الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
45-
مقام رجل من الزهاد بين يدي المنصور:
بينما المنصور يطوف ليلًا إذ سمع قائلًا يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فخرج المنصور، فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إلى الرجل يدعوه، فصلى الرجل ركعتين، واستلم الركن وأقبل مع الرسول، فسلم عليه بالخلافة، فقال المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور البغي والفساد في الأرض؟ وما الذي يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني1، قال: يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي، أنبأتك بالأمور من أصولها. وإلا احتجزت منك. واقتصرت على نفسي، ففيها لي شاغل، فقال: أنت آمن على نفسك فقل، فقال: يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع، حتى حال بينه وبين ما ظهر من البغي والفساد لأنت، قال: ويحك، وكيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء2 في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟ قال: وهل دخل أحدًا من الطمع ما دخلك؟ إن الله تبارك وتعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، فأغفلت أمورهم، واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجر. وأبوابًا من الحديد. وحجبة معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها عنهم، وبعثت عمالك في جباية الأموال وجمعها، وقويتهم بالرجال والسلاح والكراع، وأمرت بألا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان، نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف، ولا الجائع العاري، ولا الضعيف الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرت إلا يحجبوا عنك، تجبي الأموال وتجمعها ولا تقسمها، قالوا: هذا
1 أوجعني وآلمني.
2 الصفراء والبيضاء: الدنانير والدراهم.
قد خان الله، فما بالنا لا نخونه وقد سجن لنا نفسه؟ فأتمروا بألا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل، فيخالف أمرهم إلا قصبوه1 عندك ونفوه، حتى تسقط منزلته، ويصغر قدره، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، أعظمهم الناس هابوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال، ليقووا بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك، لينالوا به ظلم من دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيًا وفسادًا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينه وبين دخول مدينتك، فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك، وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت للناس رجلًا ينظر في مظالمهم، فإن جاءك ذلك الرجل، فبلغ بطانتك خبرة، سألوا صاحب المظالم ألا يرفع مظلمته إليك، فإن المتظلم منه له بهم حرمة، فأجابهم خوفًا منهم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه، ويلوذ به، ويشكو ويستغيث، وهو يدفعه ويعتل عليه، فإذا أجهد وأحرج وظهرت، صرخ بين يديك، فضرب ضربًا مبرحًا ليكون نكالًا لغيره، وأنت تنظر فلا تنكر، فما بقاء الإسلام على هذا؟ وقد كنت أمير المؤمنين أسافر إلى الصين فقدمتها مرة، وقد أصيب ملكها بسمعه، فبكى يومًا بكاءً شديدًا، فحثه جلساؤه على الصبر، فقال: أما إني لست أبكي للبلية النازلة بي، ولكني أبكي لمظلوم بالباب يصرخ، ولا أسمع صوته، ثم قال: أما إذا ذهب سمعي، فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس ألا يلبس ثوبًا أحمر إلا متظلم، ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره، وينظر هل يرى مظلومًا؟ فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله، غلبت رأفته بالمشركين شح نفسه، وأنت مؤمن بالله، ثم من أهل بيت نبيه، لا تغلب رأفتك بالمسلمين على شح نفسك؟ فإن كنت إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله عبرًا في الطفل، يسقط من بطن أمه،
1 عابوه وشتموه، وفي العقد الفريد:"خونوه".
وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فلا يزال الله يلطف بذلك الطفل، حتى تعظم رغبة الناس إليه، ولست بالذي تعطي، بل الله يعطي من يشاء ما شاء، وإن قلت إنما أجمع المال لتشديد السلطان، فقد أراك الله عبرًا في بني أمية، ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة، وأعدوا من الرجال والسلاح والكراع، حتى أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت إنما أجمع لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة، لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين، هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل؟ قال المنصور: لا، فكيف تصنع بالملك الذي خولك ملك الدنيا، وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل؟ ولكن بالخلود في العذاب الأليم، قد رأى ما قد عقد عليه قلبك، وعملته جوارحك، ونظر إليه بصرك، واجترحته1 يداك، ومشت إليه رجلاك، هل يغني عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا إذا انتزعه من يدك، ودعاك إلى الحساب؟ فبكى المنصور وقال: يا ليتني لم أخلق، ويحك! فكيف أحتال لنفسي؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلامًا يفزعون إليهم في دينهم، ويرضون بهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاروهم في أمرك يسددوك، قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني، قال: خافوا أن تحملهم على طريقتك، ولكن افتح بابك، وسهل حجابك، وانصر المظلوم، واقمع الظالم، وخذ الفيء والصدقات مما حل وطاب، واقسمه بالحق والعدل على أهله، وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويسعدوك على صلاح الأمة"، وجاء المؤذنون، فسلموا عليه، فصلى وعاد إلى مجلسه، وطلب الرجل فلم يوجد. "عيون الأخبار م 2: ص333، والعقد الفريد 1: 304".
1 اكتسبته.