الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملك الدنيا بحَذَافيرها، فسخَّر له الإنس والجن والشياطين والطير والوحوش والبهائم، وسخَّر له الريح تجري بأمره رخاءً1 حيث أصاب، ورفع عنه حساب ذلك أجمع، فقال عزَّ من قائل:{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ 2 أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، فما عدَّ ذلك نعمة كما عدَدْتموها، ولا حسبها كرامة كما حسبتموها، بل خاف أن يكون استدراجًا من الله عز وجل فقال:{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} 3، فافتح الباب، وسَهِّل الحجاب، وانصر المظلوم.
"نفح الطيب 1: 363".0
1 الرخاء: الريح اللينة.
2 أي فأعط منه من شئت.
3 بلاه: اختبره.
14-
خطبة ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين:
"المتوفى سنة 534هـ"
استدعى محمد بن عبد الله بن تُومَرْت1 مؤسس دولة الموحدين أصحابه، قبل موته بأيام يسيرة، وقد أراد أن يستخلف عليهم عبد المؤمن بن عليّ، فلما حضروا بين يديه قام:
1 هو محمد بن عبد الله بن تومرت من جبل السوس في أقصى بلاد المغرب، ولد سنة 485هـ، ورحل إلى المشرق سنة 501 في طلب العلم، وانتهى إلى بغداد، وقيل إنه لقي أبا حامد الغزالي، ثم رجع إلى المغرب، وقامت دعوته في أول الأمر في صورة آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، فاتبعه بعض القوم، وخرج هو وأصحابه إلى السوس، وشرع في التدريس والدعاء إلى الخير: وما زال يستميل القلوب حتى كثرت شيعته، ثم جعل يذكر المهدي ويشوق إليه، وجمع الأحاديث التي جاءت فيه، فلما قرر في نفوسهم فضيلة المهدي، ادعى ذلك لنفسه، وتسمى بالمهدي، ورفع نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وادعى أنه من نسل الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وصرح بدعوى العصمة لنفسه وأنه المهدي المعصوم، وروي في ذلك أحاديث كثيرة حتى استقر عندهم أنه المهدي، فبايعوه على ذلك، ولما كانت سنة 517هـ جهز جيشًا عظيمًا -وكانت مراكش تحت إمرة المرابطين- فقال: "اقصدوا هؤلاء المارقين المبدلين الذين تسموا بالمرابطين، فادعوهم إلى إماتة المنكر، وإحياء المعروف، وإزالة البدع، والإقرار بالإمام المهدي المعصوم، فإن أجابوكم فهم إخوانكم، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وإن لم يفعلوا فقاتلوهم فقد أباحت لكم السنة قتالهم، وأمَّر على الجيش عبد المؤمن بن علي، فخرجوا إلى مراكش فلقيهم المرابطون قريبًا منها بجيش ضخم أميرهم الزبير بن علي بن يوسف بن تاشفين، فدعوهم إلى ما أمرهم به بن تومرت فردوا عليهم أسوأ رد، ثم التقت الفئتان، فانهزم أصحاب ابن تومرت وقتل منهم خلق كثير، فلما رجع القوم إلى ابن تومرت جعل يهون عليهم أمر الهزيمة، ويقرر في نفوسهم أن قتلاهم شهداء، لأنهم ذابُّون عن دين الله، فزادهم ذلك بصيرة في أمرهم، وحرصًا على لقاء عدوهم، وجعلوا يشنون الغارات على نواحي مراكش ويقتلون ويسبون ولا يبقون على أحد ممن قدروا عليه، وكثر الداخلون في طاعتهم، ولم يزل أصحابه ظاهرين، وأحوال المرابطين تختل، وانتقاض دولتهم يتزايد، إلى أن توفي ابن تومرت سنة 534هـ بعد أن أسس الأمور، وأحكم التدبير، وقام بأمر الموحدين من بعده عبد المؤمن بن علي، وقد استوثق له الأمر بموت علي بن يوسف بن تاشفين ملك المرابطين سنة537هـ.
فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهْلُه، وصلَّى على محمد نبيه صلى الله عليه وسلم ثم أنشأ يترضَّي عن الخلفاء الراشدين، ورضوان الله عليهم، ويذكر ما كانوا عليه من الثبات في دينهم، والعزيمة في أمرهم، وأن أحدهم كان لا تأخذُه في الله لومةُ لائم، وذكر من حدِّ عمر رضي الله عنه ابْنَهُ في الخمر، وتصميمه على الحق، في أشباه لهذه الفصول، ثم قال:
فانقرضَت هذه العصابة، نضَّر الله وجوهها، وشكر لها سعيها، وجزاها خيرًا عن أمة نبيِّهَا، وخبَطَتِ الناس فتنة تركت الحليم حَيْرَان، والعالم متجاهلا مُدَاهِنًا، فلم ينتفع العلماء بعلمهم، بل قَصَدُوا به الملوك، واجتلبوا به الدنيا، وأمالوا وجوه الناس إليهم، وفي أشباه لهذا القول، إلى هلمَّ جرًا.
ثم إن الله سبحانه -له الحمد- منَّ عليكم -أيتها الطائفة- بتأييده، وخصَّكم من بين أهل هذا العصر بحقيقة توحيده، وقيَّض1 لكم مِنْ2 ألفاكم ضُلَّالًا لا تهتدون، وعميًا لا تبصرون، ولا تعرِفون معروفًا، ولا تنكرون منكرًا، وقد فشت فيكم البِدَع، واسْتَهْوَتْكُم الأباطيل، وزيَّن لكم الشيطان أضاليل وتُرَّهَات3، أنَزِّه لساني عن النطق بها، وأَرْبَا4 بلفظي عن ذكرها، فهداكم الله به بعد الضلالة، وبصَّركم بعد العَمَى، وجمعكم بعد الفُرْقة، وأعزكم بعد الذلة، ورفع عنكم سلطان هؤلاء المارقين5، وسيُورثكم أرضَهم وديارهم، ذلك بما كَسَبَته أيديهم، وأضْمَرَتْه قلوبهم، وما ربُّك بظلام للعبيد.
1 أتاح لكم وسبب وهيأ.
2 يعنى نفسه.
3 جمع ترهة: وهي الباطل.
4 ارتفع.
5 يريد المرابطين.
فجدِّدُوا الله سبحانه خالص نيَّاتكم، وأرُوه من الشكر قولا وفعلا ما يزكِّى به سعيكم، ويتقبَّل أعمالكم، وينشر أمركم، واحذروا الفُرْقة، واختلاف الكلمة، وشتات الآراء، وكونوا يدًا واحدةً على عدوكم، فإنكم إن فعلتم ذلك، هابكم الناس، وأسرعوا إلى طاعتكم، وكثر أتباعكم، وأظهر الله الحق على أيديكم، وإلا تفعلوا شَمِلَكم الذل، وعمَّكم الصَّغار1 واحتقرتكم العامة، فتخَطَّفَكُم الخاصة، وعليكم في جميع أموركم بمزج الرأْفة بالغِلْظَة، واللين بالعنف، واعلموا مع هذا أنه لا يصلح أمر آخر هذه الأمة، إلا على الذي صَلَُح عليه أمر أولها".
وقد اخترنا لكم رجلًا منكم، وجعلناه أميرًا عليكم، هذا بعد أن بلَوْناه2 في جميع أحواله، من ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه، واختبرنا سريرته وعلانيته، فرأيناه في ذلك كله ثبتا3 في دينه، متبصرًا في أمره، وإني لأرجو أن لا يُخْلِف الظن فيه، وهذا المشار إليه هو:"عبد المؤمن"، فاسمعوا له وأطيعوا ما دام سامعًا مطيعًا لربه، فان بدَّل أو نكص على عقبه، أو ارتاب في أمره، ففي الموحِّدين -أعزهم الله- بركة وخير كثير، والأمر أمر الله يقلِّده من شاء من عباده".
فبايع القوم عبد المؤمن، ودعا لهم ابن تومرت.
"المعجب، في تاريخ أخبار المغرب ص108".
1 الذل.
2 اختبرناه.
3 أي ثابتًا.