الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} .
آمركم بما أمركم الله به، وأنهاكم عما نهاكم عنه، وأستغفر الله لي ولكم.
"العقد الفريد 2: 147".
78-
وصية الرشيد لمؤَدِّب ولده الأمين:
ووصى الرشيد مؤدب ولده الأمين، فقال:
"يا أحمر1، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصيِّر يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أَقْرِئه القرآن، وعرِّفه الأخبار، وروِّه الأشعار، وعلمه السنن، وبصِّره بمواقع الكلام وبَدْئِه، وامْنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورَفْع مجالس القوَّاد إذا حضروا مجلسه، ولا تَمُرَّنَّ بك ساعة إلا وأنت مُغْتَنِم فائدة تفيده إياها، من غير أن تُحْزِنه، فتميت ذهنه، ولا تُمْعِن في مسامحته، فيستحلِيَ الفراغ ويأْلَفه، وقَوِّمُه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغِلْظَة".
"مقدمة ابن خلدون ص632".
1 هو علي بن المبارك الأحمر صاحب الكسائي، وكان يؤدب الأمين، وكان مشهورًا بالنحو واتساع الحفظ، ومات سنة 206، أو سنة 207. انظر ترجمته في "نزهة الألبا في طبقات الأدبا" ص125.
79-
خطبة لجعفر بن يحيى البرمكي
"قتل سنة 187هـ":
وهاجت العصبية بالشأم بين أهلها في عهد الرشيد "سنة180" وتفاقم أمرها، فاغتم َّلذلك الرشيد، وعقد لجعفر بن يحيى على الشأم، وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر: بل أقِيك بنفسي، فشخص في جِلَّة القواد والكُراع والسلاح، فأتاهم فأصلح بينهم، وقتل زَوَاقيلهم1 والمتلصِّصة منهم، ولم يَدْع بها رمحًا ولا فرسًا، فعاودا إلى الأمن والطُّمأنينة، وأطفأ تلك النائِرة.
1 الزَّوَاقيل: اللصوص.
فلما قَدِم على الرشيد دخل عليه، فقبَّل يديه ورجليه، ثم مَثَل بين يديه، فقال:"الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي آنَسَ وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تَضَرُّعِي، وأنسأ1 في أجلي، حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني بقُرْبه، وامتن علي بتقبيل يده، وردَّنِي إلى خدمته، فوالله إن كنت لأذكر غيبتي عنه، ومخرجي والمقادير التي أزعجتني، فأعلم أنها كانت بمعاصٍ لحقتني، وخطايا أحاطت بي، ولو طال مُقَامِي عنك يا أمير المؤمنين -جعلني الله فداك- لَخِفْتُ أن يذهب عقلي، إشفاقًا على قُرْبك، وأسفًا على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياقُ إلى رؤيتك، والحمد لله الذي عصمني في حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرَّفني الإجابة، ومسَّكني بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية، فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقْدَم إلا عن إذنك وأمرك، ولم يخترِ مني أجل دونك، والله يا أمير المؤمنين- فلا أعظم من اليمين بالله- لقد عاينتُ ما لو تُعَرض لي الدنيا كلها، لاخترت عليها قرَبك، وَلَمَا رأيتها عِوَضًا من المُقام معك".
ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام:
"إن الله يا أمير المؤمنين لم يزل يُبْلِيك2 في خلافتك، بقدر ما يعلم من نيَّتك، ويريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع أُلْفتهم، ويَلُمَّ شَعَثَهم، حفظًا لك فيهم، ورحمة لهم؛ وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مَرْضَاتك، والله المحمود على ذلك وهو مُسْتَحِقُّه. وفارقتُ يا أمير المؤمنين أهل كُوَرِ الشأم وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فَرَط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحِلْمِك، مؤمِّلون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالهم في أُلفتهم كحالهم
1 أخر.
2 ينعم عليك.
كانت في امتناعهم، وعفو أمير المؤمنين عنهم، وتغمُّده1 لهم، سابق لمعذرتهم وصلة أمير المؤمنين لهم، وعطفهُ عليهم، متقدم عنده لمسألتهم، وايم الله يا أمير المؤمنين لئن كنتُ قد شَخَصتُ عنهم، وقد أخمد الله شرارهم، وأطفأ نارهم، ونفى مرَّاقهم2، وأصلح دهماءهم3، وأولاني الجميل فيهم، ورزقني الانتصار منهم، فما ذلك كله: إلا ببركتك ويمنك وريحك4، ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوفهم منك، ورجائهم لك. والله يا أمير المؤمنين ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمرك، ولا سِرْتُ فيهم إلا على حدِّ ما مثلته لي ورسَمْتَه، وَوَقَّفتني عليه، ووالله ما انقادوا إلا لدعوتك، وَتَوَحُّد5 الله بالصُّنع لك، وتخوُّفهم من سطوتك. وما كان الذي كان مني، وإن كنت قد بذلت جهدي، وبلغت مجهودي، قاضيًا بعض حقِّك عليَّ، بل ما ازدادت نعمتك عليَّ عِظَمًا، إلا ازددت عن شكرك عجزًا وضعفًا، وما خلق الله أحدًا من رعيتك، أبعدَ من أن يُطْمع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلا أن أكون باذلًا مهجتي في طاعتك، وكلِّ ما يقرب إلى موافقتك، ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيري، فكيف بشكري! وقد أصبحت واحد أهل دهري، فيما صنعته فيَّ؟ وبيَ؟ أم كيف بشكري! وإنما أقوى على شكرك بإكرامك إياي؟، وكيف بشكرك! لو جعل الله شكري في إحصاء ما أَوْليتَنِي، لم يأت على ذلك عَدِّي؟ وكيف بشكري! وأنت كهفي دون كل كهف لي؟ وكيف بشكري! وأنت لا ترضى لي ما أرضاه لي؟ وكيف بشكري! وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي؟ أم كيف بشكري! وأنت تُنْسينِي ما تقدم من إحسانك إليَّ، بما تجدِّده لي؟ أم كيف بشكري؟ وأنت
1 تغمده الله برحمته: غمره بها.
2 جمع مارق: وهو الخارج الحائد.
3 الدهماء: جماعة الناس.
4 قوتك.
5 توحده الله تعالى بعصمتة: عصمه ولم يكله إلى غيره.