الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويدل على تقدير هذا المضاف ما قله. وقال بعضهم: لا ضرورة إلى تقديره، لأنَّ كلَّا من الدخول وحومل موضع وسيعٍ يشتمل على منازل ومواضع، فأضيف "بين" إليها لاشتمالها على متعدد تقديرًا، وعليها تكون الفاء عاطفة، وتفيد ترتيب البكاء بين منازل هذه المواضع.
والسقط مثلث الأول: ما تساقط من الرّمل، واللَّوى: ما التوى من الرمل، وسقط اللّوى: حيث يسترقّ الرمل فيخرج منه إلى الجدد، وإنما وصف المنزل به؛ لأنهم كانوا لا ينزلون إلَّا في صلابة من الأرض، لتكون أثبت لأوتاد الأبنية والخيام، وأمكن لحر النُّؤي، وإنما يكون ذلك حيث يسترق الرمل وينقطع، والدخول: بفتح الدّال، وحومل قال أبو الحسن: بلدان بالشام، وأنشد هذا البيت، وقيل غير ذلك. وقد جمعنا، في شرح هذا البيت ما فيه من حسن وقبح، وبسطنا عليه القول بأكثر مما هنا في الشاهد السابع والثمانين بعد الثمانمائة من شواهد الرّضى.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد السّادس والستون بعد المائتين:
(266)
يا أحسن النَّاس ما قرنًا إلى قدمٍ
على أنَّ أصله: ما بين قرنٍ، قال العسكري: قال بعض البغداديين: أراد: قفا نبك ما بين الدّخول إلى حومل إلى توضح إلى المقراة، فالفاء في موضع إلى، فأضمر مع ما "بين" كقولك هو أحسن النّاس قرنًا فقدمًا ولم يضمر "بين" فأراد فابكيا هذا إلى ذا. انتهى. وإنما احتاج هذا القول إلى تقدير مضاف، كما قال المصنف، لأن بينًا لا تضاف إلى مفرد لفظًا ومعنى، إلَّا إن أوَّل بما يدل على المتعدد، وفيه ادعاء حذف "ما" وهو لا يجوز عند البصريين، سواء كانت "ما" موصولة، إذ لا يحذف الموصول وتبقى صلته، أم موصوفة، إذ شرط حذف الموصوف بالجملة أو الظرف
أن يكون بعضًا من مجرور بمن أو في، وكن الفاء بمعنى إلى لا يمنع من تسميتها بالعاطفة فإنَّ "أو" العاطفة تأتي بمعنى إلى، وبمعنى إلَّا، لم يمنع أحد تسميتها عاطفة، قال الفراء في "تفسيره" عند قوله تعالى:{مثلًا مّا بعوضةً} [البقرة/ 26]، وأما الوجه الثالث، وهو أحبها إليَّ: فأن تجعل المعنى على: إنَّ الله لا يستحي أن يضرب مثلًا ما بعوضة إلى ما فوقها، والعرب إذا ألقت "بين" من كلام تصلح "إلى" في آخره، نصبوا الحرفين المخفوضين اللّذين خفض أحدهما ببين والآخر بإلى، فيقولون: مطرنا ما زبالة فالثعلبية، وله عشرون ما ناقةً فجملًا، وهي أحسن الناس ما قرنًا فقدمًا، يراد به ما بين قرنها إلى قدمها، ويجوز أن تجعل القرن والقدم معرفة، فتقول: هي حسنة ما قرنها فقدمها.
فإذا لم تصلح "إلى" في آخر الكلام، لم يجز سقوط "بين" من ذلك أن تقول: داري ما بين الكوفة والمدينة، فلا يجوز أن تقول: داري ما الكوفة فالمدينة، لأنَّ إلى إنما تصلح إذا كان ما بين المدينة والكوفة كله من دارك كما كان المطر آخذًا ما بين زبالة إلى الثعلبية. قال الكسائي: سمعت أعرابيًا يقول، ورأى الهلال: الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك، يريد: ما بين إهلالك إلى سرارك، فجعلوا النَّصب الذي في "بين" فيما بعدها إذا سقطت، ليعلم أنَّ معنى بين يراد. وحكى الكسائي عن بعض العرب: الشنق ما خمسًا إلى خمس وعشرين، والشنق: ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل.
ولا تصلح الفاء مكان الواو فيما لم تصلح فيه "إلى" كقولك: دار فلان بين الحيرة فالكوفة؛ محالٌ، وجلست بين عبد الله فزيدٍ؛ محال، إلَّا أن يكون مقعدك آخذًا للفضاء الذي بينهما، وإنما امتنعت الفاء من الذي لا تصلح فيه "إلى"، لأن الفعل فيه لا يأتي فيتصل، و"إلى" تحتاج إلى اسمين يكون الفعل بينهما كطرفة عين، وصلحت الفاء في إلى لأنّك تقول: أخذ المطر أوله، فكذا [وكذا] إلى آخره. فلما كان الفعل كثيرًا شيئًا بعد شيء في المعنى، كان فيه تأويل من الجزاء. ومثله
أنهم قالوا: إن تأتني فأنت محسن، ومحال أن تقول: إن تأتني وأنت محسن، فرضوا بالفاء جوابًا في الجزاء، ولم تصلح الواو. انتهى كلام الفرّاء، وفيه فوائد، منها: قوله: هي حسنة ما قرنها فقدمها، وبه يرد على الدماميني في قوله: على ما قرنًا إلى قدم، كون أصله: ما بين قرن، دعوى لا دليل عليها، ويجوز أن تكون ما زائدة، وقرنًا تمييز، أو منصوب على نزع الخافض. انتهى. ولها ضابط سقوط "بين". وقال أبو حيان في "تذكرته": إذا أتيت ببين صلة لـ"ما" فقلت: أعجبني ما بينكما، فسقوطها جائز على ثلاثة معان: أن لا تنوي ما، وتقضي على "بين" بالرفع، ولفظها منصوب، ومنها أن ترفع بين بالفعل وتعطى حقّ الأسماء، ومنها أن تقرَّ على ما كانت عليه مع ما، وما بمنزلة المظهرة، فتضمر "ما" ولا تضمر الذي، وما شاكلت المحل بأنَّها تكون وقتًا ومحلًا، وكونها وقتًا في قولهم: لا أكلمك ما دام للزيت عاصر، وما موضوعة في موضع أبدًا، وانتصابها فيه كانتصاب: لا أكلمك القارظ العنزيّ. ومجيئها محلًا في قولهم: جلس ما بين الدارين، واستوى ما بين المنزلتين، وأقام ما بين المسجدين، فلما أتت ما محلًا، أي: ظرفًا ووقتًا، ضارعت المحل الذي بعدها، فكفى منها، واختصت "بين" بالنيابة عن ما، لأنَّ "ما" يكون شرطًا، وبين يشرط بها في قيلهم: بين ما أنصفني ظلمني، وبين ما اتصل بي قطعني، وأمَّا "الذي" فلا يعرف له ذلك، ولا تستعمل فيه. ولـ"ما" معنى ثالث هو الجزاء في أصل البنية، وإفرادها على لفظ الذي، وذلك قول العرب: مطرنا ما زبالة، فالثعلبية، فزرود، حكاه الكسائي عن العرب، ومعناه: مطرنا ما بين زبالة إلى الثعلبية، فنابت زبالة عن بين، وجعل نصب بين فيها، ونسقت الثعلبية فزرود عليها، ونصبت "ما" بمطرنا على أنَّ لفظها الذي، ولزمت الفاء مكان إلى، ولم يصلح مكانها واو، ولا ثم، ولا أو، ولا "لا" لأنها تحفظ تأويل الجزاء، وتجري في هذا الكلام مجراها في إن زرتني فأنت محسن، لا يجوز "وأنت" لأنه لا يواصل الشرط إلَّا بالفاء، إذ كانت تفعل ذلك في "ضربته فبكى" وأصل الكلام: إن اتصل المطر إلى
زبالة فالثعلبية فهو مطرنا، فذلك الذي نبغي، فتحولت ما إلى لفظ الذي وأصلها الشرط ولزمت الفاء مراقبة لذلك الأصل ونائبة عن إلى، وقالت العرب: أزورك أشغل ما كنت، فجعلوا "ما" في لفظ الذي، ولذلك أضافوا إليها "أشغل" وأصلها الشرط: ما كنت مشغولًا فإني أزورك فـ"ما" في "مطرنا ما زبالة فالثعلبية" قصتها كقصة ما ذكرنا، ولولا الشرط الذي بنيت المسألة عليه، لم يعطف واحد بالفاء على مخفوض "بين" إذ لا يقال فيما تعرّى من معنى الشرط: المال بين أبيك فأخيك. وحكى الكسائي والفرّاء عن العرب: هي أحسن النَّاس ما قرنًا فقدمًا، معناه: ما بين قرن إلى قدم، فلزمت الفاء لأنَّ "ما" شرط في الأصل ومحسنة ذلك حسن إلى في موضع الفاء، وانتصب ما في هذه المسألة على التفسير، وانتصب القرن بنصب بين المسقط، وعطف القدم على القرن. وقال الفراء: المعرفة بمنزلة النكرة في خلافة "بين" حين يقال: هي حسنة ما قرنها إلى قدمها، وقال الفراء: أنشدني أعرابي من بني سليم:
يا أحسن النَّاس ما قرنًا إلى قدمٍ
…
ولا حبال محبٍ واصلٍ تصل
معناه: ما بين قرن إلى قدم، و"ما" في ذا المعنى لا تسقط، فخطأ أن يقال: مطرنا زبالة فالثعلبية، لأنَّ ما وبين اسم واحد يدخل طرفاه فيه، و"ما" هي الحد بين الشيئين، دليل هذا أنَّ الذي يقول: له عليّ ما بين الألف إلى الألفين، يدل بـ"ما" على استبقاء ما بين الألف والألفين، ولو قال: جلست ما بين الدّارين، لم يكن جامعًا لكلّ ما بينهما فأتت الفاء لمذهب الشرط وإن لم يذكر حرف الشرط، كما لزمت الفاء مع "أما" فقيل: أما عبد الله فقائم، لأنَّ المعنى: مهما يكن من شيء فعبد الله قائم، وليست أما عاملة عمل الشرط. إلى هنا كلام أبي حيّان، والذي تركناه أكثر مما كتبناه، وجميعه فوائد جيدة، شكر الله سعيه.
وقوله: يا أحسن الناس ما قرنًا، القرن بفتح القاف: الخصلة من الشعر، وهذا المصراع هو المقدار الذي أنشده المصنف، وهذا القدر هو المشهور وقد أكمله الفراء