الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال أبو العبّاس المبرد: هذا مثلٌ يضرب للذي يسأل الهيّن فلا يعطي، فيسأل ما هو أصعب منه. والأبلق: الذكر، والعقوق: الحامل، وفي المثل:"طلب الأبلق العقوق" إذا طلب ما لا يمكن، كذا في "العباب" للصاغاني، وسويد بن أبي كاهل: مصغر أسود، واسمه غطيف- بالتصغير- ابن حارثة، وينتهي نسبه إلى أبي بكر بن وائل، ويكني أبا سعد، وفي ذلك يقول:
أنا أبو سعدٍ إذا اللَّيل دجا
وهو شاعر مقدم مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، عدَّه ابن سلَاّم الجمحي في الطبقة السادسة، وقرنه بعنترة العبسي، وعاش في الجاهلية دهرًا، وعمّر في الإسلام ستين سنة بعد الهجرة إلى زمن الحجاج كذا في "الإصابة" لابن حجر، وهو من المعمّرين، ولم يذكره أبو حاتم في كتاب "المعمّرين وقد ترجمناه بأكثر من هذا في الشاهد التاسع والثلاثين بعد الأريعمائة من شواهد الرّضي.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد السابع والسبعون بعد المائتين:
(277)
بطل كأنَّ ثيابه في سرحةٍ
…
يحذي نعال السِّبت ليس بتوأم
لما تقدَّم قبله، والبيت من معلقة عنترة العبسي، وقبله:
ومشكِّ سابغة هتكت فروجها
…
بالسِّيف عن حامي الحقيقة معلم
ربذٍ يداه بالقداح إذا شتا
…
هتَّاك غايات التِّجار ملوَّم
بطلٍ كأنَّ ثيابه في سرحةٍ
…
يحذي نعال السِّبت ليس بتوأم
فطعنته بالرُّمح ثمَّ علوته
…
بمهنَّدٍ صافي الحديدة مخذم
لمّا رآني قد نزلت أريده
…
أبدى نواجذه لغير تبسُّم
عهدي به مدَّ النَّهار كأنَّما
…
خضب البنان ورأسه بالعظلم
قوله: ومشك سابغة، بكسر الميم وفتح الشين المعجمة، قال الأعلم في "شرح الأشعار الستة": أراد: ربّ مشك درع سابغة، والمشك: التي شك بعضها في بعضٍ، والمشك: مسامير الدروع. والسابغة: الكاملة. وقال الخطيب التبريزي: مشك الدرع: حيث يجمع جيبها بسيرٍ، وكانت العرب تجعل سيرًا في جيب الدّرع يجمع جيبها، فإذا أراد أحد الفرار، جذب السَّير فقطعه، واتسع الجيب فألقاها عنه وهو يركض. وقيل الدرع التي شكَّ بعضها إلى بعض، وقيل: المشك: المسامير التي تكون في حلق الدِّرع، ومن جعل المشك الدرع يكون من إضافة الصفة إلى الموصوف، وتأويله عند البصريين: ومشك حديدة سابغة. وهتكت: جواب ربَّ، وكذلك على قول من جعله بمعنى السير والمسامير، لأنهما من الدرع فصير الإخبار عن الدرع، وهتكت فروجها، أي: شققتها وخرقتها، وفروجها: جيبها وكمّاها، واحدها فروج. وحامي الحقيقة، أي: يحمي ما يحق عليه أن يحميه، والمعلم: اسم فاعل من اعلم نفسه بعلامة، وهو الذي شهر نفسه بعلامة إدلالًا بشجاعته وإعلامًا بمكانه، وقال أبو جعفر: هو اسم مفعول، وكذلك "المسوّم" يقالان بالفتح، والسَّومة بالضمّ: العلامة، وقال الزوزني: المعلم بكسر اللَاّم: الذي أعلم نفسه بعلامة يعرف بها في الحرب، حتى تبرز له الأبطال، والمعلم بفتح اللَاّم، أي: الذي يشار إليه ويدل عليه بأنه فارس الكتبية، يقول: ربّ موضع انتظام درع واسعة شققت أوساطه بالسيف عن رجل حامٍ لما يجب عليه حفظه، شاهرٍ نفسه في حومة الحرب، يريد أنه هتك مثل هذه الدرع على مثل هذا الشجاع، فما الظّنّ بغيره!
وقوله: ربذٍ يداه بالجرّ: صفة لحامي الحقيقة، وكذا: هتّاك، والربذ، بفتح الرّاء المهملة وكسر الموحدة: السريع، قال أبو جعفر والخطيب: لم يقل ربذة يداه، لأنَّ اليد مؤنثة، ووجهه أنَّ قوله "يداه" بدل من الضمير المستتر في ربذ العائد إلى حامي الحقيقة، كما تقول: ضربت زيدًا يده، ومذهب الفراء في هذا أنه يجوز أن يذكر المؤنث في الشعر إذا لم يكن فيه علامة التأنيث. والقداح: سهام الميسر، جمع قدح، بكسر القاف فيهما، أي: هو حاذق بالقمار والميسر، خفيف اليد بضرب القداح، وهذا كان مدحًا عند العرب في الجاهلية، وقوله: إذا شتا، يريد: إذا اشتدَّ الزمان، وكان أشد الزمان عندهم زمان الشتاء، وكان لاييسر فيه إلَاّ أهل الجود والكرم. وقوله: هتَّاك غايات التجار، جمع تجرٍ، وتجر جمع تاجر، كما جمع صاحب على صحب، وصحب جمع على صحاب، وأراد بهم تجار الخمر، والغايات: علامات تكون للخمارين، ويقال: هو يهتك رايات تجار الخمر، لأنه لا يترك شيئًا من الخمر إلَاّ اشتراه، وإذا فني ما عندهم رفعوا علاماتهم، وقيل: المعنى انه يعطيهم ما يطلبون في السوم بها، والملوّم: الذي يكثر اللوم عليه في تبذير ماله.
وقوله: بطل كأنَّ ثيابه
…
الخ، بطل بالجرّ: صفة الحامي الحقيقة، ويجوز رفعه على تقدير: هو بطل، والبطل: الشجاع الذي تبطل عنده شجاعة غيره، والسرحة، بفتح السّين: واحدة السّرح، وهو الشجر العظيم العالي، يريد أنه طويل القامة كامل الجسم، فكأنَّ ثيابه على شجرة عالية، والعرب تمدح بالطول وتذم بالقصر، قال أثال بن عبدة بن الطويل.
ولمّا التقى الصَّفَّان واختلف القنا
…
نهالًا وأسباب المنايا نهالها
تبيَّن لي أنَّ القماءة ذلَّةٌ
…
وأنَّ أعزَّاء الرِّجال طوالها
وقال بعض بني العنبر:
فجاءت به عبل العظام كأنمَّا
…
عمامته بين الرِّجال لواء
أشمُّ طويل السَّاعدين كأنَّما
…
تناط إلى جذعٍ طويلٍ حمائله
وقوله: يحذي نعال السِّبت، يحذي: بالبناء للمفعول، ونائب الفاعل ضمير البطل، ونعال: مفعول ثانٍ له، أي: تجعل له النِّعال السِّبتية حذاء، بالكسر والمدّ، في "الصحاح": الحذاء: النَّعل، واحتذى: انتعل، وأحذيته نعلًا: إذا أعطيته نعلًا، والسِّبت بالكسر: الجلد المدبوغ بالقرظ ولم يتجرد من شعره، وقال أبو زيد: نعل سبتٌ، وهب من جلود البقر خاصة، وقال: السِّبت من جلود البقر خاصة مدبوغة، ولا يقال لغير جلود البقر سبت، يريد أنه من الملوك الَّذين يحتذون النَّعال السِّبتية الرقيقة الطيّبة الريح، وهم يمتدَّحون بجودة النِّعال، كما يمتدَّحون بجودة الملابس، قال النابغة:
رقاق النِّعال طيِّب حجزاتهم
…
يحيَّون بالريَّحان يوم السَّباسب
أراد أنهم ملوك لا يخصفون نعالهم، إنما يخصفها من يمشي، وأراد برقة النِّعال أنها ليست بمطبقة، والحجزة: الوسط، أراد أنهم يشدون أزرهم على عفة، والسباسب: يوم الشعانين، وهو عيد. وقال النجاشي:
لا يأكل الكلب السَّروق نعالنا
لأنَّ النعل إذا كانت غير مدبوغة، وظفر بها الكلب أكلها.
وقوله: ليس بتوأم، يريد أنه لم يزاحمه أخ في بطن أمّه فيكون ضعيف الخلقة، والتوأم كجعفر: الَّذي يكون مع آخر في بطن أمّه، فنفى عنه ذلك ووصفه بكمال الخلق وتمام القوة، وقد بالغ في وصفه بالشدَّة والقوَّة بامتداد قوته، وعظم أعضائه، وتمام غذائه عند إرضاعه إذ كان غير توأم. وقوله: بمهند، وهو السيف الهندي، وصافي الحديدة: مجلوّ صقيل، والمخذم، بكسر الميم وبمعجمتين: القاطع، من خذمه، أي: قطعه.
وقوله: لمَّا رآني قد نزلت
…
الخ، النواجذ، : آخر الأضراس، ومعنى أبدي نواجذه، أي: كلح غيظًا عليَّ، ويقال: بل كلح كراهة للطعن، وقيل: المعنى لمّا رآني قاصدًا له، كلح وكشر أسنانه، فصار كأنه متبسم. يقول: لما نزلت عن فرسي أريد قتله كشر عن أسنانه غير متبسم، أي: لفرط كلوحه من كراهية الموت تقلصت شفتاه أسنانه.
وقوله: عهدي به، أي: مشاهدتي له وقد خضب بدنه، فكأمه قد خضب بالعظلم- كزبرج- وهو شجر يتخذ منه الوسمة، وقيل؛ إنه الكتم، وإنما شبّه الدم به لما انعقد وضرب إلى السواد، ومدّ النهار: ارتفاعه، والبنان: الأصابع هنا مجازًا، وروى بدله:"اللبان" بفتح اللام، هو الصدر، يقول: رأيته طول النّهار وامتداده بعد قتلي إياه وجفوف الدم عليه، كأنَّ بنانه أوصده مخضوب بهذا النَّبت.
والمعلَّقة تسميها العرب المذهبة، بصيغة اسم المفعول، من الإذهاب أو التذهيب، وهما بمعنى التمويه والتطلية بالذهب، ومعنى المعلقة قد تقدَّم في الإنشاد الرابع من أوَّل الكتاب.
وعنترة العبسي قال ابن قتيبة في كتاب "الشعراء": هو ابن شداد بن عمرو بن
قراد، قال [ابن] الكلبي، شداد جده، غلب على اسم أبيه، وإنما هو عنترة بن عمرو بن شداد، قال غيره: شداد عمه، تكلفه بعد موت أبيه فنسب إليه، ويقال: إنَّ أباه ادَّعاه بعد الكبر، وذلك أنه كان لأمة سوداء يقال لها زبيبة، وكانت العرب في الجاهلية إذا كان لأحدهم ولد من أمة استبعده، وكان لعنترة إخوة من أمّه عبيد، وكان سبب ادّعاء أبي عنترة إيّاه أن بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من بني عبس، فأصابوا منهم، فتبعهم العبسيون فلحقهم، فقاتلوهم وفيهم عنترة، فقال له أبوه: كرَّ يا عنترة، فقال: العبد لا يحسن الكرّ إنما يحسن الحلاب والصرّ، قال: كرّ وأنت حرّ، فكرّ وهو يقول:
أنا الهجين عنترة
…
كلُّ امرئٍ يحمي حره
أسوده وأحمره
فقاتل يومئذٍ فأبلى، واستنقذ ما في أيدي القوم من الغنيمة، فادَّعاه أبوه بعد ذلك. وهو أحد أغربة العرب، وهم ثلاثة: عنترة، وأمّه سوداء، وخفاف ابن ندبة السُّلمي، والسُّليك بن السُّلكة السّعدي. وكان عنترة من أشدّ أهل زمانه وأجودهم من قومه، فذكر سواده وسواد أمّه وعيَّره بذلك، وأنه لا يقول الشعر، فكان أوَّل ما قال هذه المعلقة، وهي أجود شعره، وكانت العرب تسميها المذهبة، ويستحسن له فيها:
وخلا الذُّباب بها فليس ببارحٍ
…
غردًا كفعل الشَّارب المترنِّم
هزجًا يحكُّ ذراعه بذراعه
…
قدح المكبِّ على الزناد الأجذم