الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
289 -
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي عَامَ (1) حَجَّةِ الوَداع، مِنْ وَجَع اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ مَاَ تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُني إِلَّا ابْنَةٌ، أفأتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ:"لا"، قُلتُ: فَالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لا"، قُلْتُ: فالثُّلُثُ؟ قَالَ: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثير، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرثَتَكَ أَغْنِياءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهم عَالَةً تتكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللَّهِ، إِلَّا أُجرتَ عَلَيْها (2)، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي (3) امْرَأَتِك"، قَالَ: فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ فَقَالَ: "إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فتغمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حتَّى يَنْتفِعَ بِكَ أَقْوامٌ، ويُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأِصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِم، لَكِنِ (4)
(1) في "ت" زيادة: "في".
(2)
في "ت": "بها".
(3)
"في" ليس في "ز".
(4)
في "ت": "إلّا" مكان "لكن".
البَائِسُ سعدُ بْنُ خَوْلَة" يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ (1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (1233)، كتاب: الجنائز، باب: رثى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، واللفظ له، و (56)، كتاب: الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، و (2591)، كتاب: الوصايا، باب: أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، و (2593)، باب: الوصية بالثلث، و (3721)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم"، و (4147)، كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع، و (5039)، كتاب: النفقات، باب: فضل النفقة على الأهل، و (5335)، كتاب: المرض، باب: وضع اليد على المريض، و (5344)، باب: ما رخص للمريض أن يقول: إني وجع، وارأساه! أو اشتد بي الوجع، و (6352)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث البنات.
ورواه مسلم (1628/ 5 - 9)، كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث، وأبو داود (2864) كتاب: الوصايا، باب: ما جاء فيما لا يجوز للموصي في ماله، والنسائي (3626 - 3623)، كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث، والترمذي (2116)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الوصية بالثلث، وابن ماجه (2708)، كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (4/ 84)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 271)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 268)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 363)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 542)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 76)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 9)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1223)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 260)، و"التوضيح" لابن الملقن (17/ 186)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 363)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 88)، =
* الكلام على الحديث من وجوه:
الأول: قوله: "جاءني رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يعودُني"، وفي رواية:"عادَني من وجعٍ أَشْفَيْتُ (1) منهُ على الموتِ"(2):
فيه: استحبابُ عيادةِ الإمامِ أصحابَه، وتفقدِ أحوالِهم؛ كما هو مستحبٌّ لآحاد الناس (3).
الثاني: في "كتاب ابن الحربي": الوَجَعُ: اسمٌ لكل مرض. ومعنى أَشْفَيْتُ: قارَبْتُ، يقال: أَشْفَى على كذا، وأَشافَ عليه، قالوا: ولا يُقال أشفى إِلَّا في الشَّرِّ، بخلاف أَشْرَفَ، وقارَبَ، ونحوِ ذلك.
فيه: جوازُ ذكرِ المريضِ شدةَ الوجعِ (4) لا على سبيلِ السُّخْط، بل لمداواةٍ، أو دُعَاءٍ صالحٍ، أو وصيةٍ، أو استفتاءٍ عن حاله.
الثالث: قوله: "وأنا ذو مال" دليلٌ على (5) إِباحةِ جمعِ المال؛ إذ هذه (6) الصيغة لا تُطلق عرفًا (7) إلا على المال الكثير، ومثله؛ ذو علم،
= و"كشف اللثام" للسفاريني (5/ 165)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 104)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 148).
(1)
في "ت": "أشففت".
(2)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4147)، وعند مسلم برقم (5/ 1628).
(3)
"لآحاد الناس" ليس في "ز".
(4)
في "ز" و"ت": "وجعه".
(5)
في "ت" زيادة: "أنَّ".
(6)
"إذ هذه" ساقط من "ت".
(7)
في "ت": "عرفًا لا تطلق".
وذو شجاعة، وما أشبَه ذلك، وقد جاء ذلك مبينًا في رواية أخرى: إِن لي مالًا كثيرًا.
الرابع: قوله: "ولا يرثُني إلا ابنةٌ":
ع: أي: لا يرثُني من الولد مَنْ (1) يعزُّ عليَّ تركُه عَالةً، وإلا، فقد كان له ورثةٌ وعَصَبَة.
وقيل: يحتمل أنه أراد: لا يرثني ممن له نصيبٌ معلوم.
وقد يحتمل أنه لا يرثُني من النساء إلا ابنةٌ (2) لي.
وقيل: يحتمل أنه استكثر لها نصفَ تركته، أو ظنَّ أنها تنفردُ بجميع المال، أو على عادة العرب من أنها لا تعدّ المالَ للنساء، إنما كانت تَعُدُّه للرجال (3).
قلت: وفي هذه الأقوال كلِّها عندي نظر، بل (4) ضعفٌ، والذي يتوجَّه، بل يتعيَّنُ (5): أَنَّ هذا الحديث فيه عَلَمٌ من أعلام النبوة، ومعجزةٌ من معجزاته صلى الله عليه وسلم، كان سعدًا رضي الله عنه حين محاورته (6) للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يكن له حينئذ إلا ابنةٌ واحدة، وإنما قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرثَتَكَ أَغْنِيَاءَ"
(1) في "ز": "ممن".
(2)
في "ت": "بنت".
(3)
انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 363).
(4)
في "ز": "تطويل".
(5)
في "ت": "لك متعين".
(6)
في "ت": "مجاوبته".
بلفظ الجمع؛ اطلاعًا منه عليه الصلاة والسلام على أنه سيكون لى في المستقبل أولادٌ، غير هذه الابنة، وكان كما قيل (1) صلى الله عليه وسلم، قيل: إنه وُلد له بعد ذلك أربعةُ بنين، (2) لم يحضرني الآن أسماؤهم (3)، ولعل اللَّه يفتَحُ بمعرفتهم، فأَلحقهم في هذا الموضع (4)، وهذا كقوله (5) عليه الصلاة والسلام له (6):"حتى ينتفعَ بكَ أقوامٌ، ويُضَرّ بك آخرون"، فكان (7) كما قال على ما سيأتي.
الخامس: قوله: أفأَتَصَدَّقُ (8) بثلثي مالي إلى قوله: "والثلث (9) كثير": الرواية المشهورة: كثير -بالمثلثة- ووقع في رواية: بالموحَّدة،
(1)"وكان كما قال" ليس في "خ".
(2)
في "ز" زيادة: "و".
(3)
في "ت": "معرفة أسمائهم".
(4)
"الموضع، وهذا كقوله" ليس في "خ".
(5)
ابنة سعد هذه تسمى عائشة، ولم يكن له يومئذ غيرها، ثم عوفي من ذلك المرض، ورزق أولادًا منهم: محمد، وإبراهيم، وعامر، ومصعب، وإسحاق، وعمر، ويعقوب، ويحيى. وذكر من أولاده أيضًا: إسحاق الاكبر، وأم الحكم الكبرى، وحفصة، وأم القاسم، وكلثوم، وغيرهم. وكلهم تابعيون. وانظر:"كشف اللثام" للسفاريني (5/ 168 - 169).
(6)
"له" ليس في "ز" و"ت".
(7)
في "ت": "وكان".
(8)
في "ز": "فأتصدق".
(9)
قوله: "بثلثي مالي إلى قوله والثلث" ليس في "خ".
وكلاهما صحيح، ويجوز في (الثلث) الأول الرفعُ، على أنه فاعل (1) لفعل مقدر، أي: يكفيك الثلث، أو على أنه مبتدأ محذوفُ الخبر، أي: الثلثُ كاف، أو خبر، والمبتدأ محذوفٌ؛ أي: المشروعُ الثلثُ، ونحو ذلك من التقديرات، ويجوز النصبُ على الإغراء، أي: دونَك (2) الثُّلُثَ، أو على تقديرِ فعلٍ؛ أي: أخرجِ الثلثَ، أو أعطِ الثلثَ، ونحو ذلك.
ع: وبالوجهين ضبطنا هذا الحرفَ.
قال الإمام: جمهورُ العلماءِ على أن للمريضِ أن يوصي بثلثه، تعلُّقًا بهذا الحديث، وذكرَ مسلمٌ عن ابنِ عباسٍ، قال:"لو أَنَّ الناسَ غَضُّوا من الثلُث إلى الربع؛ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "الثلثُ، والثلثُ كثيرٌ" (3).
قال الخطابي: وقد زعم بعضُ أهل العلم (4) أن الثلثَ إنما هو لمن ليس له وارثٌ يستوفي (5) تركتَه، وفي قوله:"والثلثُ كثيرٌ" دليلٌ على أنه لا يجوزُ له مجاوزتُه، ولا يوصي بأكثرَ من الثلث، سواء كان له ورثةٌ، أو لم يكن، وقد زعم قوم أنه إذا لم يكن له ورثةٌ، وضع جميعَ
(1) قوله: "لفعل مقدر أي: يكفيك" ليس في "خ".
(2)
في "ت": "يرثك".
(3)
سيأتي تخريجه في الحديث الثالث من هذا الباب. وانظر: "المعلم" للمازري (2/ 352)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 363).
(4)
في "ت": "قوم" مكان "بعض أهل العلم".
(5)
في "ز": "ليستوفي".
ماله حيثُ (1) شاء، وإليه ذهب إسحاقُ بنُ راهويْه، وقد روي ذلك عن ابن مسعود.
وقد اختلف أهلُ العلم في جواز الوصية بالثلث، فذهب بعضُهم إلى أن في قوله عليه الصلاة والسلام:"والثلثُ كثير" منعًا من الوصية بالثلث (2)، فإن الواجبَ أن يقتصر عليه (3)، وأن لا يبلغَ بوصيته تمامَ الثلث، وروي عن ابن عباس أنه قال: الثلثُ حَيْف، والربعُ جَيْف" (4).
وعن الحسنِ البصري: أنه قال: يوصي بالسُّدُسِ، أو بالخُمُسِ، أو بالرُّبُعِ.
وقال إسحاق: السُّنَّة في الربع، لما قال (5) النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"والثلثُ كثيرٌ"، إلا أن يكون رجلٌ يعرف في ماله شُبُهات، فله استغراقُ الثلث.
وقال الشافعي: إذا ترك ورَثَتَه أغنياءَ، أَسْتَحِبُّ له أن يستوعبَ الثلُثَ، وإذا لم يَدَعهم أغنياءَ، اخترتُ له أن لا يستوعبه (6).
ورأيتُ في بعضِ الحواشي ما نصُّهُ: وفي "بغية الحكام": قال القاضي
(1) في "ت": "كيف".
(2)
"بالثلث" ليس في "خ".
(3)
في "ز": "عنه"، وفي "ت":"منه".
(4)
في "ز" و"ت": "حيف".
(5)
في "ت": "كان".
(6)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (4/ 101).
أبو الحسنُ (1) بنُ عبدِ اللَّه: وصيةُ المريضِ (2) على خمسةِ أقسام:
واجبة، ومستحبة، ومباحة، ومكروهة، وممنوعة.
فإن (3) كانت تباعات للَّه تعالى؛ من زكاة، أو كفارةِ يمينٍ، وما أشبة ذلك، مما فَرَّطَ فيه، أو لم يُفَرِّطْ، أو لآدميٍّ، من بيع، أو (4) قرضٍ، أو وَدِيعةٍ، لم يقدم فيها الإشهاد بها (5)، كانت واجبةً؛ لأن تركَ الإشهاد (6) يؤدِّي إلى تلفِ ذلك على أربابه. وإنما رَضُوا بتركِ الإشهادِ مع صِحَّةِ رجاءِ السَّلامة، وما سوى هذا القِسْم، فهو راجعٌ إلى ما يتطوع به الموصي.
وإن كانت الوصيةُ تتعلق بها قربةٌ (7) للَّه تعالى، ولا تُضِرُّ (8) بالورثة؛ إذ (9) يضر (10) بهم لقلة المال، وكان ما يُرجى فيها (11) من الأجر أعظمَ من التركِ للورثة، كانت مستحبةً.
(1) في "ت": "أبو الحسن".
(2)
في "ز": "الرجل".
(3)
في "ت": "فإذا".
(4)
في "ز": "و".
(5)
في "ت": "إلَّا شهادتها".
(6)
في "ت": "الشهادة".
(7)
في "ت": "إلى اللَّه".
(8)
في "ت": "ولا يضر".
(9)
في "ز" و"ت": "أو" بدل "إذ".
(10)
في "ت": "تضر".
(11)
في"ت": "فيه".
وإن (1) كان ما يرجى من الترك أعظمَ أجرًا، كانت مكروهةً.
وإن تقاربا، كانت مباحةً.
وإن كان يتعلق بها معصية (2)، كانت ممنوعةً.
ع (3): أجمع العلماء على أن مَنْ مات وله ورثةٌ، فليس له أن يوصيَ بجميع مالِه، إلا شيئًا روي عن بعض السلف أجمعَ الناسُ بعدُ على خلافه، وجمهورُهم: على أنه لا يوصي بجميع ماله، كان لم يكن له (4) وارثٌ.
وذهب أبو حنيفة، وإسحاقُ، وأحمدُ في أحد قوليه: لإجازة ذلك، وروي عن بعض سلف (5) الكوفيين، وعن علي، وابن مسعود.
قال: وظاهر قوله: "أفأتصدقُ بثلثَي مالي" يحتمل (6) تثليثه في مرضه (7)، أو الوصية به بعد موته، وهما (8) عند عامة فقهاء الأمصار سواء، لا يجوز من ذلك إلا الثلث، قبض، أم لا.
وشذَّ أهلُ الظاهر، فأجازوا فعلَ المريض كلَّه في ماله، وجعلوه
(1) في "ت": "فإن".
(2)
في "ت": "بمعصية".
(3)
"ع" ليس في "ز".
(4)
"له" ليس في "ز".
(5)
"سلف" ليس في "ت".
(6)
"تثليثه" ليس في "خ".
(7)
في "ت": "موضعه".
(8)
في "ت": "وهذا".
كالصحيح (1)، وحديث مبتل ستة الأَعْبُد في مرضه (2)، وردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرَهم إلى الثلث حجةٌ للكافة (3)، مع عموم ظاهر حديث سعد، واحتماله الوجهين.
وأجمعوا على جواز الوصية بأكثرَ من الثلث إذا أجازَ ذلكَ الورثةُ، ومنعَ ذلك أهلُ الظاهر، وإن أجازوها.
وفي الحديث (4): أن صِلَةَ مَنْ قَرُبَ، أفضلُ من [صِلَةِ] من (5) بَعُد.
واستدلَّ بهذا الحديث مَنْ يُفَضّلُ الغِنَى؛ إذ جعلَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم خيرًا للورثة، أو للموصي، ولو كان بخلافِ ذلك، لكان شَرًّا لهم (6).
قلت: هذا غيرُ مُسَلَّم؛ لأن (خيرًا) هنا أفعلُ مِنْ (7)، وهي (8) تقتضي المشاركَة والتفضيلَ في الأمر العامِّ، فلا يلزمُ من نفي الأخيرية نفيُ الخيريّة، فلا يقال: ولو كان بخلاف (9) ذلك، لكان شرًا لهم؛ لما تقرر.
السادسُ: قوله عليه الصلاة والسلام: "إنك أَنْ تذرَ وَرَثَتَكَ أغنياءَ خيرٌ مِنْ أَنْ تذَرَهُم عالةً يتكَفَّفون النَّاسَ".
(1) في "ت": "كالصحة".
(2)
في "ت": "موضعه"، وفي المطبوع من "الإكمال":"وبتل السنة إلا عبد".
(3)
في "ت": "للكتابة".
(4)
في "ز" زيادة: "بيان".
(5)
"من" ليست في "خ".
(6)
انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 364).
(7)
في "ز" زيادة: "التفضيل".
(8)
في "ز": "وهو".
(9)
"بخلاف" ليس في "ز".
ع (1): رويناه بفتح الهمزة، وكسرها، وكلاهما صحيح، فالفتحُ (2) على تقدير: إنك وتركَكَ (3) ورثتكَ أغنياء، والكسرُ على الشرط (4).
قلت: الكسْرُ هنا ضعيفٌ، أو باطل؛ إذ لا جوابَ له في الحديث؛ لأن (خير) لا يصحُّ أن يكون جوابًا للشرط؛ لأن جوابَ الشرط حَصَرَه النحاةُ في ثلاثة أشياء، وهي: الفعل، والفاء، وإذا، و (خيرٌ) ليس واحدًا منها، إلا أن يُحمل على وجه بعد مستنكر (5) يتحاشى عنه الحديثُ، وهو أن يكون قدر حذف الفاء الجوابية مع المبتدأ، أو جعل (خير) خبرًا للمبتدأ المحذوف، ويكون التقدير: إنك إِن تذز ورثتك أغنياءَ، فهو خيرٌ من أن تذرَهم عالةً، وعلى هذا قول (6) الشاعر:[الكامل]
أأُبَيُّ لَا تَبْعَد وَلَيْسَ (7) بِخَالِدٍ
…
حَيٌّ وَمَنْ تُصِبِ الْمَنُونُ بَعِيدُ
أي: فهو بعيدٌ، وهذا بابُه الشعر دون الكلام، فلا يليق حملُ الحديث عليه، واللَّه الموفق.
و"العالةُ": الفقراء، والفعلُ منه عَالَ يَعِيلُ: إذا افتقرَ (8).
(1)"ع" ليس في "ز".
(2)
في "ز": "والفتح".
(3)
في "ت": "وتركتك".
(4)
المرجع السابق، (5/ 365).
(5)
"مستنكر" ليس في "ح" و"ز".
(6)
في "ت": "قال".
(7)
في "ت": "فليس".
(8)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 330).
ومعنى "يتكففون الناس": يسألون الصدقةَ بأكُفِّهم، وهو من الألفاظ الوَجيزةِ الجزلةِ (1).
السَّابع: قوله عليه الصلاة والسلام: "إنكَ لَنْ تنفقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ اللَّه، إلَّا أُجرتَ عليها، حتى ما تجعلُ في في (2) امرأتِك".
فيه: دليلٌ على توقُّف ثواب (3) الإنفاق على صحة القصد، وأن الأعمال بالنيات، فحديثه عليه الصلاة والسلام يصدِّقُ بعضُه بعضًا.
وفيه: أن المباحَ إذا قُصد به الخيرُ، أُثيب عليه، وانتقلَ عن كونه مباحًا؛ فإن زوجة الإنسان هي من أخصِّ حظوظِه الدنيوية، وشهواتِه، وملاذِّه المباحة، وإذا وضعَ اللقمة في فيها، فإنما يكون ذلك في العادة عندَ الملاعبة، والملاطفة، والتلذُّذِ بالمباح، فهذه الحالةُ أبعدُ الأشياء عن الطاعة، وأمورِ الآخرة، ومع هذا أخبرَ صلى الله عليه وسلم أنه إذا قصدَ بهذه اللقمة وجهَ اللَّه تعالى، حصلَ له الأجرُ بذلك، فغيرُ هذه الحالة أولى بحصولِ الأجر إذا أراد (4) به وجهَ اللَّه تعالى، كالأكلِ بِنِيَّةِ التَّقوِّي على العبادة، والنومِ للاستراحة ليقومَ نشيطًا للتهجُّد ودَرْسِ العلم، ونحوِ ذلك، والاستمتاعِ بزوجتِه، أو جاريته ليكفَّ نفسَه وبصرَه عن المحرَّمات،
(1) من قوله: "قلت: الكسر هنا ضعيف، أو باطل. . . " إلى هنا ليس في "ز".
(2)
"في" ليس في "ز".
(3)
"ثواب" ليس في "ز".
(4)
في "ت": "أريد".
وليقضيَ حقَّها، أو ليحصِّلَ ولدًا صالحًا، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ"(1).
الثامن: قوله: "قلتُ: يا رسولَ اللَّه! أُخَلَّف عن أصحابي؟ " إلى قوله: "ورفعةً"؛ أي: أُخلف بمكةَ بعدَ أصحابي؟ كأنه أشفقَ من موته بمكةَ بعدَ أن هاجرَ منها وتركَها للَّه تعالى، فخشي أن يقدحَ ذلك في هجرته.
ويحتمل أن يكون خشيَ بقاءه بمكة بعدَ انصراف النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ إلى المدينة، وتخلفه عنهم (2) لأجل مرضِه، وكانوا يكرهون الرجوعَ فيما تركوه للَّه تعالى.
ويحتمل أن يكون سألَ عن طولِ عمره وبقائِه بعد أصحابه، وهو (3) الظاهرُ، وقد جاء في رواية مُبسنًا:"إِنَّكَ [لن] تُخَلَّفَ بعدِي"(4)، واللَّه أعلم.
وقوله: "إِنَّكَ لن (5) تخلَّفْ، فتعمَلَ عملًا" إلى آخره.
فيه: ما تقدَّم من اعتبارِ النيات في الأعمال.
(1) رواه مسلم (1006)، كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(2)
في "ت": "وتخلفهم عنه".
(3)
في "ت" زيادة: "من".
(4)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6352).
(5)
في "خ": "إن".
التاسع: قوله عليه الصلاة والسلام: "ولَعَلَّكَ (1) أن تخلَّفَ" إلى قوله: "على أعقابهم": قيل: إن هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوة، ومعجزةٌ من معجزاته عليه الصلاة والسلام، فإنه إخبارٌ وقعَ قطعًا، فإن سعدًا عاشَ بعد ذلك نيفًا على أربعين سَنةً، وفتح العراقَ (2) وغيرَهُ، وانتفع به أقوامٌ في دينهم ودنياهم، وتضرَّرَ به الكفار في دينهم ودنياهم، فإنهم قُتلوا إلى جهنم، وسُبِيَتْ نساؤهم وأولادُهم، وغُنِمَتْ أولادُهم وديارُهم وأموالُهم (3)، وانتفعَ به المسلمون، وولي العراقَ، فاهتدى على يديه خلائقُ، وتَضَرَّرَ به خلائقُ ممن استحقَّ الضرر.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "اللهمَّ أَمْضِ لأصحابي هجرتَهم، ولا تردَّهم على أعقابهم"؛ أي: أَتِمَّهَا لهم، ولا تُبْطِلْها، ولا تردَّهم على أعقابهم بتركِ هجرتهم، ورجوعِهم من مستقيمِ حالهم، فيخيبَ قصدُهم، ويسوءَ حالُهم.
تقول العرب: رَجَعَ فلانٌ على عَقِبه: إذا رجعَ خائِبًا.
العاشر: قوله عليه الصلاة والسلام: "لكنِ البائسُ سَعدُ بنُ خولة": قيل: البائسُ: الذي عليه أثرُ البؤس.
واختلف في قوله: "يرثي له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، هل هو من كلامه
(1) في "ت": "فلعلك".
(2)
في "ت": "العراوة".
(3)
في "ت": "أموالهم وذراريهم".
-عليه الصلاة والسلام، أو من كلامِ غيره؟
ع: قالَ أهل الحديث: انتهى كلامُ النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لكنِ البائسُ سعدُ بنُ خولة"، ثم ذكر الحاكي هذا علةً لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيه هذا وسببه (1)، وأن ذلك رثاء له، وتوجُّع عليه لموته بمكةَ (2)، فقائلُ هذا الكلام هو سعدُ بن أبي وقاصٍ، وكذا جاء في بعض الطرق، وأكثرُ ما جاء: أنه من قولِ الزهريِّ.
ويحتمل أن يكون قولُه: "أن (3) ماتَ بمكةَ" من قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومن قولِ غيرِه: يرثي له رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقط تفسيرٌ لمعنى (4) قوله: "البائسُ"؛ إذ قد روي في حديث آخر: "لَكِنَّ سعدَ بْنَ خَوْلَةَ البَائِسَ قَدْ مَاتَ في الأَرْضِ الَّتِي قَدْ هَاجَرَ مِنها"(5)(6).
قال (7): واختُلف في قصة سعدِ بنِ خولةَ، فقيل:(8) لم يهاجرْ من
(1) في "خ" و"ت": "وشبهه"، والتصويب من "الإكمال".
(2)
من قوله: "الثامن: قوله: قلت: يا رسول اللَّه! أخلف عن أصحابي. . . " إلى هنا ليس في "ز".
(3)
"أن" ليس في "ت".
(4)
في "ت": "في" مكان "لمعنى".
(5)
من قوله: "فضائل هذا الكلام. . . " إلى هنا ليس في "ز".
(6)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 392).
(7)
"قال" ليس في "ز".
(8)
في "ت" زيادة: "إن".
مكة حتى ماتَ، ذكره ابنُ مزين (1) وقاله (2) عيسى بنُ دينار.
وذكرَ البخاريُّ أنه هاجرَ، وشهدَ بدرًا، ثم انصرفَ إلى مكةَ، وماتَ بها.
وقال ابنُ هشام: إنه هاجرَ إلى الحبشةِ الهجرةَ الثانيةَ، وشهدَ بدرًا وغيرَها، وتُوفي بمكة، في حجةِ الوداع سنةَ عشرٍ، وقيل: تُوفي بها سنةَ سبعٍ في الهُدْنة، خرجَ مختارًا من المدينة إلى مكةَ.
فعلى هذا، وعلى قول عيسى: سببُ بؤسِه سقوطُ هجرته؛ لرجوعه مختارًا، وموتِه بها.
وعلى قول الآخرين: سببُ بؤسِه موتُه بمكةَ، على أيِّ حالٍ كان (3) كان لم يكنْ باختياره؛ لما فاته من الأجر والثوابِ الكامل بالموتِ في دار هجرته والغربةِ عن وطنه الذي هجرَهُ للَّه تعالى.
ع (4): وقد روي في هذا الحديث: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خَلَّفَ مع سعدِ ابنِ أبي وقاصٍ رجلًا، وقال له:"إِنْ تُوُفِّيَ (5) بِمَكَّةَ، فَلَا تَدْفِنْهُ بها"(6).
وقد ذكر مسلم في الرواية الأخرى: أنه كان يكره أن يموتَ في
(1) في "خ": "ابن مزيز" وفي "ت": "ابن حزين"، ووقع في مطبوعة "الإكمال":"ابن سيرين".
(2)
في "خ" و"ت": "وقال".
(3)
"كان" ليس في "خ".
(4)
"ع" ليست في "ز".
(5)
في "ت": "مات".
(6)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 146).
الأرضِ التي هاجرَ منها، وفي رواية أخرى لمسلم: قال سعد بن أبي وقاص: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها (1) كما مات سعدُ ابنُ خولة (2).
وسعدُ بنُ خولةَ (3) هذا زوجُ سُبيعةَ الأسلميَّةِ.
وفي حديث سَعْد: جوازُ تخصيصِ عمومِ الوصيةِ المذكورةِ في القرآن بالسُّنَّةِ، وهو قولُ جمهورِ أهلِ الأصول، وهو الصحيحُ، واللَّه أعلم (4)(5).
* * *
(1) قوله: "وفي رواية أخرى لمسلم قال سعد بن أبي وقاص: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها" ليس في "خ".
(2)
تقدم تخريج هاتين الروايتين عند مسلم برقم (1628).
(3)
"وسعد بن خولة" ليس في "ت".
(4)
من قوله: "وفي رواية أخرى لمسلم. . . " إلى هنا ليس في "ز".
(5)
انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 366).