الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُنَاخ ارتحال، وتأميل الإقامة فرض مُحَال. فالموعد للالتقاء دار البقاء. جعل الله من وراء خُطَّته النجاة، ونَفَّق بضائعها المُزْجاة1 بلطائفه المرتجاة. والسلام عليكم من حبيبكم المودِّع. والله سبحانه يُلْئِمه2 حيث شاء من شَمْلٍ متصدِّع. والدكم محمد بن عبد الله بن الخطيب ورحمة الله وبركاته.
"نفح الطيب 4: 419".
1 بضاعة مزجاة: رديئة أو قليلة يردها ويدفعها من رآها رغبة عنها، ونفق السلعة تنفيقًا: روجها.
2 لأم الجرح والصدع كقطع، وألأمه: سده.
18-
خطبة وعظية له:
وصدر عنه على لسان واعظ: "الحمد لله الواليّ الحميد. المبدئ المعيد. البعيد في قُرْبه من العبيد، القريب في بُعْده وهو أقرب من حبل الوريد1. محيي ربُوع العارفين بتحيَّات حياة التوحيد. ومُفْنِي نفوس الزاهدين بكنوز احتقار الافتقار إلى العَرَض الزهيد. ومُخَلِّص خواطر المُحَقِّقين من سجون دُجُون2 والتقييد. إلى فُسَح التجريد. نحمده وله الحمد المنتظِمَةُ دُرَرُه في سلوك الدوام. وسُمُوط3 التأييد. حمد من نَزَّه أحكام وحدانيَّته. وأعلام فردانيَّته، عن مَرَابط التقييد، ومَخَابط الطبع البَلِيد، ونشكره شكر من افتتح بشكره أبواب المزيد، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو شهادة نتخطَّى بها معالم الخلق، إلى حضرة الحق، على كَبِد التَّفْرِيد، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله قِلَادة الجِيد المَجِيد، وهلال العيد، وفَذْلَكَة الحساب، وبيت القصيد، المخصوص بمنشور الإدلال4، وإقطاع الكمال، بين مقام المُرَاد ومقام المُرِيد، الذي جعله السبب الأوصل في نَجَاةِ النَّاجِي وسعادة السَّعِيد، وخاطب الخلائق على لسانه الصادق بِحُجَّتَي الوعد والوعيد، فكان مما أوحى به إليه، وأنزل المَلَك به عليه، من الذكر الحميد، ليأخذ
1 مرق في العنق.
2 أي ظلام التقييد، والدجون جمع دجن بالفتح: وهو إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء.
3 سموط جمع سمط بالكسر: وهو خيط النظم.
4 أدل عليه: وثق بمحبته.
بالحجَزِ1 والأطواق من العذاب الشديد: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، وصلى الله عليه وعلى آله صلاة تقوم ببعض حقِّه الأكيد، وتَسْري إلى تربته الزَّكية من ظهور المواجد الجاثية على البَرِيد:
قعدت لتذكير، ولو كنتُ منصفا
…
لذكرت نفسي فهي أحوج للذِّكرى
إذا لم يكن مني لنفسي واعظٌ
…
فيا ليت شعري كيف أفعل في الأخرى؟
آهِ، أي وعظ بعد وعظ الله تعالى يا أحبابنا يُسْمَع، وفي ماذا -وقد تبيَّن الرشد من الغي- يُطْمَع؟ يا من يُعْطِي ويمنع، إذا لم تُقِم الصنيعة فماذ نصنع؟ اجْمَعْنَا بقلوبنا يا من يُفَرِّق ويجمع، وليِّن حديدها بنار خشيتك، فقد استعاذ نبيُّك صلى الله عليه وسلم من قلب لا يَخْشَع، ومن عين لا تدمع: اعلموا رحمكم الله أن الحكمة ضالَّة المؤمن يأخذها من الأقوال والأحوال، ومن الجماد والحيوان، وما أملاه المَلَوَان2، فإن الحق نور لا يضرّه أَنْ صَدَر من الخامل ولا يقصِّر بمحموله احتقارُ الحامل، وأنتم تدرون أنكم في أَطْوَار سَفَر لا تستقرّ لها دون الغاية رحلة، ولا تتأَتَّى معها إقامة ولا مُهْلَة، من الأصلاب إلى الأرحام إلى الوجود، إلى القبور إلى النشور إلى إحدى داري البقاء، أفي الله شك؟ فلو أبصرتم مسافرا في البَرِّيَّة يبني ويفرش، ويمهِّد ويعرِّش، ألم تكونوا تضحكون من جهله، وتَعْجَبُون من ركاكة عقلة؟ ووالله ما أموالكم ولا أولادكم وشَوَاغِلُكم عن الله، التي فيها اجتهادكم، إلا بقاءُ سفر3 في قَفْر، أو إعراس
1 الحجز جمع حجزة كفرصة: وهي معقد الإزار، ومن السراويل موضع التكة.
2 الملوان: الليل والنهار.
3 السفر: جماعة المسافرين.
في ليلة نَفْر1، كأنكم بها مُطَّرحة تَعْبُر فيها المواشي، وتنبو العيون عن خبرها المتلاشي {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ما بعد المَقِيل إلا الرحيل، ولا بعد الرحيل إلا المنزلُ الكريم، أو المنزل الوبيل، وإنكم تَسْتَقْبِلُون أهوالا، سَكَرَاتُ الموت بَوَاكِر حسابها، وعَتَب أبوابها، فلو كشِف الغطاء عن ذَرَّة منها لَذَهَلت العقول وطاشت الألباب، وما كل حقيقة يشرحها الكلام، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أفلا أعددتم لهذه الوَرْطَة حِيلَة، وأظهرتم للاهتمام بها مَخِيلةً2! أتعويلا على عفوه مع المقاطعة؟ وهو القائل في مقام التهديد:{إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} ، أََأَمْنًا من مكره من المنابذة؟ {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} أطََمَعًا في رحمته مع المخالفة؟ وهو يقول:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ، أَمُشاقَّةً ومُعَانَدَةً؟ {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، أشكًّا في الله؟ فتَعَالوا نعيد الحساب، ونقرِّر العَقْد، ونَتَّصف بدعوة الحق "أو غيرها" من اليوم، يُفْقَدُ عَقْدُ العقائِد عند التساهل بالوعيد3، فالعاميُّ يُدْمِي الأصبع الوَجِعَة، والعارف يضمِّد لها مبدأ العَصَب:
هكذا هكذا يكون التَّعامي
…
هكذا هكذا يكون الغرور
{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وما عدا مما بدا، ورسولكم الحريص عليكم الرءوف الرحيم يقول لكم:"الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت؛ والأحمق من أتْبَعَ نفسه هواها، وتَمَنَّى على الله الأماني" فَعَلام بعد هذا المعوِّل، وماذا بتأوَّل؟ اتقوا الله تعالى في نفوسكم وانصحوها واغتنموا فرص الحياة وارتجوها، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ
1 أعرس القوم وعرسوا: نزلوا في آخر الليل للاستراحة، ونفر الحاج من منى كضرب نفرا ونفورا.
2 المخيلة: الظن.
3 أي أن المرء إذا لم يحسب لوعيد الله حسابًا، استرسل في اقتراف المعاصي والموبقات، وأفضى به ذلك إلى زلزلة العقيدة، ولو أنه كان خالص الإيمان لارعوى عما نهى عنه.
فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} ، وتنادي أخرى:{هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} ، وتستغيث أخرى:{يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَل} ، وتقول أخرى:{رَبِّ ارْجِعُونِ} ، فرحم الله من نظر لنفسه، قبل غروب شمسه، وقدَّم لغده من أمسه، وعلم أن الحياة تَجُرُّ إلى الموت، والغفلة تقود إلى الفَوْت، والصحَّة مَرْكَب الألم، والشبيبة سفينة تَقْطَع إلى ساحل الهرم".
وإن شاء قال بعد الخطبة:
"إخواني، ما هذا التواني؟ والكلَف بالوجود الفاني، عن الدائِم الباقي، والدهر يقطع الأماني، وهادم اللذات قد شرع في نقض المباني، ألا معتبر في عالم هذه المعاني، ألا مرتحل عن مَغَابِن هذه المَغَانِي1؟
ألا أُذُنٌ تصغى إليّ سَمِيعة
…
أُحَدِّثُها بالصدق ما صَنَع المَوْتُ
مددتُ لكم صوتي فأوَّاه حسرةً
…
على ما بدا منكم فلم يُسْمَع الصوت
هو القَدَر الآتي على كل أمة
…
فتوبوا سِرَاعًا قبل أن يقع الفَوْتُ
يا كَلِفًا بما لا يدوم، يا مفتونًا بغرور الوجود المعدوم، يا صَرِيع جدار الأجل المهدوم، يا مشتغلا ببنيان الطُّرُق قد ظهر المناخ وقَرُبَ القُدُوم، يا غريقًا في بحار الأمل ما عساك تعوم! يا مُعَلَّل الطعام والشراب، ولَمْعِ السَّرَاب2، لا بد أن تهجُر المشروب وتترك المطعوم، دَخَل سارقُ الأجل بيتَ عمرك فَسَلب النشاط وأنت تنظر، وطَوَى البساط وأنت تُكْرَب3، واقتلع جواهر الجوارح، وقد وقع بك النَّهْب، ولم يَبْقَ إلا أن يجعل الوسادة على أنفك ويقعد:
لو خُفِّفَ الوجْدُ عني
…
دعوتُ طالب ثاري
{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ، كيف التَّرَاخي والفوتُ مع الأنفاس يُنْتظر،
1 المغاني: جمع مغنى وهو المنزل.
2 السراب: ما يرى وسط النهار كأنه ماء.
3 كربه الغم كنصر: اشتد عليه.
كيف الأمان وهاجِم الموت لا يبقى ولا يَذَر، كيف الركون إلى الطمع الفاضح وقد صَحَّ الخبر؟ من فكَّر في كرب الخُمار1 تَنَغَّصَت عنده لذةُ النبيذ، من أحَسَّ بلفظ2 الحريق فوق جداره، لم يُصْغِ بصوته لنغمة العود، من تَيَقَّنَ بِذُلّ العُزْلَةِ، هان عليه ترك الولاية.
ما قام خيرك يا زمان بشرِّه
…
أولى لنا ما قلَّ منك وما كَفَى
أوحى الله سبحانه إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه: أن ضَعْ يَدَك على مَتْنِ ثور فَبِعَدَد ما حاذته من شعره تعيش سنين، فقال يا رب وبعد ذلك؟ قال: تموت، قال: يا ربا فالآن.
رأى الأمر يُفضي إلى آخرٍ
…
فصيَّر آخِرَه أوَّلا
إذا شعرت نفسك بالميل إلى شيء فأعرض عليها غُصَّة فِراقه {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} فالمفروح به هو المحزون عليه، أين الأحباب مرُّوا؟ فيا ليت شعري أين استقروا؟ استكانوا والله واضطرُّوا، واستغاثوا من سَبَقَك3 بأوليائهم ففرُّوا، وليتهم إذ لم ينفعوا ما ضرُّوا، فالمنازل من بعدهم خالية خاوية، والعروش ذابلة ذاوية، والعظام من بعد التفاصل متشابهة متساوية، والمساكن تَنْدُب في أطلالها الذئابُ العاوية.
صِحْتُ بالرَّبْع فلم يستجيبوا
…
ليت شعري أين يمضي الغريب؟
وبجنب الدار قبر جديد
…
منه يستسقى المكان الجَدِيب
غاض قلبي فيه عند التماحي
…
قلت: هذا القبر فيه الحبيبُ4
لا تَسَل عن رجعتي كيف كانت
…
إن يوم البَيْن يوم عصيب
1 الخمار: صداع الخمر وأذاها.
2 أي برميه.
3 هكذا في الأصل، وكان يمكن أن يقول:"واستغاث من سبقك بأوليائهم" إلا أن يخرج على أن "من" مبتدأ مؤخر كما في قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} وقوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أو "من" بدل من واو الجماعة.
4 لمحه وألمحه والتمحه: إذا أبصره بنظر خفيف.
باقتراب الموت علَلتُ نفسي
…
بعد إِلْفِي، كلُّ آتٍ قريبُ
أين المعمًّر الخالد، أين الولد أين الوالد، أين الطارف أين التالد، أين المجادل أين المجالد؟ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} 1 وجوه عَلَاهُنَّ الثَّرى، وصحائف تُفَضّ، وأعمال على الله تُعْرَض، بَحَثَ الزُّهَّاد والعبَّاد، والعارفون والأوتاد، والأنبياء الذين يُهْدَي بهم العباد، عن سبب الشقاء الذي لا سعادة بعده، فلم يجدوا إلا البعد عن الله تعالى، وسببه حبُّ الدنيا، "لن تجتمع أمتي على ضلالة".
هجرتُ حبائبي من أجل ليلى
…
فما لي بعد ليلى من حبيبِ
وماذا أرتجى من وصل ليلى
…
سَتَجْزِي بالقطيعة عن قريب
وقالوا: ما أورد النفس الموارد، وفتح عليها باب الحَتْفِ إلا الأمل، كلما قَوَّمَتها مَثَاقِفُ الحدود، فتح لها أركان الرُّخَصِ. كلما عَقَدَت صومَ العزيمة، أهداها طُرَف الغُرُور في أطباق "حتى وإذا ولكن وربَّما" فأفرط القلب في تقليبها حتى أفْطَر:
ما أَوْبَقَ الأنفس إلا الأملُ
…
وهو غرورٌ ما عليه عمل
يفرض منه الشخص وهمًا مَالَه
…
حالٌ ولا ماضٍ، ولا مستقبل
ما فوق وجه الأرض نفس حيَّةٌ
…
إلا قد انقضَّ عليها الأجل
لو أنهم من غيرها قد كُوِّنُوا
…
لامتلأ السهل بهم والجبل
ما ثَمَّ إلا لقم قد هُيئَت
…
للموت، وهو الأكل المستعجل
والوعد حق، والورى في غفلة
…
قد خودِعوا بعاجل وضُلِّلُوا
أين الذين شَيَّدُوا واغترسوا
…
ومهَّدُوا وافترشوا وظُلِّلوا؟
1 الركز: الصوت الخفي.
أين ذوو الراحات زادت حسرة
…
إذ جنبوا إلى الثرى وانتقلوا1
لم تدفع الأحباب عنهم غير أن
…
بَكَوا على فراقهم وأعولُوا
الله في نفسك أولى من له
…
ذخرت نصحًا وعتابا يُقْبَل2
لا تتركَنْها في عمىً وحيرة
…
عن هول ما بين يديها تَغْفُل
حَقِّر لها الفاني، وحاول زُهْدَها
…
وشوِّقها إلى الذي تستقبل
وفِدْ إلى الله بها مضطرة
…
حتى ترى السير عليها يسهل3
هو الفناء، والبقاء بعده
…
والله عن حكمته لا يسأل
يا قرة العين ويا حسرتها
…
يوم يُوَفَّى الناس ما قد عَمِلوا
يا طُرُد4 المخالفة، إنكم مُدْرَكون، فاستبقوا باب التوبة، فإن ربَّ تلك الدار يجير ولا يُجَار عليه، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما هداكم، يا طُفَيْلَية الهمَّة، دُسُّوا أنفسكم بزمر التائبين، وقد دعوا دعوة الحبيب، فإن لم يكن أكلٌ فلا أقلَّ من طيب الوليمة، قال بعض العارفين: إذا عَقَدَ التائبون الصلح مع الله تعالى، انتشرت رعايا الطاعة في عمالة الأعمال، {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ} معاني هذا المجلس والله نَسِيم سَحَر، إذ استنشقه مخمور الغَفْلَةِ أفاق، سَعُوط5 هذا الوعظَ يَنْقُضُ6 إن شاء الله زَكْمة البَطالة، إن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، إِكْسِير7 هذا الكتاب يلقَّب بحكمة جابر8، القلوب المنكسرة عين من كان له قلب
1 جنبه: دفعه.
2 أي: اتق الله في نفسك التي هي أولى.. إلخ.
3 فد: أمر من وفد أي أقدم.
4 الطريدة: ما طردت من صيد أو غيره.
5 في الأصل "سوط" وأراه محرفًا عن "سعوط" كما يدل عليه سياق الكلام، والسعوط: الدواء يصب في الأنف.
6 في الأصل "يبغض" وأراه "ينقض" أي يذهب.
7 الإكسير: الكيمياء.
8 يريد جابر بن حيان. قال ابن القفطي في تاريخ الحكماء في ترجمته "هو جابر بن حيان الصوفي الكوفي، وكان متقدمًا في العلوم الطبيعية، وفي صناعة الكيمياء.... إلخ" وذكره ابن زيدون في رسالته الهزلية، فقال:"وأظهرت جابر بن حيان على سر الكيمياء" قال ابن نباتة في سرح العيون: "وأما جابر بن حيان المذكور فلا أعرف له ترجمة صحيحة في كتاب يعتمد عليه، وهذا دليل على قول أكثر الناس أنه اسم موضوع وضعه المصنفون في هذا الفن، وزعموا أنه كان في زمن جعفر الصادق، وأنه إذا قال في كتبه: قال لي سيدي، وسمعت من سيدي، فإنه يعني به جعفرًا الصادق، وقد قدمنا لك أن جعفرًا الصادق توفي سنة 148هـ.
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} إلهي دُلُّنا من حَيرة يضلُّ فيها -إلا إن هَدَيْتَ- الدليلُ، وأَجِرْنَا من غَمْرة1 وكيف -إلا بإغاثتك- السبيلُ، نفوسٌ صَدِئ من مَرِّ الأزمان منها الصَّقِيل، ونَبَا بِجُنُوبها عن الحق المَقِيل -وآذان أنهضها القول الثقيل، وعَثَرات لا يقبلها إلا أنت يا مُقِيل العثرات يا مُقِيل، أنت حسبُنا ونعم2 الوكيل".
"نفح الطيب 4: 85".
1 الغمرة: الشدة.
2 أورد المقري في نفح الطيب للسان الدين عقب ذلك كلامًا آخر في الوعظ وهو على نمط ما أوردناه لك فانظره هناك إن شئت.
19-
وصية موسى بن سعيد العَنْسي 1 لابنه:
قال أبو الحسن علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد العَنْسي:
لما أردت النهوض من ثغر الإسكندرية إلى القاهرة، أول وصولي إلى الإسكندرية رأى أبي أن يكتب لي وصية أجعلها إمامًا في الغربة، فبقي فيها أياما إلى أن كتبتها عنه، وهي هذه:
أُودِعك الرحمن في غربتك
…
مرتقبا رحماه في أَوْبَتِك
1 هو الكاتب الشهير أبو عمران موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد العَنْسي، من سلالة عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه، وقد نَوَّه به ابن هود ملك الأندلس، وولاه الجزيرة الخضراء، وهو ممن رحل من علماء الأندلس إلى المشرق، وتوفي بالإسكندرية سنة640هـ عن 67 عاما. وكان أبوه محمد وزيرا جليلا بعيد الصيت، عالي الذكر، رفيع الهمة، كثير الأموال، وكان ذا حظوة لدى الموحدين، وولي لهم أعمالا كثيرة بمراكش وإشبيلية وغرناطة، واتصلت ولايته على أعمال غرناطة، وكان من شيوخها وأعيانها.
وكان جده عبد الملك بن سعيد صاحب قلعة بني سعيد تحت طاعة على بن يوسف بن تاشفين مالك البربر، إلى أن استبد بها سنة 39هـ.
وابنه أبو الحسن علي هو متمم كتاب: "المغرب في أخبار المغرب"، وكان السبب في تأليفه هو جده عبد الملك بن سعيد، ثم تممه ابنه محمد بن عبد الملك، ثم تمم ما بقي منه ابنه موسى بن محمد، ثم أربى على الجميع في إتمامه علي بن موسى، وقد ذكر في خطبته أنه بدئ فيه من سنة 530، ومنها إلى غرة سنة 641هـ، وكان مولد أبي الحسن بغرناطة سنة 610، ووفاته بتونس سنة 685هـ.
وما اختياري كان طَوْعَ النَّوَى
…
لكنني أَجْرِي على بُغْيَتِكْ1
فلا تطل حبل النوى، إنني
…
والله أشتاق إلى طَلْعَتك
من كان مفتونا بأبنائه
…
فإنني أمعَنْتُ في خِبْرَتِك
فاحتضر التوديع أخذا، فما
…
لي ناظر يقوِّي على فُرْقتك
واجعل وَصَاتي نصب عين، ولا
…
تبرح مدى الأيام من فكرتك
خُلاصة العمر التي حُنِّكَتْ
…
في ساعة زُفَّت إلى فِطنتك2
فللتجارِيب أمورٌ إذا
…
طالعتها تشحذ من غفلتك
فلا تَنَم عن وعيها ساعة
…
فإنها عون إلى يقظتك3
وكلّ ما كابَدْتَه في النَّوَى
…
إياك أن يكسر من همَّتك
فليس يُدْرِي أصل ذي غُرْبَة
…
وإنما تعرف من شيمتك
وكل ما يفضى لعذرٍ فلا
…
تجعله في الغربة من إِرْبَتِك4
ولا تجالس من فشا جهله
…
واقصد لمن يرغب في صنعتك
ولا تجادل أبدا حاسدا
…
فإنه أدعى إلى هيبتك
وامش الهُوَينى مظهرا عِفَّةً
…
وابغِ رضا الأعين عن هيبتك
أفشِ التحيَّات إلى أهلها
…
ونَبِّه الناس على رُتْبَتك
وانْطَلِق بحيث العِيُّ مستقبَح
…
واصمت بحيث الخير في سكتَتِك
ولا تَزَل مجتمعًا طَالِبا
…
من دهرك الفرصة في وثبتك
وكلما أبصرتها أمكنت
…
ثب واثقا بالله في مَكْنَتِك5
ولِجْ عَلَى رزقك مِنْ بِابِه
…
واقصِد له ما عِشْت في بُكْرتِك
1 النوى: البعد.
2 حنكت: أحكمت.
3 اليقظة بالتحريك وسكنه للشعر.
4 الإربة: الحاجة.
5 المكنة بفتح فكسر: التمكن والقدرة، وسكنه للشعر.
وايأْس من الودِّ لديّ حاسد
…
ضدٍّ، ونافسه على خطَّتك1
ووفِّر الجهد، فمن قصده
…
قصدك لا تَعْْْْْْتِبْه في بِغْضَتِك
ووفِّ كلًا حقه، ولتكن
…
تكسر عند الفخر من حدتك
ولا تكن تحقر ذا رتبةٍ
…
فإنه أنفع في غربتك
وحيثما خيَّمت فاقصد إلى
…
صُحبةِ من ترجوه من نُصْرَتِكْ
وللرَّزَايا وثبة، ما لها
…
إلا الذي تذخر من عُدَّتك
ولا تقل: "أَسْلَمُ لي وَحْدَتِي"
…
فقد تقاسى الذلَّ في وحدتك
والتزم الأحوال وزنا ولا
…
ترجع إلى ما قام في شهوتك
ولتجعل العقل مِحَكًّا، وخذ
…
كلا بما يظهر في نقدتك
واعتبر الناس بألفاظهم
…
واصحب أخا يرغب في صحبتك
بعد اختبار منك يقضي بما
…
يحسن في الآخذ من خلطتك2
كم من صديق مُظْهِرٍ نصحه
…
وفكره وقف على عثرتك
إياك أن تَقْرَبه، إنه
…
عون مع الدهر على كربتك
واقنع إذا لم تجد مَطْمَعًا
…
واطمع إذا أنعشت من عُسْرَتك
وانْمُ نموَّ النبت قد زاره
…
غِبُّ الندى، واسم إلى قدرتك
وإن نبا دهر فوطِّن له
…
جاشك، وانظره على مُدَّتك
فكل ذي أمر له دولة
…
فَوَفِّ ما وافاك في دولتك
ولا تُضَيِّع زمنا ممكنا
…
تَذْكَاره يذْكي لظى حسرتك
والشَّرّ مهما اسطعت لا تأتِهِ
…
فإنه حوز على مُهْجَتِك3
1 في الأصل "وأس من الرد......" وقد أصلحته وايأس" "وبه يستقيم المعنى".
2 الخلطة مثل العشرة وزنا ومعنى، والخلطة بالضم: اسم من الاختلاط، مثل الفرقة من الافتراق.
3 حازه حوزا: جمعه وضمه وامتلكه كاحتازه احتيازا، والمعنى: أنك إن أتيت الشر استحوذ على نفسك وتملكك.
يا بُنَيَّ الذي لا ناصح له مثلي، ولا منصوح لي مثله، قد قدمت لك في هذا النظم ما إن أَخْطَرته بخاطرك في كل أوان، رجوتُ لك حسن العاقبة إن شاء الله تعالى، وإن أخفَّ منه للحفظ، وأعلَقَ بالفكر، وأَحَقَّ بالتقدم قول الأول:
يزين الغريب إذا ما اغترب
…
ثلاث فمنهن: حسن الأدب
وثانية: حسن أخلاقه
…
وثالثة: اجتناب الرِّيب
وإذا اعتبرت هذه الثلاثة، ولَزِمْتَها في الغربة، رأيتها جامعة نافعة، لا يَلْحَقُك إن شاء الله مع استعمالها نَدَم، ولا يفارقك برٌّ ولا كَرَم، ولله دَرُّ القائل:
يُعَدُّ رفيع القوم من كان عاقلا
…
وإن لم يكن في قومه بحسيب
إذا حَلَّ أرضا عاش فيها بعقله
…
وما عاقل في بلدة بغريب
وما قصَّر القائل حيث قال:
واصبر على خُلُق من نعاشره
…
ودَارِه، فاللبيب مَنْ دَارَى
واتَّخِذِ الناس كلهم سكنا
…
ومَثِّل الأرض كلها دارا
واصْغِ يا بُنَيّ إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر1، وسُلَّم الكرم والصبر:
ولو أنَّ أوطان الديار نَبَتْ بكم
…
لسكنتم الأخلاق والآدابا2
إذ حسن الخلق أكرم نزيل، والأدب أرحب منزل، ولتكن كما قال بعضهم في أديب متغرب:"وكان كلما طرأ3 على ملك، فكأنه معه وُلِد، وإليه قُصِد، غير مُسْتَريب بدهره، ولا مُنْكرا شيئًا من أمره"، وإذا دعاك قلبك إلى صحبةِ مَنْ أخذ بمجامع هواه4، فاجعل التكلف له سُلَّما، وهُبَّ في روض أخلاقه هبوب النسيم، وحُلَّ بطرفه حلول الوَسَن5 وأنزل بقلبه نزول المسرة، حتى يتمكن لك ودادُه، ويخْلُص فيك اعتقاده، وطَهَّر من الوقوع فيه لسانَك، وأَغْلِقْ سمعك، ولا تُرَخِّص
1 يقال: درة يتيمة: أي لا نظير لها، وكل شيء مفرد يعز نظيره فهو يتيم.
2 نبابه منزله: إذا لم يوافقه.
3 طرأ عليهم كمنع: أتاهم من مكان، أو خرج عليهم منه فجأة.
4 الضمير فيه يعود على "قلبك".
5 الوسن: النعاس.
في جانبه لحسود لك منه، يريد إبعادك عنه لمنفعته، أو حسود له يغار لتجمُّله بصحبتك ومع هذا فلا تَغْتَرّ بطول صحبته، ولا تتمهَّد بدوام رَقدته، فقد ينِّبه الزمان، ويغَيِّر منه القلب واللسان، ولذا قيل:"إذا أحببت فأحْبِبْ هونًا ما، ففي الممكن أن ينقلب الصديق عدوا، والعدو صديقا" وإنما العاقل من جعل عقله معيارا، وكان كالمرآة يَلْقَى كل وجه بمثاله، وجعل نُصب ناظره قول أبي الطيب:
ولما صار ود الناس خِبًّا
…
جزيت على ابتسام بابتسام1
وفي أمثال العامة: "من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل"، فاحْتَذِ بأمثلة من جَرَّب، واستمع إلى ما خَلَّد الماضون بعد جَهْدهم وتَعَبهم من الأقوال، فإنها خلاصة عمرهم، وزُبْدَة تجاربهم، ولا تَتكل على عقلك، فإن النظر فيما تَعِب فيه الناس طول أعمارهم، وابتاعوه غاليا بتجاربهم، ويُرْبِحُك ويقع عليك رخيصًا، وإن رأيت من له مروءة وعقل وتجربة، فاستَفِدْ منه، ولا تضيع قوله ولا فعله، فإن فيما تلقاه تلقيحًا لعقلك، وحثًّا لك واهتداء.
وإياك أن تعمل بهذا البيت في كل موضع: والحُرُّ يُخْدَع بالكلام الطَّيِّب: فقد قال أحدهم: ما قيل أضرُّ من هذا البيت على أهل التجمل، وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه حتى تتدبره، فإن كان موافقًا لعقلك، مُصْلِحًا لحالك، فراعِ ذلك عندك: وإلا فانْبِذْه نَبْذَ النواة، فليس لكل أحد يُتَبَسَّم ولا كل شخص يُكَلَّم، ولا الجود مما يُعَمُّ به، ولا حسن الظن وطيب النفس مما يعامل به كل أحد، ولله دَرُّ القائل:
وما لي لا أُوفي البريَّة قِسْطَها
…
على قدر ما يُعْطِي وعقلي ميزان
وإياك أن تعطى من نفسك إلا بِقَدَر، فلا تعامل الدُّون بمعاملة الكفء، ولا
1 الحب: الخداع والخبث.
الكفء بمعاملة الأعلى، ولا تضيع عمرك فيمن يعاملك بالمطامع، ويُنِيبك على مصلحة حاضرة عاجلة، بغائبة آجلة، واسمع قول الأول:
وبِعْ آجلًا منك بالعاجل: وأَقْلِلْ من زيارة الناس ما استطعت، ولا تَجْفُهم بالجملة، ولكن يكون ذلك بحيث لا يَلْحَق منه مَلَل ولا ضَجَر ولا جَفَاء، ولا تقل أيضا: أقْْْعُدُ في كسر بيتي، ولا أرى أحدًا، وأستريح من الناس، فإن ذلك كسل داعٍ إلى الذلِّ والمهانة، وإذا علم عدوٌ لك أو صديق منك ذلك، عاملاك بحسبه، فازدراك الصديق، وجَسَرَ عليك العدو، وإيَّاك أن يَغُرّك صاحب عن أن تَدَّخر غيره للزمان، وتطيعه في عداوة سواه، ففي الممكن أن يتغير عليك، فتطلب إعانة غيره، أو استغناء عنه، لا تجد ذخيرة قَدَّمْتها، وكان هو في أوسع حال، وأعلى رَأْي، بما دَبَّره بحيلته في انقطاعك عن غيره، فلو اتفق لك أن تصحب من كل صناعة ورياسة، مَنْ يكون لك عُدَّة، لكان ذلك أولى وأصوب، وسَلْنِي فإني خبير، طال -والله- ما صحبت الشخص أكثَرَ عمري، لا أعتمد على سواه، ولا أعتدّ إلا إياه، مُنْخَدِعًا بسرابه، مَوْثُوقا في حبائل خِطابه، إلى أن لا يحصل لي منه غير العَضّ على البَنَان، وقول: لو كان ولو كان! ولا يحملنَّك أيضا هذا القول أن تظنه في كل أحد، وتعجِّل المكافأة، وليكن حسن الظن بمقدار ما، والفَطِن لا تخفى عليه مَخَابِل الأحوال، وفي الوجوه دلالات وعلامات، واَصْغِ إلى القائل:
ليس ذا وجه من يضيف ولا يقـ
…
ـري ولا يدفع الأذى عن حريم1
فمن يكن له وجه مثل هذا الوجه فَوَلِّ وجهك عنه قبله ترضاها، ولتحرص جهدك على أن لا تصحب أو تخدم إلا رب حِشْمَة ونعمة، ومن نشأ في رفاهية ومروءة، فإنك تنام معه في مِهاد العافية، وإن الجياد على أعْرَاقها2 تجري، وأهل الأحساب
1 ضافه يضيفه: نزل به ضيفًا، وقرى الضيف كرمي: أحسن إليه.
2 الأعراق: جمع عرق بالكسر وهو الأصل.
والمروءات يتركون منافعهم متى كانت عليهم فيها وَصْمَة، وقد قيل في مجلس عبد الملك بن مَرْوان: أَشْرِب مصعب الخمر؟ فقال عبد الملك -وهو عدو له محارب له على الملك: لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه؛ والفضل ما شهدت به الأعداء.
يا بني، وقد علمت أن الدنيا دار مفارقة وتغيّر، وقد قيل:"اصحب مَنْ شئت فإنك مفارقه" فمتى فارقت أحدًا فعلى حُسْنَي في القول والفعل، فإنك لا تدري: هل أنت راجع إليه؟ فلذلك قال الأوَّل:
"ولما مضى سَلْمٌ بكيت على سَلْم، وإياك والبيت السائر:
وكنت إذا حللت بدار قوم
…
رحلت بِخِزْيَةٍ وتَرَكْتَ عارا
واحرص على ما جمع قول القائل: "ثلاثة تبقى لك الودَّ في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسّع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه"، واحذر كل ما بيَّنه لك القائل:"كل ما تغرسه تجنيه إلا ابن آدم، فإنك إذا غرسته يَقْلَعُك" وقول الآخر: "ابن آدم يتمَسْكَنُ حتى يتمكَّن"، وقول الآخر:"ابن آدم ذئب مع الضعف، وأسد مع القوة".
وإياك أن تثبت على صُحْبة أحد قبل أن تُطِيل اختباره، فيحكيَ أن ابن المقفع خطب من الخليل صُحْبَتَه، فجاوبه:"إن الصحبة رِقّ، ولا أضع رِقِّي في يدك حتى أَعْرِف كيف مَلَكَتُك1"، واستمْلِ2 من عين مَنْ تعاشره، وتفقَّد في فَلَتَات الألسن وصفحات الأوجه، ولا يحملك الحياء على السكوت عما يضرك أن لا تبيِّنه، فإن الكلام سلاح السلم، وبالأنين يعرف ألم الجرح، واجعل لكل أمر أخذت فيه غاية تجعلها نهاية لك.
1 ملكه ملكة بالتحريك: وملكا مثلث الميم: ومملكة مثلث اللام: احتواء قادرا على الاستبداد به.
2 من استمليته الكتاب: سألته أن يمليه علي، والمعنى: استرشد وتبين من نظرات عينه أحبيب لك هو أم عدو.
وآكد ما أوصيك به أن تَطْرَح الأفكار، وتُسَلِّم للأقدار.
واقبل من الدهر ما أتاك به
…
من قرَّ عينا بعيشه نفعه
إذ الأفكار تجلب الهموم، وتضاعف الغموم، وملازمة القُطوب، عُنوان المصائب والخُطوب، ويستريب به الصاحب، ويشمت العدو المُجَانِب، ولا تضرّ بالوساوس إلا نفسك، لأنك تنصر بها الدهر عليك، ولله دَرُّ القائل:
إذا ما كنت للأحزان عونا
…
عليك مع الزمان فَمَنْ تلوم
مع أنه لا يرد عليك الفائِتَ الحَزَن، ولا يرعوى بطول عتبك الزمن، ولقد شاهدت بغرناطة شخصا قد أَلِفَتْه الهموم، وعشقته الغموم، من صغره إلى كبره، ولا تراه أبدا خليًّا من فكره، حتى لُقِّب بصدر الهم، ومن أعجب ما رأيته منه أنه يتنكَّد في الشدة، ولا يتعلل بأن يكون بعدها فرج، ويتنكَّد في الرخاء خوفا من أن لا يدوم.
وينشد: توقَّع زوالا إذا قيل تَمَّ، وينشد: وعند التناهي يَقْصُر المتطاول.
وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب، ومثل هذا عمره مخسور يمرّ ضياعا.
ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذُمُّون من العلم ما تُحْسِنُه حسدا لك، وقصدًا لتصغير قدرك عندك، وتزهيدا لك فيه، فلا يَحْمِلك ذلك على أن تزهد في علمك، وتركن إلى العلم الذي مدحوه، فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحَجَلَة1 فرام أن يتعلمه فصَعُب عليه، ثم أراد أن يرجع إلى مشية فَنَسِيَه، فبقى مُخَبَّل المشي، كما قيل:
إن الغراب "وكان يمشي مِشْيَةً
…
فيما مضى من سالف الأجيال"2
حسد القَطَا، وأراد يمشي مشيها
…
فأصابه ضرب من العُقَّال3
1 الحجل بالتحريك: طائر على قدر الحمام كالقطا أحمر المنقار والرجلين، والواحدة حجلة واسم جمعه حجل بكسر فسكون ففتح ولا نظير له سوى ظربى "ومفرده ظربان بفتح فكسر وهو دويبة منتنة الريح".
2 هذا البيت ليس مثبتا في الأصل، وقد أورده الدميري مع البهتين بعده في حياة الحيوان الكبرى 2:244.
3 العقال: داء في رجل الدابة إذا مشى ظلع ساعة ثم انبسط.
فَأَضَلَّ مشيته وأخطأ مشيها
…
فلذاك سمُّوه أبا مرقالِ1
ولا يُفْسِد خاطرك من جعل يذُمّ الزمان وأهله، ويقول:"ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل، ولا مكان يُرْتَاحُ فيه"، فإن الذين تراهم على هذه الصفة، أكثر ما يكونون ممن صَحِبه الحِرْمَان، واستحقت طلعته للهوان، وأبْرَمُوا2 على الناس بالسؤال فمقتوهم، وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها، فاستراحوا إلى الوقوع في الناس، وإقامة الأعذار لأنفسهم بقطع أسبابهم، وتعذير أمورهم، ولا تُزِل هذين البيتين من فكرك:
لِنْ إذا ما نِلْتَ عِزًّا
…
فأخو العز يلينُ
فإذا نابك دهر
…
فكما كنت تكون
وقول الآخر:
تِهْ وارتفع إن قيل أقتَرَ
…
وانخَفِضْ إن قيل أَثْرَى3
كالغصنِ يسفُل ما اكتسى
…
ثمرا، ويعلو ما تَعَرَّى
ولا قول الآخر:
الخير يبقى وإن طال الزمان به
…
والشر أخبث ما أوعيتَ من زادِ
واعتقد في الناس ما قاله القائل:
ومَنْ يَلْقَ خيرا يحمد الناس أمره
…
ومَنْ يَغْوِ لا يَعْدِمْ عَلَى الغَيِّ لَائِمًا
وقريب منه قول القائل:
بقدر الصُّعود يكون الهبوط
…
فإياك والرُّتَبَ العاليهْ
وكن في مكان إذا ما سَقَطْتَ
…
تقوم ورجلاك في عافِيهْ
وتَحَفَّظْ بما تضمنه قول الآخر:
1 من أرقلت الدابة: إذا أسرعت.
2 أورد الفعل لازما وهو متعد، جاء في كتب اللغة:"أبرمه فبرم كفرح وتبرم: أمله فمل".
3 أنثر: افتقر.