الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مما لو أطلعني الله تعالى عليه لساءني، لكن الحمد لله الذي حفظ ما بين القلوب بستْر بعضها عن بعض، فيما يجول فيها، وإنك لذو همة ومطْمَح، ومن يكن هكذا يصبر ويَغْضِ ويحمل، ويُبٍدل بالعقاب الثواب، ويصيِّر الأعداء من قبيل الأصحاب، ويصبر من الشخص على ما يسوء، فقد يَرَى منه بعد ذلك ما يَسُرّ، ولقد يَخِفُّ عليَّ اليوم مَنْ قاسيتُ من فعله وقوله ما لو قطَّعتهم عضوا عضوا لما ارتكبوه مني، ما شفيتُ منهم غيظي، ولكن رأيت الإغضاء والاحتمال، لاسيما عند الاقتدار أولى، ونظرت إلى جميع من حولي ممن يحسن ويسيء، فوجدت القلوب متقاربة بعضها من بعض، ونظرت إلى المسيء يعود محسنًا، والمحسن يعود مسيئًا، وصرتُ أندم على من سبق له مني عقاب، ولا أندم على من سبق له مني ثواب؛ فالْزَم يا بني معاليَ الأمور، وإنَّ جِمَاعَها في التغاضي، ومن يتغاض لا يسلم له صاحب، ولا يُقْرَب منه جانب، ولا ينال ما تترقَّي إليه همته، ولا يظفر بأمله، ولا يجد معينًا حين يَحْتَاج إليه".
فقبَّل المنذر يده وانصرف، ولم يزل يأخذ نفسهُ بما أوصاه والده، حتى تخلّق بالخلق الجميل، وبلغ ما أوصاه به أبوه ورُفع قدره.
"نفح الطيب 2: 327".
5-
عبد الرحمن الأوسط وابنه المنذر أيضًا:
وقال له أبوه يومًا: إن فيك لَتيهًا مُفْرِطًا، فقال له: حُقَّ لفرعٍ أنت أصله أن يعلو، فقال له: يا بني، إن العيون تَمُجُّ التَّيَّاه، والقلوب تَنْفر عنه، فقال: يا أبي، لي من العز والنسب وعلوِّ المكان والسلطان ما يجلّ1 عنك ذلك، وإني لم أر العيون إلا مقبلةً عليّ، ولا الأسماع إلا مصغية إليّ، وإن لهذا السلطان رونقًا يريقه التبذّل، وعلوًّا يخفضه الانبساط، ولا يصونه ويشرِّفه إلا التِّيه والانقباض2، وإن هؤلاء الأنذال،
1 في الأصل: "يجمل"، وأرى صوابه:"يجل".
2 جرى وذلك على سنن أبي مسلم الخراساني، وكان يقول لقواده إذا أخرجهم:"لا تكلموا الناس إلا رمزًا، ولا تلحظوهم إلا شزرًا، لتمتلئ صدورهم من هيبتكم". انظر العقد الفريد 2: 299.