الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبرزت لكم حقيقة حشركم، فكم تَرْكُضُون في طَلَق1 غفلتكم، وتغفلون عن يوم بعثكم، وللموت عليكم سيف مَسْلُول، وحُكْمُ عزم غير معلول، فكيف بكم يوم يُؤْخَذ كل بذنبه، ويُخْبَر بجميع كسبه، ويفرَّق بينه وبين صحبه، ويَعْدَم نُصْرة حزبه، ويشتغل بهَمِّه وكربه، عن صديقه وتِرْبِه، وتُنْشَر له رُقْعَة، وتعيَّن له بقعة؟ فَرَبَح عبد نظر وهو في مَهَلٍ لنفسه، وترسَّل في رَضِيِّ عمل جنة لحلول رمْسِه2 وكَسَر صنم شهوته، ليَقَرَّ في بُحْبُوحة3 قُدْسِه.
ومنها: فتنبًّه -ويحك- من سِنَتك ونومك، وتفكر فيمن هلك من صُحبتك وقومك، وهتف بهم من تعلم، وشَبَّ عليهم منه حرقٌ4 مُظْلِم، فَخَرِبَت بصحبته ربوعهم، وتفرقت لهوله جُمُوعُهم، وذلَّ عزيزهم، وخَسِئَ رفيعهم، وصَمَّ سميعهم، فخرج كل منهم عن قصره، ورُمِيَ غير مُوَسَّد في قبره، فهم بين سعيد في روضة مُقَرَّبٍ، وبين شَقِيٍّ في حفرة معذَّب، فنستوهِبُ منه عز وجل عصمة من كل خطيئة، وخصوصية تقي من كل نفس جريئة5".
"الإحاطة، في أخبار غرناطة 1: 154".
1 يقال: جرى الفرس طلقا أو طلقين: أي شوطا أو شوطين.
2 الرمس: القبر.
3 بحبوحة المكان: وسطه.
4 الحرق: النار ولهبها.
5 يلاحظ أن في الخطبة خمس كلمات فيها ألف وهي: قاهر. باهر. عاصيه. ففازوا. فنحًا
21-
خطبة القاضي عياض التي ضمنها سور القرآن:
وخطب القاضي أبو الفضل عياض1 خطبة ضمنها سور القرآن، فقال:
"الحمد لله الذي افتتح بالحمد كلامه، وبيَّن في سورة البقرة أحكامه، ومدَّ
_________
1 هو القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض ولد سنة 476هـ، بسبتة - بلد بمراكش على الساحل الشمالي ودخل الأندلس طالبا للعلم، فأخذ بقرطبة عن جماعة، وجمع من الحديث كثيرا، وكان له به كبير عناية، وكان إمام وقته فيه، وفي النحو واللغة واستقضى ببلده سبتة، ثم نقل منها إلى قضاء غرناطة، وتوفي بمراكش سنة 544هـ، قال المقري بعد أن أورد هذه الخطبة:"وفي نفسي من نسبها له شيء؛ لأن نفس القاضي في البلاغة أعلى من هذه الخطبة، والله تعالى أعلم".
في آل عمران والنساء مائدة الأنعام لِيُتِمَّ إنعامه، وجعل في الأعراف أنفال توبة يونس وألر كتاب أحكمت آياته، بمجاورة يوسف الصِّدِّيق في دار الكرامة، وسبَّح الرعد بحمده، وجعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم؛ ليؤمن أهل الحجر1 أنه إذا أتى أمر الله سبحانه فلا كَهْفَ ولا ملجأ إلا إليه، ولا يُظْلَمُون قُلَامَة، وجعل في حروف كهيعص سرًا مكنونًا، قدَّم بسببه طه صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء ليظهر إجلاله وإعظامه، وأوضح الأمر حتى حجَّ المؤمنون بنور الفرقان، والشعراء صاروا كالنمل ذلًّا وصغارا لعظمته، وظهرت قَصَص العنكبوت فآمن به الروم، وأيقنوا أنه كلام الحيّ القيوم، نزل به الروح الأمين على زَيْن من وَافَى يوم القيامة، وأوضح لقمان الحكمة بالأمر بالسجود لربِّ الأحزاب، فَسَبَا فاطر السموات أهل الطاغوت، وأكْسَبَهم ذلا وخِزْيا وحَسْرة وندامة، وأمدَّ يس صلى الله عليه وسلم بتأييد الصَّافَّات2، فصاد الزُّمر يوم بدره، وأوقع بهم ما أوقع صناديدهم في القَليب3 مكدوس ومكبوب، حين شَالَت بهم النَّعامة4، وغفر غافر الذنب وقابل التوب للبدريين رضي الله عنهم ما تقدم وما تأخر حين فُصِّلَت كلمات الله، فذلّ من حقت عليه كلمة العذاب وأَيِسَ من السلامة، ذلك بأنَّ أمرهم شورى بينهم، وشغلهم زخرف الآخرة عن دخان الدنيا، فجثوا أمام الأحقاف5 لقتال أعداء محمد صلى الله عليه وسلم يمينه وشماله وخلقه وأمامه، فأُعطوا الفتح وبُوِّئُوا حُجُرَات الجنان، وحين تلوا: ق والقرآن المجيد، وتدبَّروا جواب قسم الذاريات6 والطور، لاح لهم نجم الحقيقة وانشقَّ لهم قمر اليقين، فنافروا السآمة، ذلك بأنهم أمَّنهم الرحمن إذا وقعت الواقعة،
1 واد بين المدينة والشام، وهو منازل ثمود.
2 الملائكة تصف نفوسها للعبادة.
3 القليب: البئر.
4 شالت نعامتهم: خفت منازلهم منهم، أو تفرقت كلمتهم، أو ذهب عزهم.
5 واد باليمن به منازل عاد.
6 الذاريات: الرياح تذر والتراب وغيره.
واعترف بالضعف لهم الحديد، وهزم المجادلون، وأُخْرِجوا من ديارهم لأول الحشر يُخْرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، حين نافروا السلامة.
أحمده حمد من امتحنته صفوف الجموع في نَفَق التَّغَابن، فطَّلق الحرمات حين اعتبر الملك وعامَه، وقد سمع صريف القلم وكأنه بالحاقة1 والمعارج يمينه وشماله وخلفه وأمامه، وقد ناح نوح الجن فتزمَّل2 وتدثَّر فَرَقًا من يوم القيامة، وأنس بمُرْسَلَات النبأ، فنزع العُبُوس من تحت كُور العمامة، وظهر له بالانفطار التطفيف، فانشقت بُرُوج الطارق بتسبيح الملك الأعلى وغَشِيَته الشهامة، فوربِّ الفجر والبلد والشمس والليل والضحى، لقد انشرحت صدور المتقين، حين تلوا سورة التين، وعَلِق الإيمان بقلوبهم، فكل على قدر مقامه يُبِين، ولم يكونوا بمنفكين دهرهم، ليله ونهاره وصيامه وقيامه، إذا ذكروا الزلزلة ركبوا العاديات3 ليطفئوا نور القارعة، ولم يلههم التكاثر حين تلو سورة العصر والهمزة، وتمثلوا بأصحاب الفيل فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. أرأيتم كيف جعلوا على رءوسهم من الكور عمامة؟ فالكوثر4 مكتوب لهم، والكافرون خذلوا، وهم نُصِروا، وعدل بهم عن لهب الطَّامَّة، وبسورة الإخلاص قَرُّوا سعدوا، وبرب الفلق5 والناس، استعاذوا فَأُعِيذوا من كل حزن وهم وغم وندامة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، شهادة تُنال بها منازل الكرامة -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه ما غرَّدَتْ في الأَيْكِ حَمَامة".
"نفح الطيب 4: 391".
1 الحاقة: القيامة التي فيها يحق ما أنكر من البعث والجزاء.
2 تزمل بثيابه: تلفف بها، وكذا تدثر.
3 الخيل تعدو في الغزو، والقارعة التي تقرع القلوب بأهوالها.
4 الكوثر: نهر في الجنة.
5 الفلق: الصبح.