا تستبدلوا
1 باح السر: ظهر، وباح بسره: أظهره ووضح يضح واتضح واحد، ويسوس: أي يروض ويذلل: مضعف ساسه يسوسه. يقال: سوست له أمرا إذا روضته وذللته، والجنب: الصعب الذي لا ينقاد.
2 الأتاوى: الغريب عن القوم.
3 اقتبسه من المثل المشهور: "حلب الدهر أشطره" والناقة شطران، قادمان وآخران، فكل خلفين شطر بفتح الشين -والخلف للناقة كالضرع البقرة- وأشطره منصوب على البدل، فكأنه قال: حلب أشطر الدهر، والمعنى: اختبر الدهر وعرف خيره وشره.
4 أذن له وإليه كفرح: استمع.
5 القوارع جمع قارعة: وهي الداهية الفاجئة، والروائع جمع رائعة، وهي المفزعة.
6 أي هذا الذي أتهددكم به من القوارع والروائع، لهذا الذي تخوضون فيه، ومقرون به.
7 اعتنشه: ظلمه.
8 الذي في كتب اللغة: "جداع كسحاب وقطام: السنة الشديدة تجدع بالمال وتذهب به" وهذه الكلمة هي التي يسوغ أن تجمع على جدائع، ولكنها لا تناسب المقام هنا، فلعل الأصل "الجوادع" جمع جادعة: وهي المقاطعة، يريد الشرائع الصحيحة الحقة لأنها تقطع الباطل وتزهقه كأنه يقول: اتبعوا الخطة الحاسمة، أو الجدائع جمع جدوع كعجوز صيغة مبالغة من جادعة، وفي التعليق على نهاية الأرب "ولعله الجوامع: أي التي تجمع الناس على اتباعها، كما يدل عليه ما بعده".