الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمييز عن الفرد الذي هو الضمير المبهم، وفيه أنَّ الضمير قد تقدَّم مرجعه في البيت الذي قبله، وهو:
ألا أيُّها الليل الطَّويل ألا انجلي
…
بصبح وما الإصباح منك بأفضل
فالتمييز فيه عن النسبة لا عن المفرد، و"من" قيل لبيان الجنس، وقال أبو حيان في "الارتشاف": لتبعيض، وقيل: زائدة في الكلام الموجب، ولهذا يعطف على موضع مجرورها بالنصب، كقول الحطيئة:
يا حسنة من قوامٍ مّا ومنتقبًا
قاله المرادي. وقوله: بكل الباء متعلقة بشدت، بالبناء للمفعول، والمغار: اسم مفعول من أغرت الحبل إغارةً: إذا أحكمت فتله، ويذبل: اسم جبل لا ينصرف للعلمية ووزن الفعل، وصرف هنا للضرورة. يقول: إنَّ نجوم الليل لا تفارق محالها، فكأنها مربوطة بكل حبل محكم الفتل في هذا الجبل؛ وإنما استطال الليل لمقاساة الأحزان فيه. وقوله: ألا أيها الليل انجل: أمر بمعنى انكشف، والياء نشأت من إشباع الكسرة، والإصباح: الصباح، والأمثل: الأفضل، وقد أورد البيت في "التلخيص" على أنَّ صيغة الأمر فيه للتمني، تمنى زوال ظلام الليل بضياء الصبح، ثمَّ قال: وليس الصباح بأفضل منك عندي؛ لاستوائكما في مقاساة الهموم أو لأن يظلم في عينه لتوارد الهموم، فليس الغرض طلب انجلاء من الليل، لأنه لا يقدر عليه، وإنما تمناه تخلصًا مما يعرض له فيه، ولاستطالته ليلته، كأنه لا يرتقب انجلاءها ولا يتوقعه، فلهذا حمل على التمني دون الترجي، والبيتان من معلقة امرئ القيس، وتقدمت ترجمته في الإنشاد الرابع من أول الكتاب.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الخامس والخمسون بعد الثلاثمائة:
(355)
شبابٌ وشيبٌ وافتقارٌ وثروةٌ
…
فلله هذا الدَّهر كيف تردَّدا
على أن اللام في "لله" للتعجب، والبيت من قصيدة للأعشى ميمون بن قيس البكري، مدح بها النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يوفق للإسلام، قال جامع ديوانه ابن حبب: وقال الأعشى عند ظهور النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصيدة، وأقبل حتى دخل مكة، وقد سمع قراءة الكتب، فنزل على عتبة بن ربيعة، فسمع به أبو جهل فأتاه في فتيةٍ من قريش، وأهدى إليه هديةً ثمَّ سأله: ما جاء بك؟ قال: جئت إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لأني كنت سمعت الكتب؛ لأنظر ماذا يقول وما يدعو إليه. فقال له أبو جهل: إنه يحرم عليك الأطيبين: الخمر والزنا. فقال: لقد كبرت، وما لي في الزنا حاجة. قال: إنه يحرم الخمر، قال: فما أحل؟ فجعلوا يحدثونه أسوأ ما يكون من الكلام والفعل، ثمَّ قالوا: أنشدنا ما قلت فيه، فأنشدهم هذه القصيدة، فلما فرغ منها قالوا: لو أنشدته هذا لم يقبل منك، فلم يزالوا به حتى صدّوه، فخرج من فوره فأتى اليمامة، فمكث زمنًا يسيرًا فمات بها. انتهى.
وهذا الخبر لا يصح، فإن الأعشى كان قاصدًا المدينة المنورة؛ ليجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله في قصيدته:
فإنَّ لها في أهل يثرب موعدًا
وأبو جهل كان قد قتل في غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة، وأيضًا تحريم الخمر متأخر عن قتل أبي جهل، فكيف يخبر الأعشى بتحريمها!
وقال ابن هشام في "السيرة": خرج الأعشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الإسلام، ومدحه بهذه القصيدة، فلما كان بمكة أو قريبًا منها اعترضه بعض المشركين من قريش، فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم، فقال له: يا أبا بصير إنه يحرم الزنا! فقال الأعشى: والله إنَّ ذلك
لأمر ما لي فيه من أرب، فقال: فإنه يحرم الخمر! فقال الأعشى: أما هذه فو الله إن في النفس منها لعلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم، فانصرف فمات من عامه ذلك، ولم يعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى وقال السهيلي في (الروض الأنف): هذه غفلة من ابن هشام ومن قال بقوله، فإن الناس مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا بالمدينة بعد أن مضت بدر وأحد، وحرمت في سورة المائدة، وهي من آخر ما نزل، فإن صح خبر الأعثى وما ذكر له في الخمر، لم يكن هذا بمكة وإنما كان بالمدينة إن صح، ويكون القائل له: أما علمت أنه يحرم الخمر، من المنافقين أو من اليهود. وفي القصيدة ما يدل على هذا قوله: فإن لها في أهل يثرب موعدًا
وقد ألفيت للقالي رواية عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال: لقي الأعثى عامرًا بن الطفيل في بلاد قيس، وهو مقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر له أنه يحرم الخمر فرجع، فهذا أولى بالصواب. انتهى.
وقد وقع من هذه القصيدة شواهد في مواضع من هذا الكتاب في ليس، وفي ما، وفي مذ، وفي حرف الألف، وفي الباب الخامس، ونحن نوزع شرحها على هذه المواضع نشرح جملة أبيات منها مع شرح كل شاهد، فنقول أول القصيدة:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
…
وعادك ما عاد السَّليم مسهَّدا
وما ذاك من عشق النِّساء وإنما
…
تناسيت قبل اليوم خلَّة مهددا
ولكن أرى الدهر الذي هو خاتر
…
إذا أصلحت كفَّاي عاد فأفسدا
شباب وشيب وافتقار ونزوة
…
البيت
كذا في رواية ابن حبيب. قوله: ألم تغتمض عيناك .. الخ، يأتي شرحه إن شاء الله في الباب الخامس في الإنشاد الواحد والخمسين بعد الثمانمائة. وقوله: وما ذاك، الإشارة لما تقدم في البيت من التململ والسهر والقلق، وتناسيت بـ (تا) الخطاب،