الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
46-
مقام الأوزاعي بين يدي المنصور:
قال الأوزاعي1: دخلت على المنصور، فقال لي: ما الذي بطأ بك عني؟ قلت: يا أمير المؤمنين، وما الذي تريد مني؟ فقال: الاقتباس منك، قلت: انظر ما تقول، فإن "مكحولًا2" حدثني عن عطية بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من بلغه عن الله نصيحة في دينه، فهي رحمة من الله سيقت إليه، فإن قبلها من الله بشكر، وإلا كانت حجة من الله عليه، ليزداد إثمًا، وليزداد عليه غضبًا، وإن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا، وإن سخط له السخط، ومن كرهه فقد كره الله؛ لأن الله هو الحق المبين" فلا تجهلن، قال: وكيف أجهل؟ قال: تسمع ولا تعمل بما تسمع، قال الأوزاعي: فسل على الربيع السيف، وقال: تقول لأمير المؤمنين هذا؟ فانتهره المنصور وقال: أمسك، ثم كلمة الأوزاعي، وكان في كلامه أن قال:
"إنك قد أصبحت من هذه الخلافة بالذي أصبحت به، والله سائلك عن صغيرها وكبيرها، وفتيلها ونقيرها3، ولقد حدثني عروة بن رويم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من راع يبيت غاشًّا لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة" فحقيق على الوالي أن يكون لرعيته ناظرًا، ولما استطاع من عوراتهم ساترًا، وبالقسط
1هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، إمام أهل الشأم، ولم يكن بها أعلم منه. ولد ببعلبك سنة 588، وتوفي سنة 157 ببيروت. والأوزاعي: نسبة إلى أوزاع، وهي بطن من ذي الكلاع من اليمن، وقيل. بطن من همدان، وقيل الأوزاع: قرية بدمشق، ولم يكن عبد الرحمن منهم، وإنما نزل فيهم: فنسب إليهم، وهو من سبي اليمن.
2 هو مكحول بن عبد الله الشامي، معلم الأوزاعي، وكان من سبي كابل، وقع إلى سعيد بن العاص، فوهبه لامرأة من هذيل فأعتقته، قال الزهري: العلماء أربعة: سعيد بن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام، ولم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا، وسمع أنس بن مالك وغيره، وكان مقامه بدمشق، وتوفي سنة 118هـ.
3 الفتيل: السحاة التي في شق النوة، والنقير: النقرة التي في ظهر النوة.
فيما بينهم قائمًا، لا يتخوف محسنهم منه رهقًا1، ولا مسيئهم عدوانًا، فقد كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها، ويردع عنه المنافقين، فأتاه جبريل فقال:"يا محمد، ما هذه الجريدة بيدك! اقذفها لا تملأ قلوبهم رعبًا" فكيف من سفك دماءهم، وشقق أبشارهم، وأنهب2 أموالهم؟ يا أمير المؤمنين: إن المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، دعا إلى القصاص من نفسه بخدش خدشه أعرابيًّا لم يتعمده، فهبط جبريل، فقال:"يا محمد، إن الله لم يبعثك جبارًا تكسر قرون أمتك" واعلم أن كل ما في يدك لا يعدل شربة من شراب الجنة، ولا ثمرة من ثمارها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقاب 3 قوس أحدكم من الجنة، أوقذة 4 خير له من الدنيا بأسرها" إن الدنيا تنقطع ويزول نعيمها، ولو بقي الملك لمن قبلك لم يصل إليك يا أمير المؤمنين، ولو أن ثوبًا من ثياب أهل النار علق بين السماء والأرض لآذاهم. فكيف من يتقمصه؟ ولو أن ذنوبًا5 من صديد أهل النار صب على ماء الأرض لآجنه6، فكيف بمن يتجرعه؟ ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لذاب، فكيف من سلك7 فيها، ويرد فضلها على عاتقه؟ وقد قال عمر بن الخطاب:"لا يقوم أمر الناس إلا حصيف8 العقدة، بعيد الغرة9 لا يطلع الناس من على عورة، ولا يخنق في الحلق على جرة10، ولا تأخذه في الله لومة لائم".
واعلم أن السلطان أربعة: أمير يظلف11 نفسه وعماله، فذلك له أجر المجاهد في سبيل الله، وصلاته سبعون ألف صلاة، ويد الله بالرحمة على رأسه ترفرف، وأمير رتع ورتع عماله، فذلك يحمل أثقاله وأثقالًا مع أثقاله، وأمير يظلف نفسه،
1 ظلمًا.
2 جعلها نهيًا يغار عليه.
3 القاب: ما بين المقبض والسية "وسية القوس كعدة: ما عطف من طرفيها".
4 ريش السهم.
5 الذنوب: الدلو.
6 جعله آجنًا أي متغير الطعم واللون.
7 قيد.
8 حصف الرجل ككرم: استحكم عقله فهو حصيف، وأحصف الحبل: أحكم قتله.
9 الغفلة.
10 أحنق: حقد حقدًا لا ينحل، وأحنق الصلب: لزق بالبطن، والجرة ما يفيض به البعير فيأكله ثانية، والمراد أنه لا يضمر الحقد والحنق.
11 يكف.