الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
64-
مقال معاوية بن عبد الله:
قال معاوية بن عبد الله:
"أَفْتاءُ1 أهلِ بيتك أيها المهدي في الحِلْم على ما ذُكِر، وأهل خراسان في حال عز على ما وُصِف، ولكن إن ولَّى المهدي عليهم رجلًا ليس بقديم الذكر في الجنود. ولا بنبيه الصوت في الحروب، ولا بطويل التجربة للأمور، ولا بمعروف السياسة للجيوش، والهيبة في الأعداء دخل ذلك أمران عظيمان، وخطران مَهُولان، أحدهما أن الأعداء يغتمزونها منه، ويحتقرونها فيه، ويجترئون بها عليه في النهوض به، والمقارعة له، والخلاف عليه، قبل ما حين الاختبار لأمره، والتكشف لحاله، والعلم بطباعه؛ والأمر الآخر أن الجنود التي يقود، والجيوش التي يسوس، إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة، ولم يعرفوه بالصوت2 والهيبة، انكسرت شجاعتهم، وماتت نجدتهم واستأخرت طاعتهم، إلى حين اختباهم، ووقوع معرفتهم، وربما وقع البَوَار قبل الاختبار وبباب المهدي -وفقه الله- رجل مَهِيب نبيه حَنِيك3 صَيِّت، له نسب زاكٍ. وصوت عالٍ، قد قاد الجيوش وساس الحروب، وتألَّف أهل خراسان، واجتمعوا عليه بالمِقَة، وَوَثِقُوا به كل الثقة، فلو ولَّاه المهدي أمرهم، لكفاه الله شرهم".
قال المهدي: "جانبت قصد الرَّمِيَّة، وأبيت إلا عصبية إذ رأيُ الحدث من أهل بيتنا، كرأي عشرة حلماء من غيرنا. ولكن أين تركتم ولي العهد؟ ".
قالوا: لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده، ونسيج وَحْدِه4. ومن الدين وأهله. بحيث يقصر القول عن أدنى فضله، ولكن وجدنا الله عز وجل حَجَب عن
1 جمع فتى كيتيم وأيتام.
2 الصوت والصات والصيت: الذكر الحسن.
3 محنك.
4 هو نسيج وحده: لا نظير له منفرد بخصال محمودة لا يشركه فيما غيره، كما أن الثوب النفيس لا ينسج على منواله غيره، أي لا يشرك بينه وبين غيره في السدى.
خلقه، وستر دون عباده، علم ما تختلف به الأيام، ومعرفة ما تجري عليه المقادير من حوادث الأمور، وريب المنون1 المُخْتَرِمة لِخَوَالي القرون، ومواضي الملوك فكرهنا شُسُوعَه2 عن مَحَلَّة الملك، ودار السلطان، ومقر الإمامة والولاية، وموضع المدائن والخزائن، ومستقر الجنود، ومعدن الجود، ومجمع الأموال التي جعلها الله قُطبًا لمدار الملك، ومِصْيدة لقلوب الناس، ومثابة لإخوان الطمع، وثُوَّار الفتن، ودواعي البدع. وفرسان الضلال، وأبناء الموت، وقلنا إن وجَّه المهدي وليّ عهده، فحدث في جيوشه وجنوده، ما قد حدث بجنود الرسل من قبله، لم يستطعْ المهدي أن يُعَقِّبَهُم بغيره، إلا أن ينهض إليهم بنفسه، وهذا خطر عظيم، وهول شديد، إن تنفَّست الأيام بمقامه. واستدارت الحال بإمامه، حتى يقع عِوَض لا يُسْتَغْنَى عنه، أو يحدث أمر لا بدّ منه. صار ما بعده مما هو أعظم هولًا وأجل خطرًا، له تبعًا، وبه متصلًا".
1 المنون المنية "مؤنث" والمخترمة: المهلكة، والخوالي جمع خالية: وهي الماضية.
2 شسع كمنع شسعًا وشسوعا: بعد فهو شاسع وشسوع.
65-
مقال المهدي:
قال المهدي: "الخَطْبُ أيسر مما تذهبون إليه، وعلى غير ما تصفون الأمر عليه، نحن أهل البيت نجري من أسباب القضايا، ومواقع الأمور، على سابقٍ من العلم، ومحتوم من الأمر، قد أنبأت به الكتب، وتنبَّأَت عليه الرسل، وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا. وتكامل بِحَذَافِيرِه1 عندنا، فبه نُدَبِّر، وعلى الله نتوكل، إنه لا بُدّ لوليّ عهدي. ووليّ عهدٍ عقبي بعدي أن يقود إلى خراسان البعوث، ويتوجه نحوها بالجنود؛ أما الأول فإنه يُقَدم إليهم رسله، ويُعْمِل فيهم حِيَلَه. ثم يخرج نشيطًا إليهم حَنِقًا
1 جمع حذفور كعصفور أو حذفار كقرطاس: وهو الجانب.
عليهم. يريد أن لا يدع أحدًا من إخوان الفتن، ودواعي البدع، وفرسان الضلال. إلا توطَّأه بحرِّ القتل، وألبسه قناع القهر. وقلَّده طوق الذل، ولا أحدًا من الذين عملوا في قصِّ جناح الفتنة، وإخماد نار البدعة، ونُصْرَة وُلَاة الحق، إلا أجرى عليهم دِيم فضله، وجداول نَهْلِهِ، فإذا خرج مُزْمِعًا به، مجمعًا عليه، لم يَسِر إلا قليلًا حتى يأتيه أن قد عملت حيله، وكَدَحَت كتبه، ونَفَذت مكايده، فَهَدَأَت نافرة القلوب. ووقعت طائرة الأهواء، واجتمع عليه المختلفون بالرضا، فيميل نظرًا لهم، وبرًّا بهم. وتعطفا عليهم، إلى عدو قد أخاف سبيلهم وقطع طريقهم، ومنع حجاجهم بيت الله الحرام، وسلب تجارهم رزق الله الحلال؛ وأما الآخر فإنه يوجِّه إليهم، ثم تعتقد له الحجة عليهم بإعطاء ما يطلبون، وبذل ما يسألون، فإذا سمحت الفِرَق بقراباتها له. وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه، فأصغت إليه الأفئدة، واجتمعت له الكلمة. وقدمت عليه الوفود، قصد لأول ناحية بخعت1 بطاعتها، وألقت بأَزِمَّتِهَا، فألبسها جناح نعمته، وأنزلها ظلَّ كرامته وخصَّها بعظيم حبائه2، ثم عمَّ الجماعة بالمَعْدِلَةِ وتعطف عليهم بالرحمة، فلا تبقى فيهم ناحية دانية، ولا فرقة قاصية، إلا دخلت عليها بركته، ووصلت إليها منفعته، فأغنى فقيرها، وجبر كسيرها، ورفع وضيعها. وزاد رفيعها، ما خلا ناحيتين، ناحية يغلب عليها الشقاء، وتستميلهم الأهواء، فتستخف بدعوته، وتبطئ عن إجابته، وتتثاقل عن حقه، فتكون آخر من يبعث وأبطأ من يوجِّه، فيصطلي عليها موجدة، ويبتغي لها عِلَّة، لا يلبث يُجِد3 بحق يلزمهم، وأمر يجب عليهم، فتستلحمهم الجيوش، وتأكلهم السيوف، ويستحرّ بهم القتل، ويحيط بهم الأسْر، ويُفْنِيهم التتبُّع، حتى يُخَرِّب البلاد ويُؤْتِمَ الأولاد، وناحية لا يبسط لهم أمانًا، ولا يقبل لهم عهدًا، ولا يجعل لهم ذِمَّة، لأنهم أول من فتح باب الفُرقة.
1بخع بالحق بخوعًا: أقربه وخضع له.
2 عطائه.
3 يغضب.
وتدَّرع جلباب الفتنة، وربض في شِقّ العصا، ولكنه يقتل أعلامهم، ويأسر قوادهم ويطلب هُرَّابهم، في لجَج البحار، وقُلَل الجبال، وحَمِيل1 الأودية، وبطون الأرض. تقتيلًا وتغليلًا وتنكيلا، حتى يدع الدنيا خرابًا، والنساء أيامي، وهذا أمر لا نعرف له في كتبنا وقتا، ولا نصحِّح منه غير ما قلنا تفسيرًا. وأما موسى ولي عهدي، فهذا أوان تَوَجُّهه إلى خراسان، وحلوله بجُرْجان، وما قضى الله له من الشخوص إليها. والمقام فيها، خير للمسلمين مَغَبَّةً، وله بإذن الله عاقبة من المقام بحيث يُغْمَر في لجج بحورنا، ومدافع سيولنا، ومجامع أمواجنا، فيتصاغر عظيم فضله، ويتذاءب2 مشرق نوره، ويتقلَّل كثير ما هو كائن منه، فمن يصحبه من الوزراء، ويختار له من الناس؟ ".
1 الحميل: بطن المسيل.
2 يضطرب.
66-
مقال محمد بن الليث:
قال محمد بن الليث: "أيها المهدي: إن وليَّ عهدك أصبح لأمتك، وأهل ملتك، علما قد تثنَّت نحوه أعناقها، ومدت سَمْتَه أبصارها. وقد كان لقرب داره منك، ومحلِّ جواره لك، عُطْلَ1 الحال، غُفْلَ الأمر، واسع العذر. فأما إذا انفرد بنفسه. وخلا بنظره. وصار إلى تدبيره. فإن من شأن العامة أن تتفقَّد مخارج رأيه. وتستنصت لمواقع آثاره وتسال عن حوادث أحواله، في بِرِّه ومَرْحَمته. وإقساطه2 ومَعْدَلته، وتدبيره وسياسته، ووزرائه وأصحابه. ثم يكون ما سبق إليه أغلب الأشياء عليهم، وأملك الأمور بهم، وألزمها لقلوبهم، وأشدها استمالةً لرأيهم، وعطفا لأهوائهم. فلا يفتأ المهدي -وفقه الله- ناظرًا له فيما يقوِّي عَمَد مملكته، ويسدِّد أركان ولايته،
1 عطل "كفرح" من المال والأدب: خلا فهو عطل كقفل وعنق.
2 عدله.
ويستجمع رضا أمته بأمر هو أزين لحاله. وأظهر لجماله، وأفضل مَغَبَّةً لأمره، وأجل موقعًا في قلوب رعيته، وأحمد حالًا في نفوس أهل مِلَّته. ولا أدفعَ مع ذلك باستجماع الأهواء له. وأبلغَ في استعطاف القلوب عليه، من مرحمةٍ تظهر من فعله. ومعدلة تنتشر عن أثره. ومحبة للخير وأهله، وأن يختار المهديُّ -وفقه الله- من خِيار أهل كل بلدة. وفقهاء أهلِ كل مصر، أقوامًا تسكُن العامة إليهم إذا ذكروا، وتأنس الرعية بهم إذا وُصفوا. ثم تسهِّل لهم عِمَارة سُبُل الإحسان، وفتح باب المعروف كما قد كان فتح له، وسُهِّل عليه".
قال المهدي: صدقت ونصحت. ثم بعث في ابنه موسى، فقال:
67-
مقال المهدي:
"أي بنيَّ. إنك قد أصبحت لَسَمْت وجوه العامة نُصْبًا، ولمَثْنى أعطاف الرعية غاية، فحَسَنَتُكِ شاملة. وإساءتك نائية، وأمرك ظاهر، فعليك بتقوى الله وطاعته. فاحتمل سُخْط الناس فيهما، ولا تطلب رضاهم بخلافهما، فإن الله عز وجل كافيك مَنْ أَسْخطه عليك إيثارُك رضاه. وليس بكافيك مَنْ يُسْخطه عليك إيثارُك رضا مَنْ سواه، ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمان فترة من رسله. وبقايا من صفوة خلقه، وخبايا لنصرة حقه، يجدِّد حبل الإسلام بدعواهم، ويشيِّد أركان الدين بنصرتهم، ويتخذ لأولياء دينه أنصارًا، وعلى إقامة عدله أعوانًا. ويسُدُّون الخلل، ويقيمون المَيَل، ويدفعون عن الأرض الفساد، وإن أهل خراسان أصبحوا أيديَ دولتنا، وسيوف دعوتنا، الذين نستدفع المكاره بطاعتهم، ونستصرف نزول العظائم بمنَاصَحَتِهم. وندافع ريب الزمان بعزائمهم، ونُرَاحم ركن الدهر ببصائرهم، وهم عماد الأرض إذا أرجف كَنَفَها، وخوفُ الأعداء إذا برزت صفحتها، وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها، قد مضت لهم وقائع صادقات، ومواطن صالحات، أخمدت نيران
الفتن، وقسمت دواعي البدع. وأذلت رقاب الجبَّارين، ولم ينفكُّوا كذلك ما جَرَوْا مع ريح دولتنا، وأقاموا في ظل دعوتنا، واعتصموا بحبل طاعتنا، التي أعزَّ الله بها ذلتهم، ورفع بها ضَعَتهم، وجعلهم بها أربابًا في أقطار الأرض، وملوكا على رقاب العالمين بعد لباس الذل، وقناع الخوف، وإطباق البلاء، ومحالفة الأسى، وجَهْْْدَ البأس والضر. فظاهر عليهم لباس كرامتك، وأنزلهم في حدائق نعمتك، ثم اعرف لهم حق طاعتهم، ووسيلة دالَّتهم، وماتَّة سابقتهم، وحُرْمة مناصحتهم، بالإحسان إليهم، والتوسعة عليهم، والإثابة لمحسنهم، والإقالة لمسيئهم.
أي بني، ثم عليك العامة. فاستدع رضاها بالعدل عليها، واستجلب مودتها بالإنصاف لها، وتحسَّن بذلك لربك، وتوثَّق به في عين رعيتك، واجعل عُمَّال العذْر وولاة الحجج مُقدَّمة بين يدي عملك، ونَصَفة منك لرعيتك، وذلك أن تأمر قاضي كل بلد وخيار أهل كل مصر، أن يختاروا لأنفسهم رجلًا توليه أمرهم، وتجعل العدل حاكمًا بينه وبينهم، فإن أحسن حُمِدت، وإن أساء عُذِرت. هؤلاء عمال العذر، وولاة الحجج، فلا يسقطنَّ عليك ما في ذلك إذا انتشر في الآفاق، وسبق إلى الأسماع من انعقاد ألسنة المرْجِفِين، وكبت قلوب الحاسدين، وإطفاء نيران الحروب، وسلامة عواقب الأمور، ولا ينفكَّنَّ في ظل كرامتك نازلًا، وبِعُرَا حبلك متعلقا، رجلان: أحدهما كريمة من كرائم رجالات العرب، وأعلام بيوتات الشرف، له أدب فاضل، وحِلْم راجح، ودين صحيح، والآخر له دين غير مغموز، وموضع غير مدخول، بصير بتقليب الكلام، وتصرف الرأي، وأنحاء العرب، ووضع الكتب، عالم بحالات الحروب، وتصاريف الخُطُوب، يضع آدابًا نافعة، وآثارًا باقية، من محاسنك وتحسين أمرك، وتَحْلِيَة ذكرك، فتستشيره في حربك، وتدخله في أمرك، فرجل أصَبْتَه كذلك، فهو يأوي إلى مَحَلَّتي، ويرعى في خضرة جناني، ولا تدع أن تختار لك من فقهاء البلدان، وخيار الأمصار، أقوامًا يكونون جيرانك وسمارك، وأهل