الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: فقالت أكل النّاس، الهمزة للاستفهام التقريري، وكلّ مفعول أوّل لمانح، وفيه تقديم مفعول معمول أصبح عليه، لأنَّ مانحًا خبر أصبح، والمنح: الإعطاء، ييتعدى لمفعولين ثانيهما لسانك، ومنح اللسان: التلطف والتودد، وغرّه: خدعه، والتقدير: تغرهم وتخدعهم، تقول: أهكذا تمنح لسانك جميع النّاس لتغرهم وتخدعهم كما خدعتني. وترجمة جميل بن معمر تقدمت في الإنشاد الثالث والثلاثين.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الرّابع بعد الثلاثمائة:
(304)
وأوقدت ناري كي ليبصر ضوؤها
…
وأخرجت كلبي وهو في البيت داخله
على أنَّ فيه ردًّا على الكوفيين في زعمهم أنَّ كي ناصبة دائمًا، فإنها لو كانت ناصبة لما جاز الفصل بينها وبين الفعل باللَّام، وإنَّما هي هنا بمعنى اللّام، وسهّل ذلك اختلاف اللفظين، والنصب، وإنما هو بأن المضمرة بعد اللّام، ومثله بيت الطِّرمّاح:
كادوا بنصر تميمٍ كي لتلحقهم
…
فيهم فقد بلغوا الأمر الّذي كادوا
قال ناظر الجيش: لا محيص في كلّ من هذين البيتين عن أحد أمرين: إمّا الحكم بأنّ كي مصدرية، وأن لام الجرّ أتي بها مؤخرة عنها، وإما الحكم بأنها جارّة، واللام بعدها مؤكدة، قالوا: والحكم بالأمر الثاني متعين؛ لأن توكيد حرف بمثله ثابت، وتأخير حرف الجرّ الذي هو اللّام عن الحرف المصدري غير ثابت، فنعين كون كي إذا وجدت قبل اللّام جارّة. انتهى.
وقال أبو حيّان في "شرح التسهيل": قال أبو علي في "التذكرة" في قول ابن قيس الرّقيّات:
ليتني ألقى رقيَّة في
…
خلوة من غير ما أنس
كي لتقضيني رقيَّة ما
…
وعدتني غير مختلس
إنّ كي هنا بمعنى أن، ولا تكون الجارة؛ لأنّ حرف الجرّ لا يعلق، وهذا غير مرضي من أبي عليّ؛ لأن حرف الجرّ هنا لا يُعلّق بل هو باقٍ على عمله، وإنما كرّر توكيدًا لقول الآخر:
ولا للما بهم أبدًا دواء
هذا والبيت ليس لحاتم، وإنما هو من قصيدة للنميري وأورد منها أبو تمام في باب الأضياف من "الحماسة" اثني عشر بيتًا على رواية أخرى وهي:
فأبرزت ناري ثمَّ أثقبت ضوءها
…
وأخرجت كلبي وهو في البيت داخله
وعليه لا شاهد. وهذا ما أورده أبو تمام:
وداع دعا بعد الهدوِّ كأنما
…
يقاتل أهوال السُّرى وتقاتله
دعا بائسًا شبه الجنون وما به
…
جنونٌ ولكن كيد أمرٍ يحاوله
فلمّا سمعت الصَّوت ناديت نحوه
…
بصوت كريم الجدِّ حلوٍ شمائله
فأبرزت ناري ثمَّ أثقبت ضوءها
…
وأخرجت كلبي وهو في البيت داخله
فلمّا رآني كبر الله وحده
…
وبشَّر قلبًا كان جمًّا بلا بله
فقلت له أهلًا وسهلًا ومرحبًا
…
رشدت ولم أقعد إليه أسائله
وقمت إلى برك هجان أعدُّه
…
لوجة حقٍّ نازل أنا فاعله
بأبيض خطَّت نعله حيث أدركت
…
من الأرض لم تخطل عليَّ حمائله
فجال قليلًا واتَّقاني بخيره
…
سنامًا وأملاه من النَّبيِّ كاهله
بقرمٍ هجان مصعبٍ كان فحلها
…
طويل القرى لم يعد أن شقَّ بازله
فخرّ وظيف القرم في نصف ساقه
…
وذاك عقالٌ لا ينشَّط عاقله
بذلك أوصاني أبي وبمثله
…
كذلك أوصاه قديمًا أوائله
قوله: بعد الهدوّ: وهو السّكون، يقول: بعدما هدأت أصوات النّاس بالنوم، وقوله: دعا بائسًا، حال من ضمير دعا، أي: وهو ذو بؤس وشدّة من الجوع والعطش، وإنما دعا شبه الجنون لتسمعه الكلاب فتنبحه ليستدل بأصواتها على الحيّ، وهكذا حال المسافر المنقطع إذا أظلم عليه اللّيل. قال التبريزي: أي دعا دعاء يشبه
الجنون، فهو صفة لمصدر محذوف، ثمَّ قال: وما به جنون، يكابد أمرًا يطلب الخلاص منه، وليس له طريق للخلاص إلَّا على ذلك الوجه، وأثقبت النَّار: أوقدتها حتى سطعت ولاحت، وإنما أخرج كلبه لينبحه فيستدل بنبحه إليه. وقوله: وهو في البيت داخله، قال ابن جنّي في "إعراب الحماسة": الظرف الذي هو في البيت خبر المبتدأ، وقوله: داخله بدل من الظرف، حتى كأنه قال: وهو داخل البيت، وليس بحسن أن يكون الظرف لغوًا؛ لأنه كان يكون متعلقًا بداخل، وداخل هذا قد تعدَّى في المعنى إلى الظرف؛ لأنَّ الهاء ضمير البيت. وهي في المعنى ظرف، ألا ترى أن أصله داخل فيه؟ ولا يجوز أن يعمل فعل واحد في ظرفين من جنس واحد. انتهى المراد منه.
والجمّ: الكثير، والبلابل: الأحزان. وقوله: وقمت إلى برك هجان .. الخ، البرك بفتح الموحدة: الإبل الباركة، وهو اسم جمع، ولهذا أعاد إليه الضير تارةً مذكرًا وتارة مؤنثًا. وناقة هجان، وإبل هجان أيضًا: بيض كرام، وأعدُّه: أهيئة. قال التبريزي: ووجبة الحقّ: وقوعه، والباء من أبيض متعلق بقمت. واللَّام متلّق بأعدّه، وجملة "أعده" صفة لبرك، كما أنّ جملة "أنا فاعله" صفة لحق. انتهى.
والأبيض: السيّف، وخطّت: أثّرت، والنّعل: حديدة في أسفل غمد السيّف، ولم تخطل: لم تضطرب، وحمالة السّيف: سيره ونجاده، يريد أنه لم يكن أطول منه وفاعل جال: ضمير البرك، وقليلًا، أي: جولانًا قليلًا، أو زمنًا قليلًا، واتقاني: استقبلني، والتي: السِّمن، مصدر نوت الناقة، أي: سمنت. والكاهل: مقدم السنام.
قال ابن جني: الهاء في خيره وأملاه ضمير البرك، وارتفع كاهله بـ "أملاه"، وعملت أفعل هذه في المظهر فرفعته، وهي في ذلك أمثل حالًا منها إذا اتصلت بها "من" في نحو "افعل منك" وذلك أنَّ "من تباعدها بما تكسبها من التخصيص من الفعل والإضافة
في كثير من هذه المواضع في تقدير الانفعال، ولذلك قلت: مررت برجلٍ ضارب أخيه زيدٌ، هذا هو الظّاهر، وإن شئت رفعت كاهله بمضمر دلَّ عليه أملاه، أي: امتلاء من التي كاهله، ولا يجوز أن ترفع أملاه بالابتداءوخبره كاهله، والجملة حال، لأنه يصير المعنى حينئذ أنه ضرب قرمًا أكثره شحمًا كاهله، وليس هذا الغرض، وإنما الغرض تفضيله على سائر البرك، لا يفضّل كاهله على سائر جسمه.
وقوله: بقوم بدل من خيره، غير أنه أعاد الجار. انتهى. والمصعب: الفحل الكريم الذي لا يبتذل في العوارض بل يُقصر على الفحلة، وقال الخليل: هو الذي لم يركب قطّ، ولم يمسّه حبلٌ. وقوله: كان فحلها، اسم كان ضمير البرك، أي: كان هذا القرم فحل هذه البرك، والقرم من الإبل: الَّذي يكرم للفحلة، والقرَى، بفتح القاف والراء: الظهر، ولم يعد: لم يتجاوز أن شقّض، أي: خرج، والبازل: آخر ما ينبت من أسنان الإبل، يريد أنّه فتيّ.
وقوله: فحزّ وظيف القرم: الحزّ: القطع، والوظيف: ما بين الرسغ والسّاق، وقوله: وذاك عقال لا يُنشَّط عاقله، أي: لا يجعله أنشوطة، يقال: نشطت العقال: إذا شددته، وأنشطته: إذا حللته.
قال أبو تمام: هذا الشعر للنميري، وقيل: لرجل من باهلة. وقال السّيوطي: أخرجه ابن أبي الدنيا وابن عساكر مسندًا أبي حاتم الطّائي، لكن ليس في البيت شاهد، وهذا الشعر أشبه بشعر حاتم الطائي، والله أعلم. وتقدَّمت ترجمة حاتم في الإنشاد الثامن والتسعين.