المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ وصية لسان الدين بن الخطيب لأولاده: - جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة - جـ ٣

[أحمد زكي صفوت]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌مقدمة

- ‌فهرس مآخذ الخطب في هذا الجزء

- ‌الباب الرابع: الخطب والوصايا

- ‌في العصر العباسي

- ‌خطبة أبي العباس السفاح

- ‌ خطبة داود بن علي:

- ‌ خطبة داود بن علي وقد أرتج على السفاح:

- ‌ خطبة أخرى للسفاح بالكوفة:

- ‌ خطبة السفاح بالشام حين قتل مروان:

- ‌ خطبة عيسى بن علي حين قتل مروان:

- ‌ خطبة داود بن علي بمكة

- ‌ خطبته بالمدينة:

- ‌ خطبته وقد بلغه أن قومًا أظهروا شكاة بني العباس

- ‌ خطبته وقد أرتج عليه:

- ‌خطبة صالح بن علي:

- ‌ خطبة سديف بن ميمون:

- ‌ خطبة أبي مسلم الخراساني:

- ‌ خالد بن صفوان وأخوال السفاح:

- ‌ خالد بن صفوان ورجل من بني عبد الدار:

- ‌ خالد بن صفوان يرثي صديقًا له:

- ‌ خالد بن صفوان يمدح رجلًا:

- ‌ كلمات بليغة لخالد بن صفوان:

- ‌عمارة بن حمزة والسفاح

- ‌خطب أبي جعفر المنصور

- ‌خطبته بمكة

- ‌ خطبته بمكة بعد بناء بغداد:

- ‌ خطبته بمدينة السلام:

- ‌ خطبته وقد أخذ عبد الله بن حسن وأهل بيته:

- ‌ خطبته حين خروج محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن:

- ‌ خطبته وقد قتل أبا مسلم الخراساني:

- ‌ خطبة أخرى:

- ‌ قوله وقد قوطع في خطبته:

- ‌ المنصور يصف خلفاء بني أمية:

- ‌ المنصور يصف عبد الرحمن الداخل:

- ‌وصايا المنصور لابنه المهدي:

- ‌ وصية له:

- ‌ خطبة النفس الزكية حين خرج على المنصور:

- ‌ وصية عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي لابنه محمد "أو إبراهيم

- ‌ قول عبد الله بن الحسن وقد قتل ابنه محمد:

- ‌ امرأة محمد بن عبد الله والمنصور:

- ‌ جعفر الصادق والمنصور:

- ‌صفح المنصور عن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب

- ‌ استعطاف أهل الشام أبا جعفر المنصور:

- ‌ استعطاف أهل الشام أبا جعفر المنصور أيضًا:

- ‌ أبو جعفر المنصور والربيع:

- ‌ مقام عمرو بن عبيد بين يدي المنصور:

- ‌ مقام رجل من الزهاد بين يدي المنصور:

- ‌ مقام الأوزاعي بين يدي المنصور:

- ‌ نصيحة يزيد بن عمر بن هبيرة للمنصور:

- ‌ معن بن زائدة والمنصور:

- ‌ معن بن زائدة وأحد زوّاره:

- ‌ المنصور وأحد الأعراب:

- ‌ أعرابية تعزي المنصور وتهنئه:

- ‌ وصية مسلم بن قتيبة:

- ‌ خطبة المهدي

- ‌مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان

- ‌مدخل

- ‌ مقال سلام صاحب المظالم:

- ‌ مقال الربيع بن يونس

- ‌ مقال الفضل بن العباس:

- ‌ مقال علي بن المهدي:

- ‌ مقال موسى بن المهدي:

- ‌ مقال العباس بن محمد

- ‌ مقال هارون بن المهدي:

- ‌ مقال صالح بن عليّ

- ‌ مقال معاوية بن عبد الله:

- ‌ ابن عتبة يعزي المهدي ويهنئه:

- ‌ يعقوب بن داود يستعطف المهدي:

- ‌ رجل من أهل خراسان يخطب بحضرة المهدي:

- ‌ مقام صالح بن عبد الجليل بين يدي المهدي:

- ‌ عظة شبيب بن شيبة للمهدي:

- ‌ خطبته في تعزية المهدي بابنته:

- ‌ خطبة أخرى له في مدح الخليفة:

- ‌ كلمات لشبيب بن شيبة:

- ‌ خطبة يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب:يوم ولي الرشيد الخلافة

- ‌ خطبة هارون الرشيد

- ‌ وصية الرشيد لمؤَدِّب ولده الأمين:

- ‌ خطبة لجعفر بن يحيى البرمكي

- ‌ استعطاف أم جعفر بن يحيى للرشيد:

- ‌ خطبة يزيد بن مزيد الشيباني:

- ‌ خطبة عبد الملك بن صالح

- ‌ عبد الملك بن صالح يعزي الرشيد ويهنئه:

- ‌ غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح:

- ‌ قوله بعد خروجه من السجن:

- ‌ وصية عبد الملك بن صالح لابنه:

- ‌ وصية أخرى له:

- ‌ كلمات حكيمة لابن السَّماك:

- ‌ ابن السَّماك والرشيد:

- ‌الفتنة بين الأمين والمأمون

- ‌مدخل

- ‌ خطبة العباس بن موسى

- ‌ خطبة عيسى بن جعفر:

- ‌ خطبة محمد بن عيسى بن نهيك:

- ‌ خطبة صالح صاحب المصلى:

- ‌ خطبة المأمون:

- ‌ وصية السيدة زبيدة لعلي بن عيسى بن ماهان:

- ‌ وصية الأمين لابن ماهان

- ‌ استهانة ابن ماهان بأمر طاهر بن الحسين:

- ‌ حزم طاهر وقوة عزمه:

- ‌ طاهر يشد عزيمة جنده:

- ‌ وصف الفضل بن الربيع غفلة الأمين:

- ‌ وصية الأمين لأحمد بن مزيد:

- ‌ مقال عبد الملك بن صالح للأمين:

- ‌ الشغب في جيش عبد الملك بن صالح:

- ‌ خطبة الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان:

- ‌ خطبة محمد بن أبي خالد:

- ‌ إطلاق الأمين من سجنه ورده إلى مجلس الخلافة:

- ‌ خطبة داود بن عيسى يدعو إلى خلع الأمين:

- ‌ خطبة الأمين وقد تولى الأمر عنه:

- ‌استعطاف الفضل بن الربيع للمأمون

- ‌ خطبة طاهر بن الحسين ببغداد بعد مقتل الأمين:

- ‌خطب المأمون

- ‌خطبته وقد ورد عليه نعي الرشيد

- ‌خطبته وقد سلم الناس عليه بالخلافة

- ‌ خطبته يوم الجمعة

- ‌خطبته يوم الأضحى

- ‌ خطبته يوم الفطر:

- ‌ خطبة ابن طباطبا العلوي:

- ‌ استعطاف إبراهيم بن المهدي المأمون:

- ‌ إبراهيم بن المهدي وبختيشوع الطبيب:

- ‌ استعطاف إسحاق بن العباس المأمون:

- ‌ أحد وجوه بغداد يمدح المأمون حين دخلها:

- ‌ أحد أهل الكوفة يمدح المأمون:

- ‌ محمد بن عبد الملك بن صالح بين يدي المأمون:

- ‌ الحسن بن سهل يمدح المأمون:

- ‌ يحيى بن أكثم يمدح المأمون:

- ‌ أحد بني هاشم والمأمون:

- ‌ رجل يتظلم إلى المأمون:

- ‌ عمرو بن سعيد والمأمون:

- ‌ الحسن بن رجاء والمأمون:

- ‌ سعيد بن مسلم والمأمون

- ‌ أبو زهمان يعظ سعيد بن مسلم

- ‌ وصية طاهر بن الحسين

- ‌ خطبة عبد الله بن طاهر:

- ‌ العباس بن المأمون والمعتصم

- ‌ استعطاف تميم بن جميل للمعتصم:

- ‌ بين يدي سليمان بن وهب وزير المهتدي بالله:

- ‌أحمد بن أبي داود والواثق

- ‌ابن أبي داود والواثق أيضا

- ‌ابن أبي داود وابن الزيات

- ‌ الجاحظ وابن أبي داود:

- ‌أبو العيناء وابن أبي داود

- ‌فهرس الجزء الثالث من جمهرة خطب العرب

- ‌الخطب والوصايا في العصر العباسي الأول

- ‌فهرس أعلام الخطباء:

- ‌ذيل جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة

- ‌فهرس المآخذ

- ‌الباب الأول: في خطب الأندلسيين والمغاربة

- ‌خطبة عبد الرحمن الداخل

- ‌عبد الرحمن الداخل ورجل من جند فنسرين

- ‌ عبد الرحمن الداخل ورجل من جنده يهنئه بفتح سرقسطة

- ‌ تأديب عبد الرحمن الأوسط لابنه المنذر:

- ‌ عبد الرحمن الأوسط وابنه المنذر أيضًا:

- ‌ يعقوب بن عبد الرحمن الأوسط وأحد خدامه:

- ‌ وفاء الوزير ابن غانم لصديقه الوزير هاشم بن عبد العزيز

- ‌ خطبة منذر بن سعيد البَلُّوطِي

- ‌ خطبة أخرى له

- ‌ أحد حساد الرمادي الشاعر والمنصور بن أبي عامر:

- ‌ ابن اللبانة الشاعر وعز الدولة بن المعتصم بن صمادح:

- ‌ دفاع ابن الفخار عن القاضي الوحيدي:

- ‌ موعظة ابن أبي رَندقة الطرطوشي

- ‌ خطبة ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين:

- ‌ مقال لسان الدين بن الخطيب

- ‌ما خطب به لسان الدين تربة السلطان الكبير أبي الحسن المريني

- ‌ وصية لسان الدين بن الخطيب لأولاده:

- ‌ خطبة وعظية له:

- ‌ خطبة ابن الزيات المنزوعة الألف

- ‌ خطبة القاضي عياض التي ضمنها سور القرآن:

- ‌ خطبة سعيد بن أحمد المقري التي ضمنها سور القرآن:

- ‌ خطبة الكفعمي التي ضمنها سور القرآن أيضًا:

- ‌الباب الثاني في خطبة ووصايا مجهول عصرها أو قائلها

- ‌خطبة أبي بكر بن عبد الله بالمدينة

- ‌ وصية أعمى من الأزد لشاب يقوده:

- ‌ وصية رجل لآخر وقد أراد سفرًا:

- ‌ وصية رجل لابنه وقد أراد التزوج:

- ‌ وصية بعض العلماء لابنه:

- ‌ وصية لبعض الحكماء:

- ‌ عظة لبعض الحكماء:

- ‌ نصيحة لبعض الحكماء:

- ‌ كلمات شتى لبعض الحكماء:

- ‌ رجل من العرب والحجاج:

- ‌ كاتب وأمير:

- ‌ وصف الهلباجة:

- ‌ بعض البلغاء يصف رجلا:

- ‌ خمس جوارٍ من العرب يصفن خيل آبائهن:

- ‌ رجل من العرب يصف مطرًا:

- ‌الباب الثالث في نثر الأعراب قولهم في الوعظ والتوصية:

- ‌ مقام أعرابي بين يدي سليمان بن عبد الملك:

- ‌ أعرابي يعظ هشام بن عبد الملك:

- ‌ خطبة أعرابي

- ‌خبطة أخرى2

- ‌ أعرابية توصي ابنها وقد أراد السفر:

- ‌ أعرابية توصي ابنها:

- ‌ أعرابي يوصي ابنه:

- ‌ أعرابي ينصح لأخيه:

- ‌ أعرابي يعظ صاحبه:

- ‌ كلام أعرابي لابن عمه:

- ‌ كلمات حكيمة للأعراب:

- ‌أجوبة الأعراب

- ‌مجاربة أعرابي للحجاج

- ‌ مساءلة الحجاج أعرابيا فصيحا:

- ‌ مجاوبة أعرابي لعبد الملك بن مروان:

- ‌ مجاوبة أعرابي لخالد بن عبد الله القسري:

- ‌ أجوبة شتى:

- ‌قولهم في الاستمناح والاستجداء

- ‌أعرابي يجتدي عتبة بن أبي سفيان

- ‌ أعرابي يجتدي عمر بن عبد العزيز:

- ‌ خطبة أعرابي بين يدي هشام بن عبد الملك:

- ‌ مقام أعرابي بين يدي هشام:

- ‌ أعرابي يستجدي عبيد الله بن زياد:

- ‌ أعرابية تستجدي عبد الله بن أبي بكرة:

- ‌ أعرابي يستجدي خالد بن عبد الله القَسْرِيّ:

- ‌ أعرابي يستجدي معن بن زائدة:

- ‌ خطبة الأعرابي السائل في المسجد الحرام:

- ‌ خطبة الأعرابي السائل في المسجد الجامع بالبصرة:

- ‌صورى أخرى2

- ‌أعرابي يستجدي5

- ‌ أعرابية تستجدي:

- ‌ أعرابي يسأل رجلا حاجة له:

- ‌قولهم في بكاء الموتى:

- ‌ أعرابية تبكي ابنها:

- ‌ حديث امرأة سكنت البادية قريبًا من قبور أهلها:

- ‌ حديث امرأة مات ابنها بين يديها:

- ‌قولهم في الشكوى:

- ‌ أعرابي يشكو حاله:

- ‌ كلمات شتى في الشكوى:

- ‌ قولهم في العتاب والاعتذار:

- ‌ قولهم في المدح:

- ‌ قولهم في الذم:

- ‌ قولهم في الغزل:

- ‌قولهم في الوصف:

- ‌ ثلاثة غِلمة من الأعراب يصفون مطرا:

- ‌ أعرابي يصف أرضا:

- ‌ رائد يصف أرضا جدبة:

- ‌ أعرابي يصف أرضه وماله:

- ‌ أعرابي يصف بلدًا:

- ‌ أعرابي يصف أشد البرد:

- ‌ أعرابي يصف إبلا:

- ‌ أعرابي يصف ناقة:

- ‌ أعرابي يصف فرسا:

- ‌ أعرابي يصف خاتمًا:

- ‌ أعرابي يصف أطيب الطعام:

- ‌ أعرابي يصف السويق:

- ‌ أعرابي يصف الجمال:

- ‌ أبو المِخَشّ يصف ابنه:

- ‌ أعرابي يصف بنيه:

- ‌ أعرابي يصف أخويه:

- ‌قولهم في الدعاء:

- ‌ أدعية شتى:

- ‌ نوادر وملح لبعض الأعراب:

- ‌الباب الرابع في خطب النكاح:

- ‌ خطبة قريش في الجاهلية:

- ‌ خُطبة النبي صلى الله عليه وسلم في زواج السيدة فاطمة:

- ‌ خطبة الإمام عليّ كرم الله وجهه:

- ‌ خطبة عتبة بن أبي سفيان:

- ‌ خطبة شبيب بن شيبة:

- ‌ خطبة الحسن البصري:

- ‌ خطبة ابن الفقير:

- ‌ خطبة عمر بن عبد العزيز:

- ‌ خطبة أخرى له:

- ‌ خطبة بلال:

- ‌ خطبة خالد بن صفوان:

- ‌ خطبة أعرابي:

- ‌ خطبة المأمون:

- ‌الباب الخامس في خطب من أرتج عليهم

- ‌نوادر طريفة لبعض الخطباء

- ‌بدء الخطب وختامها:

- ‌فهرس ذيل الجمهرة:

الفصل: ‌ وصية لسان الدين بن الخطيب لأولاده:

17-

‌ وصية لسان الدين بن الخطيب لأولاده:

"الحمد لله الذي لا يَرُوعه الحمام المَرْقُوب، إذا شمَ1 نجمه المثقوب، ولا يبْغَتُه الأجل المكتوب، ولا يفْجَؤُه الفراق المعتوب، مُلْهِم الهُدَى الذي تطمئن به القلوب وموضِّح السبيل المطلوب، وجاعل النصيحة الصريحة من قِسْم الوجوب، لا سيما للواليِّ المحبوب، والولد المنسوب، القائل في الكتاب المُعْجِز الأُسْلُوب:{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ 2} ، {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ 3} ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله، أكرم من زُرَّتْ على نوره جُيُوب الغيوب، وأشرف من خُلِعَت عليه حُلَل المهابة والعصمة، فلا تقتحمه العيون، ولا تصمِهُ العيوب4، والرضا عن آله وأصحابه المثابرين على لسان5 الاستقامة بالهَوَى المغلوب، والأمل المسلوب، والاقتداء الموصِّل إلى المرغوب، والعز والأمن من الُّلغُوب6، وبعد: فإني لما علاني المَشِيب بقمَّته7، وقادني الكبر بِرُمَّته8، وادَّكَرْتُ الشباب

ص: 187

بعد أُمَّته1، أسِفْتُ لما أضعتُ، وندمْتُ بعد الفِطَام على ما رَضَعْتُ، وتأكد وجوب نصحي لمن لزمني رَعْيُة، وتعلَّق بعيني سَعْيُه، وأمَّلتُ أن تتعدَّى إليّ ثمرة استقامته، وأنا رهين فوات، وفي برزخ أموات، ويأمن العثور في الطريق التي اقتضت عِثارى، إن سلك -وعسى ألا يكون ذلك- على آثاري، فقلت أخاطب الثلاثة الولد، وثمرات الخَلَد2 بعد الضَّراعة إلى الله تعالى في توفيقهم، وإيضاح طريقهم، وجمع تفريقهم، وأن يمُنَّ عليّ منهم بحسن الخَلَف، والتلافي من قبل التَّلف، وأن يرزق خلفهم التمسك بهدي السلف، فهو وليّ ذلك والهادي إلى خير المسالك: اعلموا هداكم الله تعالى الذي بأنواره تهتدي الضُّلَّال، وبرضاه تُرْفَع الأغلال، وبالتماس قُرْبِه يحصل الكمال، وإذا ذهب المال، وأخلَفَتِ الآمال، وتبرَّأَتْ من يمينها الشِّمال، أني مُودِّعكم وإن سَالَمني الرَّدَى، ومُفَارِقُكم وإن طال المَدَى، وما عدا ممَّا بدا، فكيف وأدوات السَّفر تُجْمَع، ومنادي الرحيل يسمع، ولا أقلَّ للحبيب المودِّع، من وصية محتضر، وعجالة مقتصر، ورَتِيمَة3 تعقد في خِنْصَر، ونصيحة تكون نَشِيدَة واعٍ مُبْصِر، تتكفَّل لكم بحسن العواقب من بعدي، وتوضِّح لكم من الشفقة والحنوّ قَصْدي، حسبما تضمن وعد الله من قبل وعدي، فهي أَرَبُكم الذي لا يتغيَّر وقفه، ولا ينالكم المكروه ما رفَّ عليكم سَقْفُه، وكأنِّي بشبابكم قد شاخ، وبراحلكم قد أناخ، وبناشِطِكم قد كَسِل، واستبدل الصَّابَ4 من العسل، ونُصُول5 الشيب تروِّع بِأَسَل، لا بل السَّام6 من كل حدب قد نَسَل، والمعاد

1 الأمة هنا: الحين، اقتبسه من قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} .

2 الخلد: القلب والنفس.

3 الرتيمة: خيط يعقد في الأصبع للتذكير.

4 الصاب: عصارة شجر مر.

5 النصول جمع نصل: وهو حديدة الرمح والسيف. والأسل: الرماح.

6 السام: الموت: والحدب: ما ارتفع من الأرض، ونسل كضرب: أسرع والمعاد: المرجع.

ص: 188

اللحْدُ ولا تَسَلْ، فبالأمس كنتم فراخ حِجْر1، واليوم أبناء عسكر مَجْر، وغدا شيوخ مَضْيَعَةٍ وهَجْر، والقبورة فاغرة2، والنفوس عن المألوف صاغرة، والدنيا بأهلها ساخرة، والأُولى تَعْقُبُها الآخرة، والحازم من لم يَتَّعِظ به في أمر، وقال:"بيدي لا بيد عمرو3"، فاقتنوها من وصيَّة، ومَرَام4 في النصح قَصِيَّة، وخُصُّوا بها أولادكم إذا عَقَلوا، ليجدوا زادها إذا انتقلوا، وحسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هَمَلا، ولكن ليبْلُوَهُم أيهم أحسن عملا، ولا رَضِيَ الدنيا منزلا، ولا لَطَفَ بمن أصبح عن فئة الخير منعزلا، ولتُلَقَّنُوا تلقينا وتعلموا علما يقينا، وأنكم لن تجدوا بعد أن أنفرِدَ بذنبي، ويفترش التراب جنبي، ويَسُحَّ انسكابي، وتهَرْوِل عن المصلَّى ركابي، أحرص مني على سعادةٍ إليكم تُجْلَب، أو غاية كمال بسببكم تُرْتَاد وتُطْلَب، حتى لا يكون في الدين والدنيا أَوْرَف5 منكم ظلا، ولا أشرف محلا، ولا أَغْبَطَ نَهْلًا وعَلّا6، وأقل ما يوجب ذلك عليكم أن تُصِيخوا7 إلى قولي الآذان، وتستلمِحُوا

1 أي كالفراخ في حجر أمها وحضنها، والمجر: الكثير من كل شيء، وجيش مجر: كثير جدًّا.

2 أي فاتحة أفواهها للموتى.

3 هو مثل قالته الزباء ملكة الجزيرة، وذلك أنها كانت دعت جذيمة الأبرش ملك ما على شاطئ الفرات إلى زواجها. فلما استقر عندها قتلته ثأرًا بأبيها -وكان جذيمة قد قتله- فاحتال مولاه قصير الثأر منها، نجدع أنفه وأثر آثارا بظهره، ثم خرج إلى الزباء، وأظهر أن عمرو بن عدي -ابن أخت جذيمة- فعل ذلك به، وأنه زعم أنه مكر بخاله جذيمة وغره من الزباء، فلما استرسلت إليه ووثقت به، زين لها أن تبعثه إلى العراق ليحمل إليها من طرائقها وثيابها وطيبها، وأنها ستصيب في ذلك أرباحًا عظامًا، فأذنت له وقدم العراق، وأتى الحيرة متنكرًا، وزوده عمرو بصنوف البز والأمتعة، ورجع إلى الزباء، فأعجبها ما رأت وسرها، وازدادت به ثقة، وجهزته ثانية، فسار حتى قدم على عمرو فجهزه وعاد إليها، ثم عاد الثالثة وجمع ثقات رجال عمرو، وحملهم في الغرائر على الجمال، وسار إلى الزباء، ودخلت الإبل المدينة وكانت الزباء قد حذرت عمرا، واتخذت نفقا إلى حصن لها في داخل مدينتها، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني -ودل قصير عمرو على باب النفق، فلما خرجت الرجال من الغرائر صاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو على باب النفق، وأقبلت الزباء تريد النفق، فأبصرت عمرا فعرفته بالصورة التي صورت لها -فمصت خاتمها وكان فيه السم، وقالت:"بيدي لا بيد عمرو" فذهبت مثلًا، وتلقاها عمرو فجللها بالسيف وقتلها، وأصاب ما أصاب من المدينة وأهلها، وانكفأ راجعًا إلى العراق.

4 مرام جمع مرمى، وقضية بعيدة.

5 ورف الظل: اتسع وطال وامتد.

6 النهل: الشرب الأول، والعل والعلل: الشرب الثاني أو الشرب بعد الشرب تباعًا.

7 أصاخ له استمع.

ص: 189

صُبْحَ نُصحي فقد بان، وسأعيد عليكم وصيَّة لقمان، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَلا تُصَعِّر ْ1 خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} ، وأُعيد وصيَّة خليل الله وإسرائيله حُكْم2 ما تضمَّنه حكم تنزيله:{يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} والدين الذي ارتضاه واصطفاه، وأكمله ووفَّاه، وقرَّره مصطفاه، من قبل أن يتوفّاه؛ إذا أُعْمِل فيه انتقاد، فهو عمل واعتقاد، وكلاهما مُقَرَّر، ومستمدّ من عقل أو نقل محرر، والعقل متقدم، وبناؤه مع رفض أخيه متهدِّم، فالله واحد أحد، فرد صمد3، ليس له والد ولا ولد، تنزَّه عن الزمان والمكان، وسبق وجوده وجود الأكوان، خالق الخلق وما يعملون، الذي لا يسأل عن شيء وهم يسألون، الحي العليم المدبِّر القدير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، أرسل الرسل رحمة لتدعو الناس إلى النجاة من الشقاء، وتوجِّه الحجَّة في مصيرهم إلى دار البقاء، مؤيَّدةً بالمعجزات التي لا تتَّصف أنوارها بالاختفاء، ولا يجوز على تواترها دعوى الانتفاء، ثم ختم ديوانهم بنبيّ ملَّتنا المرعية الهَمَل، الشاهدة على المِلَل، فتلخَّصت الطاعة، وتعينت الإمْرَةُ المُطاعة، ولم يَبْقَ بعد إلا ارتقاب الساعة، ثم إن الله تعالى قَبَضَه إذ كان بَشَرًا، وترك دينه يضمُّ من الأمة نشرًا4، فمن تَبِعَه لَحِقَ به، ومن تركه نُوِّطَ5 عنه في مَنْسَبِه، وكانت نجاته على قدر سببه، روى عنه عليه الصلاة والسلام

1 صعر خده: أماله كبرا.

2 إسرائيله: يعقوب عليه السلام، والحكم: الحكمة، وهو بدل من وصية.

3 الصمد: السيد، لأنه يصمد أي يقصد في قضاء الحوائج.

4 انتشر: المنتشر، ومنه:"اللهم اضمم نشري".

5 أي أبعد عنه وطرد: يقال ناطت الدار: أي بعدت.

ص: 190

أنه قال: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لم تضلُّوا بعدي، كتاب الله وسنتي، فَعَضُّوا عليهما بالنواجذ "1.

فاعلموا يا بَنِيَّ بوصيَّة من ناصح جاهد، ومشفق شفقة والد، واستشعروا حبه الذي توافرت دواعيه، وعُوا مراشد هديه، فيا فَوْزَ واعيه! وصِلُوا السبب بسببه، وآمنوا بكل ما جاء به، مجملا أو مفصلا على حسبه، وأوجبوا التجِلَّة لصحبه، الذين اختارهم الله تعالى لصحبته، واجعلوا محبتكم إياهم من توابع محبته، واشملوهم بالتوقير، وفَضِّلوا منهم أولي الفضل الشهير، وتبرَّءوا من العصبية التي لم يدعكم إليها داعٍ، ولا تَعِ التشاجر بينهم أذن واعٍ، فهو عنوان السداد، وعلامة سلامة الاعتقاد، ثم اسحبوا فضل تعظيمهم على فقهاء الملة، وأئمتها الجِلِّة2، فهم صَقَلة نُصُولهم، وفروع ناشئة من أصولهم، ووَرَثَتهم وورثة رسولهم، واعلموا أنني قطعت في البحث الزماني، وجعلت النظر شاني، منذ براني الله تعالى وأنشاني، مع نُبْل3 يعترف به الشاني، وإدراك يسلِّمه العقل الإنساني، فلم أجد خابِطَ ورق، ولا مُصَبِّبَ عَرَق، ولا نازِعَ خِطَام، ولا متكلِّفَ فِطَام، ولا مقتحم بحر طَامٍ، إلا وغايته التي يقصدها قد نَضَلتها الشريعة وسبقتها، وفَرَعَت4 ثنيَّتها وارتَقَتْها، فعليكم بالتزام جادَّتها5 السَّابِلة، ومصاحبة رَِفُقتها الكاملة، والاهتداء بأقمارها غير الآفلة، والله تعالى يقول، وهو أصدق القائلين:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقد علت شرائعه، وراع الشكوك رائِعُه، فلا تستنزلكم الدنيا عن الدين، وابذلوا دونه النفوس فِعْلَ المهتدين، فلن ينفع متاع بعد الخلود في النار أبد الآبدين، ولا يضر مفقود مع الفوز بالسعادة والله أصدق الواعدين، ومتاع الحياة الدنيا أخسُّ ما وَرِث الأولاد عن الوالدين، اللهم قد بَلَّغْتُ فأنت خير الشاهدين، فاحذروا المَعَاطِبَ التي توجب في الشقاء الخلود، وتستدعي شَوْهَ الوجوه ونضج الجلود، واستعيذوا برضا الله من سُخْطِه، وارْبَئُوا بنفوسكم عن غَمْطِه، وارفعوا آمالكم عن القنوع بغرور قد خدع

1 أقصى الأضراس.

2 جمع جليل.

3 النبل: الذكاء والنجابة، والشاني: المبغض.

4 فرعه: علاه، والثنية: العقبة، أو الجبل أو الطريقة فيه أو إليه.

5 الجادة: الطريق الواضح، والسابلة من الطرق المسلوكة.

ص: 191

أسلافكم، ولا تحمدوا على جيفة العَرَض الزائل ائتلافكم، واقنعوا منه بما تيسَّر، ولا تأْسَوْا1 على ما فات وتعذَّر، فإنما هي دُجُنَّة2 ينسخها الصباح، وصفقة يتعاقبها الخََسَار أو الرَّباح، ودونكم عقيدة الإيمان فَشُدُّوا بالنواجذ عليها، وكَفْكِفُوا الشُّبَهَ أن تدنو إليها، واعلموا أن الإخلال بشيء من ذلك خَرْقٌ لا يَرْفَؤُه3 عمل، وكل ما سوى الراعي همل، وما بعد الرأس في صلاح الجسم أمل، وتمسَّكوا بكتاب الله تعالى حفظًا وتلاوة، واجعلوا حِمْلَه على حِمْلِ التكليف علاوة، وتفكروا في آياته ومعانيه، وامتثلوا أوامره ونواهيه ولا تتأولوه ولا تَغْلُوا فيه، وأشربوا قلوبكم حب من أنزل على قلبه، وأكثروا من بواعث حبه، وصونوا شعائر الله صون المحترم، واحفظوا القواعد التي ينبني عليها الإسلام حتى لا يَنْخَرِم، الله الله في الصلاة ذريعة التَّجِلَّةِ، وخاصة الملة، وحاقنة الدم، وغنى المستأجر المستخدم، وأم العبادة، وحافظة اسم المراقبة لعالم الغيب والشهادة، والناهية عن الفحشاء والمنكر، إن عرض الشيطان عرضها، ووطَّأ للنفس الأمارة سماءها وأرضها، والوسيلة إلى بلِّ الجوانح ببرود الذكر، وإيصال تُحْفة الله إلى مريض الفكر، وضامنة حسن العشرة من الجار، وداعية للمسالمة من الفُجَّار، والواسمة بسمة السلامة، والشاهد للعبد برفع الملامة، وغَسُول4 الطبع إذا شانه طبع، والخير الذي كلُّ ما سواه له تبع، فاصبروا النفس على وظائفها، بين بدء وإعادة، فالخير عادة، ولا تفضِّلوا عليها الأشغال البدنية، وتُؤْثِرُوا على العليَّة الدنية، فإن أوقاتها المعينة بالانفلات تَنْتَبسُّ5، والفلك بها من أجلكم لا يُحْبَس، وإذا قورنت بالشواغل فلها الجاه والأصيل، والحكم الذي لا يغيِّره الغُدُوِّ ولا الأصيل، والوظائف بعد أدائها لا تفوت، وأين حقُّ من يموت من حق الحي الذي لا يموت؟ وأحكموا أوضاعها إذا أقمتموها، وأتبعوها النوافل ما أطلقتموها، فبالإتقان تفاضلت الأعمال، وبالمراعاة

1 ولا تحزنوا.

2 الدجنة: الظلمة.

3 رفأ الثوب كمنع: لأم خرقة، وضم بعض إلى بعض.

4 الغسول كصبور وتنور: الماء يغتسل به، وفي الأصل "غاسول" وهو تحريف، والطبع الشين والعيب.

5 أي تذهب وتضيع، يقال: انبس الرجل إذا ذهب، وفي الأصل "تبتس" وأراه محرفا.

ص: 192

استحقت الكمال، ولا شكر مع الإهمال، ولا ربح ما إضاعة رأس المال، وذلك أحرى بإقامة الفرض، وأدعى إلى مساعدة البعضِ البعضَ.

والطهارة التي هي في تحصيلها سبب مُوَصِّل، وشرط لمشروطه محصِّل، فاستوفوها، والأعضاء نظَّفوها، ومياهها بغير أوصافها الحميدة فلا تصفوها، والحُجُول والغُرَر1 فأطيلوها، والنيَّات في كل ذلك فلا تُهْمِلوها، فالبناء بأساسه، والسيف بمراسه، واعلموا أن هذه الوظيفة من صلاة وطهور، وذكر مجهور وغير مجهور، تستغرق الأوقات، وتنازع شتَّى الخواطر المفترقات، فلا يضبطها إلا من ضبط نفسه بعقال، واستعاض صَدَأَه بِصِقَال2، وإن تراخى قَهْقَر3 الباعُ، وسرقته الطباعُ، وكان لما سواها أضيع. فشمل الضَّياع، والزكاة أختها الحبيبة. ولِدَتُها القريبة. مفتاح السعادة بالعرض الزائل. وشكران المسئول على الضِّدِّ من درجة السائل. وحق الله تعالى في مال من أغناه. لمن أجهده في المعاش وعناه4 من غير استحقاق مَلْء يده وإخلاء يد أخيه. ولا عِلَّةَ إلا القَدَر الذي يخفيه. وما لم يَنْلَه حظ الله تعالى فلا خير فيه، فاسمحوا بتفريقها للحاضر لإخراجها. في اختيار عرضها ونتاجها. واستحيوا من الله تعالى أن تبخلوا عليه ببعض ما بَذَل. وخالفوا الشيطان كلما عَذَل. واذكروا خروجكم إلى الوجود لا تملكون، ولا تدرون أين تسلكون. فوهب وأقدر. وأورد بفضله

1 الحجول: جمع حجل بالكسر والفتح وهو الخلخال، والمراد بها هنا الأطراف، وبإطالتها استيعاب غسلها، والغرر جمع غرة بالضم وهي الوجه، والمراد بتطويلها في الوضوء: غسل مقدم الرأس مع الوجه، وغسل صفحة العنق، وجملة المعنى: أنه يأمر بإسباغ الوضوء، وفي الحديث الشريف:"أمتي الغُرُّ المُحَجَّلُون" والغر جمع الأغر من الغرة، وهي بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم، يقال: فرس أغر وغراء، والمحجل: الفرس الذي يرتفع البياض في قوائمه في موضع القيد، أي بيض مواضع الوضوء من الوجه والأيدي والأقدام، واستعار أثر الوضوء في الوجه واليدين والرجلين من البياض الذي يكون في وجه الفرس ويديه ورجليه.

2 صواب العبارة: "واستعاض بصدئه صقالا" يقال استبدل الشيء بغيره: إذا أخذه مكانه "ومنه ترى أن الباء داخلة على المتروك"، واعتاضه منه واستعاضه "والباء كمن".

3 قهقر وتقهقر: رجع القهقري.

4 أتعبه.

ص: 193

وأصْدَر. ليرتِّب بكرمه الوسائل، أو بقيم الحجج والدلائل. فابتغوا إليه الوسيلة بماله واغْتَنِمُوا رضاه ببعض نواله. وصيام رمضان عبادة السر المقرِّبة إلى الله زُلْفَى. الممحوضة1 لمن يعلم السِّرَّ وأخفى. مؤكَّدة بصيام الجوارح عن الآثام. والقيام ببر القيام، والاجتهاد، وإيثار السُّهاد، على المِهاد، وإن وسع الاعتكاف فهو من سننه المرْعِيَّة، ولواحقه الشرعية، فبذلك تحْسُن الوجوه، وتحصل من الرأفة على ما ترجوه، وتذهب قسوة الطباع، ويمتد في ميدان الوسائل الباع، والحج من الاستطاعة الركن الواجب، والفرض على العين لا يحجُبه الحاجب، وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدره فيما فرض عن ربه وسَنَّه، وقال:"ليس له جزاء عند الله إلا الجنة" ويلحق بذلك الجهاد في سبيل الله تعالى إن كانت لكم قوة عليه، وغنى لديه، فكونوا ممن يسمع نفيره ويطيعه، وإن عجزتم فأعينوا من يستطيعه. هذه عُمُد الإسلام وفروضة، ونقود مهره وعروضه، فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين، وعلى من يناويكم ظاهرين2، وتَلْقُوا الله لا مبدِّلين ولا مغيِّرين، ولا تضيعوا حقوق الله فَتَهْلكوا مع الخاسرين.

واعلموا أن بالعلم تستعمل وظائف هذه الألقاب، وتَجَلَّى محاسنها من بعد الانتقاب3 فعليكم بالعلم النافع دليلا بين يدي السامع، فالعلم مفتاح هذا الباب، والموصِّل إلى اللُّباب، والله عز وجل يقول:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} والعلم وسيلة النفوس الشريفة إلى المطالب المُنيفة، وشرطه الخشية لله تعالى والخيفة، وخاصًّة الملإ الأعلى وصفة الله في كتبه التي تُتْلَى، والسبيل في الآخرة إلى السعادة، وفي الدنيا إلى النِّحْلة4 عادة، والذُّخر الذي قليله يشفع، وكثيره ينفع، ولا يغلبه الغاصب، ولا يسلُبُه العدو المناصب، ولا يبتزّه الدهر إذا نال، ولا يستأثر به البحر إذا هال، من لم يَنَلْه فهو ذليل، وإن كثرت آماله،

1 الخالصة.

2 يعاديكم، وظاهرين: غالبين.

3 أي بعد الاختفاء، من انتقبت المرأة: لبست النقاب.

4 نحله: أعطاه، والاسم النحلة.

ص: 194

وقليل، وإن جَمَّ ماله، وإن كان وقته قد فات اكتسابكم، وتَخَطَّى حسابكم فالتمسوه لبنيكم، واستدركوا منه ما خرج عن أيديكم، واحملوهم على جمْعه ودرْسه، واجعلوا طباعهم ثَرَى لِغَرْسِه، واستسهلوا ما ينالهم من تعب من جَرَاه1 وسَهَرٍ يهجر له الجفن كَرَاه، تعقدوا لهم ولاية عز لا تُعْزَل، وتُحِلُّوهم مثابة رفعة لا يُحط فارعها ولا يُسْتَنْزَل، واختاروا العلوم التي يتعقَّبها الوقت، فلا يناها في غيره2 المقت، وخير العلوم علوم الشريعة، وما نجم بمنابتها المريعة3، من علوم لسان لا تستغرق الأعمار فصولها، ولا يضايق ثمرات المعاد حصولها، فإنها هي آلات لغير، وأسباب إلى خير منها وخير، فمن كان قابلًا للازدياد، وألفى فهمه ذا انقياد، فليخصّ تجويد القرآن بتقديمه، ثم حفظ الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه، ثم الشروع في أصول الفقه فهو العلم العظيم المِنَّة، المهدي كنوز الكتاب والسنة، ثم المسائل المنقولة عن العلماء الجِلَّة، والتدرج في طرق النظر بصحيح الأدلة، وهذه هي الغاية القصوى في الملة، ومن قصر إدراكه عن هذا المرمى، وتقاعد عن التي هي أسمى، فليروِ الحديث بعد تجويد الكتاب وإحكامه، وليقرأ المسائل الفقهية على مذهب إمامه، وإياكم والعلوم القديمة، والفنون المهجورة الذميمة، فأكثَرُوا لا يفيد إلا تشكيكا، ورأيا ركيكا، ولا يثمر في العاجلة إلا اقتحام العيون، وتطريق الظنون، وتطويق الاحتقار وسمة الصَّغار، وخمول الأقدار، والخَسْف من بعد الإبدار، وجادة الشريعة أعرق في الاعتدال، وأوفق من قطع العمر في الجِدال، وهذا ابن رشد4 قاضي المصر ومُفْتِيه

1 يقال: فعلت ذلك من جراه ومن جرائه بالتشديد ويخففان، ومن جريرته: أي من أجله، والكرى: النوم.

2 غير الدهر: أحداثه المغيرة، والضمير فيه يعود على الوقت.

3 المخصبة.

4 هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، أعظم فلاسفة الأندلس وأطبائها، ولد سنة 520هـ ودرس علوم الدين والفلسفة والطب، واتصل بيوسف بن عبد المؤمن زعيم الموحدين، وشرح له فلسفة أرسطو، وقد ولاه قضاء إشبيلية؛ ثم استدعاه إلى المراكش، وجعله طبيبه الخاص، ثم جعله قاضي القضاة بقرطبة، ولما ولي بعده ابنه المنصور بالله علت مكانة ابن رشد عنده، فأثار ذلك حسد خصومه، فكادوا له عند السلطان واتهموه أنه يجحد القرآن، وينشط الفلسفة وعلوم الأوائل بدلا من علوم الدين، وينصر مذهب القدماء في القول بألوهية بعض الكواكب، فنزله المنصور فيه من قضاء قرطبة، ثم عفا عنه، واستدعاه إلى مراكش، ولم يطل مقامه بها، فمات سنة 595هـ، وقد ترجم أكثر كتبه إلى اللغات الأجنبية، وعليها عول الأوربيون في نهضتهم الحديثة.

ص: 195

وملتمِس الرشد ومُوليه، وعادت عليه بالسَّخطة الشنيعة، وهو إمام الشريعة، فلا سبيل إلى اقتحامها، والتورُّط في ازدحامها، ولا تخلطوا جامكم1 بجامها، إلا ما كان من حساب ومساحة، ما يعود بِجَدْوَى فلاحة، وعلاج يرجع على النفس والجسم براحة، وما سوى ذلك فمحجور، وضَرَم2 مسجور، وممقوت مهجور، وأمروا بالمعروف أمرا رفيقًا، وانهوا عن المنكر نهيًا حريا بالاعتدال حقيقا، واغبطوا من كان من سِنَة الغفلة مفيقًا، واجتنبوا ما تُنْهَون عنه حتى لا تسلكوا منه طريقًا، وأطيعوا أمر من ولاه الله تعالى من أموركم أمرا، ولا تَقْرَبُوا من الفتنة جمرًا، ولا تدخلوا في الخلاف زيدًا ولا عمرًا، وعليكم بالصدق فهو شعار المؤمنين، وأهمّ ما أضَرَى3 عليه الآباء ألسنة البنين، وأكرم منسوب إلى مذهبه، ومن أكثر من شيء عُرف به، وإياكم والكذب فهو العَوْرة التي لا توارى، والسوءة التي لا يُرْتَاب في عارها ولا يتمارى. وأقل عقوبات الكذاب، بين يدي ما أعَدَّ الله له من العذاب، وأن يقبل صِدْقَه إذا صَدَق، ولا يعول عليه إن كان بالحق نطق، وعليكم بالأمانة فالخيانة لُوم، وفي وجه الديانة كُلُوم4، ومن الشريعة التي لا يُعْذَر بجهلها، وأداء الأمانات إلى أهلها، وحافظوا على الحشمة والصِّيانة، ولا تجزُوا من أقرضكم دين الخيانة، ولا توجدوا للغدر قَبولا ولا تُقِرُّوا عليه طبعًا مجبولا، وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا، ولا تستأثروا بكنز ولا حَزْن، ولا تذهبوا لغير مناصحة المسلمين في سهل ولا حَزْن، ولا تَبْخَسُوا الناس أشياءهم في كيل أو وزن، والله الله أن تُعينوا في سفك الدماء ولو بالإشارة أو الكلام، أو ما يرجع إلى وظيفة الأقلام، واعلموا أن الإنسان في فُسْحَة ممتدَّة،

1 الجام: إناء من فضة.

2 جمع ضرمة بالتحريك: وهي الجمرة والنار وسجر التنور: أحماه.

3 ضرى بالشيء كتعب: اعتاده وأولع به، ويعدي بالهمز والتضعيف، فيقال: أضريته وضريته: أي أغريته به.

4 الكلوم جمع كلم بالفتح وهو الجرح.

ص: 196

وسبل الله تعالى غير مُنْسَدَّة، ما لم ينْبِذْ إلى الله تعالى بأمانه، ويَمَسَّ الدم الحرام بيد أو لسانه، قال الله تعالى في كتابه: الذي هدى به سَنَنًا قويما، وجَلَّي من الجهل والضلال ليلا بهيما:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} . واجتناب الزنا وما تَعَلَّق به، -من أخلاق كرُمَت طباعه، وامتدَّ في سبيل السعادة باعه، لو لم تتلقَ نور الله الذي لم يهْدِ شعاعه، فالحلال لم تَضِقْ عن الشهوات أنواعه، ولا عُدِمَ إقناعه، ومن غَلَبَتْ غرائز جهله. فلينظر: هل يحب أن يُزْنَى بأهله؟ والله قد أعد للزاني عذابا وبيلا. وقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} . والخمر أم الكبائر. ومفتاح الجرائم والجرائر1. واللهو لم يجعله الله في الحياة شرطا. والمحرَّم قد أغنى عنه بالحلال الذي سَوَّغ وأعطى. وقد تركها في الجاهلية أقوام لم يرضوا لعقولهم الفساد. ولا لنفوسهم بالمضَرَّة في مرْضَاةِ الأجساد، والله تعالى قد جعلها رجسا محرَّما على العباد: وقَرَنَها بالأَنْصَاب والأزلام في مُبَاينة السَّدَاد2. ولا تقربوا الربا. فإنه من مَنَاهِي الدين. والله تعالى يقول: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} في الكتاب المبين. ولا تأكلوا مال أحد بغير حق يبيحه. وانزعوا الطَّعم3 عن ذلك حتى تذهب ريحه. والتمسوا الحلال يسعى فيه أحدكم على قدمه. ولا يَكِلُ خياره إلا للثقة من خَدَمه. ولا تلجَئُوا إلى المتشابه إلا عند عَدَمه. فهو في السلوك إلى الله تعالى أصل مشروط. والمحافظ عليه مَغْبُوط. وإياكم والظلم. فالظالم ممقوت بكل لسان

ص: 197

مُجَاهِر الله تعالى بصريح العصيان، "والظلم ظلمات يوم القيامة" كما ورد في الصِّحاح الحسان، والنميمة فساد وشَتَات، ولا يبقى عليه مُتَات1، وفي الحديث:"لا يدخل الجنة قَتَّات" 2 واطرحوا الحسد، فما ساد حسود، وإياكم والغيبة فباب الخير معها مسدود، والبخل، فما رُئِي البخيل وهو مودود، وإياكم وما يُعْتَذَر منه فمواقع الخزي لا تُسْتَقَال عثراتها، ومظنَّات الفضائح لا تؤمن غمراتها، وتفقدوا أنفسكم مع الساعات وأفْشُوا السلام في الطرقات والجماعات، ورقُّوا على ذوي الزمانات3 والعاهات، وتاجروا مع الله بالصدقة يُرْبِحكم في البضاعات، وعوِّلوا عليه وحده في الشدائد، واذكروا والمساكين إذا نَصَبْتُم الموائد، وتقربوا إليه باليسير من ماله. واعلموا أن الخلق عِيال الله، وأحب الخلق إليه المحتاط لعياله، وارعوا حقوق الجار، واذكروا ما ورد في ذلك من الآثار، وتعاهدوا أولي الأرحام، والوشائج4 البادية الالتحام، واحذروا شهادة الزور: فإنها تقطع الظهر، وتفسد السر والجهر، والرَّشا، فإنها تحطُّ الأقدار، وتستدعي المذلة والصغار، ولا تَسَامحوا في لعبة قَمْر5، ولا تشاركوا أهل البطالة في أمر، وصونوا المواعيد من الإخلاف، والأيمان من حنث الأوغاد والأجلاف، وحقوق الله تعالى من الازدراء والاعتساف، ولا تَلْهَجُوا بالآمال العجاف6 ولا تكْلَفُوا بالكهانة والإرجاف، واجعلوا العمر بين معاش ومعاد، وخصوصية وابتعاد، واعلموا أن الله سبحانه بالمرصاد، وأن الخلق بين زرع وحصاد، وأقلوا بغير الحالة الباقية الهموم، واحذروا القواطع عن السعادة كما تُحْذَر السموم، واعلموا أن الخير أو الشر في الدنيا محال أن يدوم، وقابلوا بالصبر أذية المؤذين، ولا تعارضوا مقالات الظالمين، فالله لمن بغى عليه خير الناصرين، ولا تستعظموا

1 المتات: ما يمت به أي يتوصل.

2 القتات: النمام.

3 الزمانة: العاهة.

4 الوشائج جمع وشيجة: وهي اشتباك القرابة.

5 قمره: غلبه في لعب القمار.

6 العجاف جمع عجفاء: وهي المهزولة.

ص: 198

حوادث الأيام كلما نزلت، ولا تَضِجّوا للأمراض إذا أَعْضَلت، فكلٌ منقرض حقير، وكل منقضٍ وإن طال قصير، وانتظروا الفَرَج، وانتَشِقُوا من جناب الله تعالى الأَرَج1، وأوسِعُوا بالرجاء الجوانح، واجنحوا إلى الخوف من الله تعالى فطُوبَى لعبد إليه جانح، وتضرعوا إلى الله تعالى بالدعاء، والجئوا إليه في البأساء والضراء، وقابلوا نعم الله تعالى بالشكر الذي يقيَّده به الشارد، ويعذَّب الوارد، وأَسْهِمُوا2 منها للمساكين وأفضلوا عليهم، وعَيِّنُوا الحظُوظ منها لديهم؛ فمن الآثار:"يا عائشة أحسني جوار نعم الله، فإنها قلَّما زالت عن قوم فعادت إليهم"، ولا تطغوا في النعم وتقصِّرُوا عن شكرها، وتغلبكم3 الجهالة بِسُكْرها، وتتوهموا أن سعيكم جَلَبَها، وجِدّكُم حلبها، فالله خير الرازقين، والعاقبة للمتقين، ولا فعل إلا الله إذا نُظِر بعين اليقين، والله الله لا تنسوا الفضل بينكم، ولا تذهبوا بذهابه زَيْنَكم، وليلتزم كل منهم لأخيه، ما يشتد به تَوَاخيه، بما أمكنه من إخلاص وبِرّ، ومراعاة في علانية وسر، وللإنسان مزِيّة لا تجهل، وحق لا يُهْمَل، وأظهروا التعاضد والتناصر، وصلوا التَّعاهد والتَّزاور، وتُرْغِموا بذلك الأعداء، وتَسْتَكْثِروا الأوِدَّاء، ولا تتنافسوا في الحظوظ السخيفة، ولا تتهارشوا تَهَارُش السباع على الجِيْفَة. واعلموا أن المعروف يَكْدَر بالامتنان، وطاعة النساء شرّ ما أفسد بين الإخوان، فإذا أسديتم معروفًا فلا تذكروه، وإذا برز قبيح فاستروه، وإذا أعظم النساء أمرا فاحْقِرُوه، والله الله لا تنسوا مُقَارَضَة سَجْلِي4، وبَرُّوا أهل مودَّتي من أجلي، ومن رُزِق منكم مالا بهذا الوطن القلق المهاد، الذي لا يصلح لغير الجهاد، فلا يستهلكه أجمع في العَقَار، فيصبح عُرْضَة للمذلَّة والاحتقار، وساعيًا لنفسه -إن تغلَّب العدو على بلده-

1 الأرج: توهج ريح الطيب.

2 أسهم له: أعطاه سهما.

3 في الأصل: "وتلقيكم" وأراه محرفا عن "وتغلبكم".

4 السجل: النصيب. والمعنى: أنكم مدينون لي مما قدمت لكم من معروفي، فلا تنسوا أن تردوه لي بإكرام من أراده.

ص: 199

في الافتضاح والافتقار، ومعوِّقًا عن الانتقال، أمام النُّوَب الثِّقال، وإذا كان رزق العبد على المولى، فالإجمال في الطلب أولى، وازهدوا جهدَكم في مصاحبة أهل الدنيا فخيرها لا يقوم بشرِّها، ونفعها لا يقوم بضرِّها، وأعقاب من تقدَّم شاهدة، والتواريخ لهذه الدعوى عاضِدَة، ومن بُلِيَ بها منكم فليستَظْهِر بِسَعَة الاحتمال، والتقلُّل من المال، وليحذر معاداة الرجال، ومَزَلَّات الإدلال، وفساد الخيال، ومداخلة العيال، وإفشاء السر، وسكر الاغترار، فإنه دَأْب الغِرّ، وليَصُنِ الديانة، ويؤْثِر الصمت ويلازم الأمانة، ويَسِرْ من رضا الله على أوضح الطرق، ومهما اشتبه عليه أمران قَصَدَ أقربهما إلى الحق، وليقفْ في التماس أسباب الجلال دون الكمال غير النقصان، والزعازعُ تسالم اللَّدان1 اللطيف من الأغصان، وإياكم وطلبَ الولايات رغبةً واستجلابًا، واستظهارًا على الخُطُوب وغِلَابًا، فذلك ضرر بالمُروءات والأقدار داعِ إلى النصيحة والعار، ومن امْتُحِنَ بها منكم اختيارًا، أو جُبِر عليه إكراها وإيثارًا، فليتلقَّ وظائفها بسعة صدره، ويبذل من الخير فيها ما يشهد أن قدرها دون قدره، فالولايات فتنة ومِحْنة، وأسر وإِحْنَة، وهي بين إِخْطاءِ سعادة. إخلالٍ بعبادة وتوقُّع عزل. وإدالة2 بإزاء بيع جِدٍّ بهَزل، ومَزَلَّة قدم، واستتباع ندم ومآل العمر كله موت ومعاد، واقتراب من الله وابتعاد. وجعلكم الله ممن نفعه بالتبصير والتنبيه وممن لا ينقطع بسببه عمل أبيه. هذه -أسعدكم الله- وصيتي التي أصدرتها. وتجارتي التي لربحكم أدرتها. فتلقَّوها بالقبول لنصحها. والاهتداء بضوء صبحها. وبقدر ما أمضيتم من فروعها. واستغشيتم من دروعها. اقتنيتم من المناقب الفاخرة. وحصلتم على سعادة الدنيا والآخرة. وبقدر ما أضعتم لآلئها النفيسة القيم. استكثرتم من بواعث الندم. ومهما سئمتم إطالتها. واستغزرتم مقالتها، فاعلموا أن تقوى الله فَذْلَكَةُ3 الحساب، وضابط هذا الباب. كان الله خليفتي عليكم في كل حال. فالدنيا

1 اللدن: اللين.

2 الإدالة: الغلبة.

3 فذلك حسابه كدحرج: أنهاه وفرغ منه، مخترعة من قوله إذا أجمل حسابه: فذلك كذا وكذا.

ص: 200