الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
83-
عبد الملك بن صالح يعزي الرشيد ويهنئه:
دخل عبد الملك بن صالح دار الرشيد، فقال له الحاجب: إن أمير المؤمنين قد أصيب الليلة بابن له، ووُلِد له آخر، فلما دخل عليه قال:"سرَّك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرك، وجعل هذه بهذه، مَثُوبة على الصبر، وجَزَاءً على الشكر".
"العقد الفريد 2: 35".
84-
غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح:
ونَصَبَ1 له ابنُه "عبد الرحمن" وكاتِبُه "قُمامَة" فسعيا به إلى الرشيد، وقالا له: إنه يطلب الخلافة، ويطمع فيها، فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع، وذكروا أنه أدخل على الرشيد حين سَخَطَ عليه، فقال له الرشيد: أكفرًا بالنعمة، وجحودًا لجليل المنَّة والتكرمة؟ فقال:"يا أمير المؤمنين، لقد بُؤْتُ2 إذن بالندم، وتعرضت لاستحلال النِّقَم، وما ذاك إلا بغيُ حاسد، نافَسَني فيك مودة القرابة، وتقديم الولاية، إنك يا أمير المؤمنين خليفة رسول -الله صلى الله عليه وسلم في أمَّته، وأَمِينُه على عِتْرَته، لك عليها فرض الطاعة وأداء النصيحة، ولها عليك العدل في حكمها، والتثبت في حادثها، والغُفْرَان لذنوبها"، فقال له الرشيد:"أتضع لي من لسانك، وترفع لي من جنانك؟ هذا كاتبك قمامة، يخبر بغلِّك وفساد نيتك، فاسْمَع كلامه"، فقال عبد الملك:"أعطاك ما ليس في عَقْده3، لعله لا يقدر أن يَعْضَهني4 ولا يَبْهَتَني بما لم يَعْرِفه مني"، وأُحْضِر قمامة، فقال له الرشيد: تكلم غير هائب ولا خائف، قال:"أقول إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك"،
1 عاداه.
2 رجعت.
3 أي ما يعتقده.
4 عضه كمنع: كذب ونم، وعضه فلانا: بهته وقال فيه ما لم يكن.
فقال عبد الملك: أهو كذاك يا قمامة؟ قال قمامة: نعم، لقد أردتَ خَتْل1 أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: وكيف لا يكذب عليَّ مِن خلفي، وهو يبهتني في وجهي؟ " فقال له الرشيد:"وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بِعُتُوِّكَ، وفساد نيتك، ولو أردتُ أن أحتج عليك بحجَّة لم أجد أعدل من هذين لك، فبمَ تدفعهما عنك؟ "، فقال عبد الملك:"هو مأمور، أو عاقّ مجبور، فإن كان مأمورًا: فمعذور، وإن كان عاقًّا: ففاجر كفور، أخبر الله عز وجل بعداوته، وحذَّر منه بقوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} ، فنهض الرشيد وهو يقول: "أما أمرك فقد وضح، ولكني لا أعجل حتى أعلم الذي يرضي الله فيك، فإنه الحَكَم بيني وبينك"، فقال عبد الملك: "رضيت بالله حَكَمًا، وبأمير المؤمنين حاكما، فإني أعلم أنه يُؤْثِر كتاب الله على ما هواه وأمر الله على رضاه".
فلما كان بعد ذلك جلس مجلسًا آخر، فسلم لما دخل، فلم يردَّ عليه، فقال عبد الملك: ليس هذا يومًا أحتجُّ فيه، ولا أجاذب منازعًا وخصمًا. قال: ولم؟ قال: لأن أوَّله جرى على غير السنة، فأنا أخاف آخره، قال: وما ذاك؟ قال: لم ترُدَّ عليَّ السلام، أنصف نَصَفة العوام، قال: السلام عليكم اقتداء بالسنة، وإيثارًا للعدل، واستعمالًا للتحية، ثم التفت نحو سليمان بن أبي جعفر فقال: وهو يخاطب بكلامه عبد الملك:
أريد حياته ويريد قتلي
…
عذيرك مِنْ خليلك من مُراد
ثم قال: "أما والله لكأني أنظر إلى شُؤْبُوبِها قد هَمَع2، وعارضها3 قد لَمَع،
1 ختله: خدعه.
2 الشؤبوب: الدفعة من المطر، وهمع: سال وانصب.
3 العارض: السحاب المعترض في الأفق، والضمير الفتنة المفهومة من سياق الحديث.
وكأني بالوعيد قد أَوْرَى نارًا تَسْطَع، فأقلع عن بَرَاجِمَ1 بلا مَعَاصِم، ورءوس بلا غَلَاصِم2 فمهلًا مهلا، فبي والله سَهُل لكم الوَعْر، وصفا لكم الكَدر، وألقت إليكم الأمور أثناء3 أزمَّتها، فنَذار لكم نذارِ قبل حلول داهيةٍ خبوط باليد، لَبُوط4 بالرجل". فقال عبد الملك: "اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولَّاك، وفي رعيته التي استرعاك، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلْتُ النصيحة، ومَحَضَت5 لك الطاعة، وشددت أَوَاخِيَ6 ملكك بأثقل من رُكْنَي يَلَمْلَم7، وتركت عدوَّك مشتغلا8، فالله الله في ذي رَحِمك أن تقطعه -بعد أن بَلِلْتَهُ9-بظن أفصحَ الكتاب لي بِعَضْهِه10، أو ببغي باغ يَنْهَس11 اللحم، ويَالَغُ12 الدَّم، فقد والله سهَّلت لك الوُعُور، وذلَّلُت لك الأمور، وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور، فكم من لَيْلِ تِمَامٍ13 فيك كابدتهُ، ومقامٍ ضيِّق لك قُمْتُه، كنت فيه كما قال أخو بني جعفر بن كلاب:
ومقامٍ ضيِّق وفرَّجْتُه
…
بِبَناني ولساني وجَدَلْ
لو يقوم الفيل أو فَيَّاله
…
زلَّ عن مثل مقامي وزَحَل14
فقال له الرشيد: "أما والله لولا الإبقاء على بني هاشم لضربت عنقك".
1 جمع برجمة كقنفدة: وهي مفاصل الأصابع، أو ظهر القصب من الأصابع، والمعاصم جمع معصم كمنبر: وهو موضع السوار أو اليد.
2 جمع غلصمة بالفتح وهي رأس الحلقوم وهو الموضع الناتئ في الحلق.
3 أثناء الشيء ومثانيه وطاقاته، واحدها ثني كحمل ومثناة بفتح الميم وكسرها.
4 لبط به الأرض ضرب، ولبط البعير كضرب: خبط بيده وهو يعدو.
5 أخلصت.
6 جمع آخية وتشدد: عروة تربط إلى وتد مدقوق وتشد فيها الدابة، وأخيت الدابة تأخية: صنعت لها آخية وربطتها بها.
7 يلملم أو ألملم أو يرمرم: ميقات اليمن: جبل على مرحلتين من مكة.
8 وفي رواية العقد: "وتركت عدوك سبيلًا تتعاوره الأقدام".
9 بللت فلانا: لزمته.
10 العضه بسكون الضاد وفتحها: الكذب والنميمة.
11 نهس اللحم كمنع وسمع: أخذه بمقدم أسنانه ونتفه.
12 ولغ الكلب في الإناء ومنه وبه يلغ كيهب ويالغ: شرب ما فيه بأطراف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه.
13 ليل التمام: أطول ليالي الشتاء.
14 زحل من مقامه: زال كتزحول.